سياحة في الوطن

دار بعشتار
إعداد: باسكال بو مارون
تصوير: روبير مرقص

عشتروت الخصب والجمال

 

هيكل عشتروت إلهة الحب والخصب... أرضها حملت الطهر والقداسة كما تحمّلت المعارك والحروب... موقعها المميز، سهلها الفسيح، واديها السحيق ومغاورها المنيعة جعلت منها محط أنظار الطامعين ومزاراً واستراحة بين الساحل والجبل للحجّاج والمسافرين.
دار بعشتار الكورانية استقبلتنا بيوتها القرميد وحاراتها العتيقة، فقصدنا منزل احد ابنائها الدكتور عصام الشالوحي الذي حدّثنا عنها واطلعنا على مراجع ومصادر ذكرت البلدة تاريخياً.

 

بين الساحل والجبل

تقع دار بعشتار في قضاء الكورة وهي تعلو عن سطح البحر نحو 400 متر وتمتد على مساحة 6 آلاف متر مربّع تقريباً. وهي بلدة عريقة في القدم يدل على قدمها وجود نواويس محفورة في الصخور، وبقايا اوانٍ خزفية مطمورة في التراب تظهر عند الحفر للبناء او للزراعة.
كما تزخر البلدة بمعاصر وبقايا هياكل يقال انها مطمورة قرب كنيسة السيدة تكدّست فوقها الأتربة مع مرور الأجيال.
وفي الماضي القريب، في القرن الماضي كانت بيوت دار بعشتار من الحجر مسقوفة بالجزوع والأخشاب والتراب. وفي الداخل قناطر وأعمدة تجعلها صامدة وقوية وكانت ارض البيت ترابية تصقل بحجارة نهرية (المدلّكة) وتفرش بحصر من القش، وفي الشتاء تمد عليها الفرش للنوم.
وكان الأهالي يجمعون مؤونتهم للشتاء من منتوجات أرضهم، وقرب كل بيت بئر تجمع فيها مياه المطر لأيام الصيف، وقبو للحيوانات ودار لتربية دود القزّ الذي كان موسم القرية الأساسي في معيشة العائلات.
عاش السكان قديماً من العمل في الأرض والمواسم الزراعية، واليوم ايضاً لم يتنكروا للأرض الى جانب وظائفهم وحبهم للعلم والتقدّم والتطور، يتعاونون ويتشاركون في الأفراح والأحزان ويعيشون بالاتفاق والإلفة.
وكانت البلدة صلة وصل بين الساحل والجبل عبر طريق ترابي يقطعه المتّجه من البترون الى بشري مشياً على الأقدام او ركوباً على الخيل، فكانت دار بعشتار محطة استراحة للقوافل والمسافرين في الصيف والشتاء.
أما مدرستها الأولى فشأنها شأن سائر مدارس القرى اللبنانية التي نشأت تحت السنديانة او في ساحة الكنيسة، ثم تطورت لتصبح رسمية يتعلّم فيها معظم اولاد القرية.

 

معركتا السهل

شهدت دار بعشتار احداثاً وحروباً خلال تاريخها الطويل ونذكر هنا معركتين حصلتا في أرجاء سهلها الواسع.
الأولى حصلت حين قرر الملك يوستينيانوس إدخال بدعة جديدة لتسويقها في المنطقة ولمحاربة الكنيسة الكاثوليكية التي ناضل البابا سرجيوس والبطريرك يوحنا مارون والموارنة دفاعاً عن معتقدها الكاثوليكي. فحاول الملك يوستينيانوس استدراج البابا سرجيوس الى القسطنطينية فيما أرسل قائداً الى سورية لينكّل بالموارنة ويأتي اليه ببطريركهم.
وعندما طلب يوستينيانوس من قائد جيشه لاون إحضار البطريرك يوحنا مارون مكبّلاً اليه، أحجم القائد عن المسير معتذراً بأن البطريرك معزز بقومه ولا يمكن الإتيان به الاّ بعد حرب طائفية، فسخط الملك على لاون وطرحه في السجن وأمر القائدين موريق ومرقيان بالسير بجيش الى سوريا. إلاّ ان البطريرك يوحنا مارون علم بما يدبّره الملك فاستدعى الأمير ابراهيم الذي أتاه باثني عشر ألف مقاتل، ثم تم نقل البطريرك من العاصي الى سمار جبيل.
وقد روى العلاّمة السمعاني خبر الحملة قائلاً أنه في العام 694 بلغ جيش الملك سوريا في آخر الربيع، فوثبوا أولاً الى العاصي وقتلوا 500 راهب من دير مار مارون، ثم اكملوا فحلّوا في السهل الذي بين قرية أميون وقرية الناوس (لسهل دار بعشتار). وسأل بعض أعيان تلك البلاد القائدين اعطاءهم هدنة مقابل ان يحملوا قومهم على الطاعة فقبلوا.
وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان حين وردت رسائل من القائد لاون الى البطريرك يبشّره بخلع يوستينيانوس من الملك وترقيته هو اي لاون الى منصبه، ويطلب منه ضرب الجيش الموجود في سهل دار بعشتار بصفته عدواً للملك. فانتشر الخبر بسرعة وهجم الأهالي من أعالي الجبال وتدفقوا على السهل فلاذ الموجودون بالفرار وتفرّقت صفوفهم.
أما المعركة الثانية فحصلت بين مشايخ الحمادية والأمير بشير حيدر نائب الأمير يوسف في بلاد جبيل في العام 1771، وكان يومها في العاقورة ومعه شيخا بشري واهدن ودام القتال نهاراً كاملاً؛ فظهر الأمير عليهم وقتل ثمانية رجال منهم وابعدهم عن القرية، وقتل من جماعته ثلاثة أنصار. ثم حضر رجال الجبّة لنجدة الأمير بشير فخاف الحمّاديون وقاموا بعيالهم من جبّة المنيطرة ووادي علمات في الكورة ولحقهم رجال جبّة بشري.
وبلغ الأمير يوسف ذلك فوجّه مدبره الشيخ سعد الخوري الى جبيل الذي عند وصوله بلغه ان الحمّاديين انهرموا الى الكورة، فأدركهم في دار بعشتار فأغار عليهم بمن اجتمع اليه من أهل تلك البلاد فظفر بهم وهرب الباقون وظل يطاردهم الى القلمون، فأهلك منهم حوالى 100 رجل وقبض على الشيخ علي ابي النصر الذي التمس الشيخ ميلاد الخازن اطلاقه فأخلى سبيله.

 

كنائس أثرية

وفق الإحصاء الذي أجري في ابرشية طرابلس المارونية عام 1854، كان عدد سكان دار بعشتار 337 نسمة. وقد اجرى هذا الإحصاء المطران بولس موسى لمعرفة عدد سكان ابرشيته بالضبط. زار المطران بولس موسى دار بعشتار وكرّس كنيستها الأولى عام 1864 على اسم القديس جرجس.
وبعد فترة رأى كاهن الرعية بولس الشالوحي مع أهالي الضيعة ان الكنيسة القديمة قد ضاقت بهم، فتنادوا لبناء اخرى جديدة، وعلى اسم شفيعهم مار جرجس.
وفي العام 1902 هدموا الكنيسة القديمة وأقاموا على انقاضها كنيسة جديدة وانتهى البناء عام 1904 فأتت بطول 25 متراً، وبعرض 16 متراً على ارتفاع 01 أمتار. وكانت ارضها بلاط حجر ومذبحها من الخشب، وتعلوها قبّة حجرية ترتفع عن سطحها 10 أمتار بحجارة منحوتة جميلة جداً.
ويروي بعض الشيوخ انه في سنة 1923 تم شراء مذابح وبلاط من الرخام للكنيسة من ايطاليا، وقد نقل من مرفأ جبيل الى دار بعشتار على ظهور الحمير.
وفي العام 2000 تمّ حفر جدران الكنيسة من الداخل فظهرت الحجارة المرصوفة آية في الفن والذوق والاتقان.
وفي البلدة كنائس اخرى اثرية، فكنيسة السيدة الكائنة شرقي دار بعشتار بنيت كما يقال على أنقاض معبد الآلهة عشتروت الاّ انها تحولت الى كنيسة منذ حوالى 200 سنة، وقد تمّ ترميمها منذ وقت غير طويل فعادت جديدة وأضيفت عليها قبّة مناسبة يعلوها جرس نحاسي صغير.
اما كنيسة مار شليطا فهي تقع وسط كروم الزيتون وحجارتها الرمادية الغامقة تدل على قدم بنائها، كما ان الحجر النافر في حنية المذبح شاهد على انها تعود الى العهد الصليبي، ويرجح انها بنيت على معبد وثني قديم.

 

المغارة العجائبية

جنوب غرب البلدة، يقع وادٍ سحيق في أسفله مغارة طبيعية، تناقل الأقدمون أخبارها فقالوا ان المسيحيين الأوائل لما قدموا الى البلدة، كانوا يرعون قطعانهم في جنبات الوادي، وكانوا يشاهدون على مدخل المغارة راهباً يركع ويصلي التبشير الملائكي فيقصدونه ليصلّوا معه فلا يعثرون عليه في اي مكان. وبعد السؤال والاستفسار اقتنع الجميع ان هذا الراهب هو النبي ايليا فكرّسوا له المغارة التي يعتقد انه لجأ إليها قديماً.
ويحتفل بالقداس في هذه المغارة يوم عيد النبي ايليا في تموز، ويقال انه جرت بشفاعته عجائب كثيرة لمن زاروا المغارة وتباركوا من المياه التي تتساقط من السقف والجدران وتملأ بعض الأجران.

 

البلدة اليوم

دار بعشتار اليوم بلدة عامرة، بيوتها جميلة الشكل والبناء تمتد على مسافة كيلومتر وتحيطها البساتين والحدائق. يمتاز أهل دار بعشتار بحبهم الكبير لضيعتهم ولكل منهم منزل فيها، وهم متعلقون جداً بأرضهم التي تجود عليهم بخيراتها.
ومواسم دار بعشتار الخصبة كثيرة وأهمها اضافة الى الفواكه الموسمية، الزيتون واللوز والتين والعنب وكلها خيرات لا زالت الأرض المباركة تقدمها لأبنائها منذ القديم.

 

مراجع:
- تاريخ سورية الدنيوي والديني - المطران يوسف الدبس - الجزء الخامس والسابع.
- اليوبيل المئوي لكنيسة مار جرجس - دار بعشتار.


دار عشتار

تتفاوت الآراء عما تعنيه تسمية دار بعشتار، فكلمة دار في اسماء القرى اللبنانية تعني هيكل او معبد او مقام، اما في اللفظة السامية فهي من جذر "دور" ويفيد الاستدارة، حيث يبدو ان المساكن الديقمة بنيت بشكل مستدير. اما عشتار فتعني عشتروت إلهة الحب والخصب عند القدماء وزوجة الإله تموز (البعل).