نافذة

خَلَدوا إلى النّوم فَخَلُدَ الوَطَن
إعداد: روني ألفا

راوَدَني حُلم. أنا وأبُ الجنديِّ الشّهيدِ نتبادَلُ أطرافَ الحَديثِ في حديقَة. مِن قلبِ وقائِعِ الحلمِ الغَريب راوَدَني شعورٌ بأنّ الوالِدَ المفجوع يوكِلُني التّعبيرَ عَن شعورِه. خَسِرَ ابنَه الجنديَّ وكلّفَني مِن أدغالِ مَنامي نقلَ وقائِعِ صمتِه مِن هذه الحَديقَة الخَلفيَّة. كانَ باستِطاعَتي أن أرَى حزنَه على شكلِ شَريطٍ مصوَّر.

قالَ لي: «يتجوَّلُ موتُ ابني في أزقَّةِ ذِكرياتِ رفاقِه. يذهَبونَ مرَقَّطينَ كلَّ يَومٍ إلى حَتفِهِم. يتحضّرونَ للعلَمِ الذي سيغطّي رحلَتَهم. أكتافُهُم متلاحِمَة. عيونُهُم تَرنو إلى الوَطَن المَوجوع».

يتابِعُ الوالِدُ المَفجوعُ في حُلُمي: «أتابِعُ بشيءٍ من الخَفَرِ والتهيُّبِ دورياتِ الجيشِ على الحدودِ في لبنان أو في الدّاخِل. أَهجُسُ بأي أبٍ وأيّ أُمٍّ يمكن أن يميتَهُ أو يميتَها موتُ البَنين. ليسَ هناكَ من نَهارٍ مشمسٍ أو غائِمٍ أو ماطِرٍ مناسِبٍ للاستِشهاد. كلُّ أيامِ الجيش معدَّةٌ سَلَفًا لهذا القربان. نحنُ الآباءُ والأمّهاتُ علينا أن نُتقِنَ مزاولَةَ كار الانتِظار. لا نملكُ أيَّ تَرَفٍ آخَر».

تسارَعَت ضَرباتُ قَلبي. ظننتُ مُحاوِري في الحَديقَة سيصمتُ ويشيحُ عَني ويَرحَلُ متأبِّطًا حزنَه. لكنّه لَم يَفعَل. أردَفَ قائِلًا بصوتٍ متهدِّج: «عندَما تلقّيتُ نبأَ استِشهادِ ابني ظننتُ أنّني في حُلم. تَمامًا كما حالتُكَ الآن».

ولا أغرَب. بَدا لي في حلمي هذا أنّي أصادِفُ أوَّلَ فرصَةٍ سانِحَة للخروجِ من حلمي. أبٌ مَكلومٌ يؤكِّدُ لي لأوَّل مرَّة في تاريخِ أحلامي أنّه بالإمكان الوجودُ داخِلَ الحلم والتيقّنُ أنّه غيرُ حَقيقي. كانَ بإمكاني الاستيقاظُ فَورًا والتمرّدُ عَلى المَنام. لَم أفعَل ذلك. تعاطَفتُ مَع كلامِ الأب.

تابَعَ وقال: «صدمَةٌ فَتَفخيمٌ فتَكريمٌ وتَعظيمٌ فبُحَيرَةُ دموعٍ فعَقدُ صَداقَةٍ متينَةٍ مَع الغِياب. بالصّمتِ والتنهّد واكَبَني موتُ ابني عَلى الجَبهَةِ ضدَّ الإرهاب. قليلًا وأستَعيدُ تدفّقَ الأيام المُجدِبَة في حَياتي الرّتيبَة. انتظرتُ أن يأتيني فَرَجُ الوَقت. فيهِ تلتَئِمُ أغلَبُ الجِراح. ضمّاداتُ الأصدِقاء والأقارِب وانحناءاتُ الناس يمنَةً ويسرَةً تردمُ قليلًا مِن جورَة الوَجَع. في داخِلي يا صَديقي غصّةٌ تعلّمتُ مع مرورِ الزّمَن أن أحجبَها عَن النّاس. أضِف قَليلًا من السّنوات على عمرِك ويصبِحُ الحِدادُ عَلى شَهيد الوَطَن عِبئًا على المجتمَع. يَجِب تجاوزُه وتَعَلُّم مِهنَة التبسّم مِن جَديد».

ما زِلتُ أغطُّ في حُلمي. كانَ بِمَقدورِ صَوتِ شِفارِ المكيِّف الغَليظ في غرفَتي أن يوقِظَني. تَكيُّفي مَع الحلم كانَ أعمقَ أثَرًا مِن المكيِّف. ربّما حدثَ أن تقلّبتُ قَليلًا تحتَ لحافٍ مجعلَكٍ بالتّعَب. المهمّ لَم أستَيقِظ. أنا ووالِدُ الشّهيد ما زِلنا معًا في حديقَة الأحلام.

«هَل تعلَم كَم كان عمرُ وَحيدي حين استُشهِد؟» تابَعَ الرّجل. لَم يعطِني وقتًا للتكهّن. «اثنان وعِشرون سنة». نظَرَ مَهيضُ الجَناح إلى السّماءِ لبرهَةٍ ثمَّ توجّه إليّ بنبرَةٍ سقراطيَّة: «اثنان وعشرونَ عامًا يا رَجُل. لا بأس. الجنديُّ يعرِفُ أنّه مِن المُمكن أن يصادِفَ الحصّادَ الأسوَد في أيِّ لَحظَةٍ في حياتِه. ليسَ هذا ما يقلقُني. كانَ بالإمكان أن أَفقِدَ ابني بحادِثِ مرورٍ أو بمرَضٍ مزمِن. بالطّبع موتُه في هذه الحالَة لَن يَكونَ أقلَّ إيلامًا مِن موتِه شَهيدًا. لكن هناك شيءٌ فَريدٌ في قَدَرِ الاستِشهاد. أن تشعُرَ بأنّ موتَ ابنِكَ ليسَ موتًا عاديًّا. ماتَ وإصبَعُه عَلى الزِّناد. شيءٌ مِن الرومانسيَة يَعتَري مَوتَ الشّهيد. أن يُعزَفَ له نشيدُ المَوت. أن تُؤَدّى لَه التحيَّةُ العسكريَّة. أن يتحوّلَ موتُهُ إلى قضيَّةِ رأيٍ عام، إلى قصيدَةٍ وزغرَدَةٍ وأغنيَة وَتَحقيقٍ صحفي. بالطّبع هذا يُسقِطُ حبَّةَ بَرَدٍ على الصّحراء التي تسكُنُ فيك. رِفاقُ سِلاحِه يأتون إليكَ للاطمئنان. أشعرُ أنّ ابني الشّهيدَ يعيشُ مَعهم. يشارِكُهُم طَعامَهُم ويسهَرُ مَعهم عَلى الحدود».

صَفَنتُ في كلامِ مُحَدِّثي وقلت: «هَل كانَ الشّهيدُ أعزَبًا أم مُتأهِّلًا؟». اقترَبَ الوالِدُ منّي حتّى كِدتُ أشعرُ بِلهاثِه وأجاب: «نَعم. أعزَب. لَن يكونَ لهُ ذريَّة. لا أولادٌ ولا أحفاد. ذريَّتُه في كلّ شيءٍ حَيّ. في كلِّ زهرَةٍ تَنمو في الحقولِ غَصبًا عَن مَخلَبِ الذئب وشهيَّةِ الخنازير. لن يَكونَ بِمقدور ابني أن يَرويَ قصةً لأولادِه قبلَ خلودِهِم للنَوم».

استَيقَظتُ وفي قَريحَتي الصّباحيَّة عبارَةٌ ألهَمني بِها أبُ الشّهيد في حَديقَةِ الأحلام. «خَلَدوا إلى النّوم فخَلُدَ الوَطَن».