تربية وطفولة

دخول الأطفال إلى المدرسة
إعداد: ماري الأشقر
اختصاصية في علم النفس


إنها بالفعل تجربة مهمّة
دخول أطفالنا إلى المدرسة تجربة مهمّة، ليس فقط بالنسبة إليهم، وإنما للعائلة بجميع أفرادها، وأحيانًا للرفاق أيضًا...

 

الأيام الأولى
بعض الأطفال، ولأسباب شتّى، يروق لهم الاعتراض بطريقة البكاء لعدة أيام أو أسابيع بعد بدء الدراسة، ولكن معظمهم يتأقلم مع هذه الحياة الجديدة بسهولة. حتى الباكون منهم والصارخون، والمعرّضون للكوابيس الليلية، يعودون إلى هدوئهم ويحبّون حياتهم الجديدة في مدة أقصاها نهاية الفصل الدراسي الأول. وفي حال حصل العكس، لا بد أن ثمة خطأً كبيرًا في المدرسة أو حتى في البيت. فالطفل في عمر الثلاث أو أربع سنوات يصبح قابلاً للخروج من محيط العائلة إلى محيط أوسع، إذا كان نموّه طبيعيًا. وعندما يعجز عن ذلك نكون أمام مشكلة يجب تشخيصها لحلّها. ولكن لنظلّ في سياق الحالة الطبيعية للأمور، أي ما يكون عليه الوضع في معظم الأحيان، ومن دون وجود وضعيات ترتّب مشاكل فعلية. في الحالات الطبيعية قد نجد طفلاً يستيقظ ليلاً وهو يصرخ «لا أريد أن أغنّي، لا أعرف الكلمات، سوف يهزأون مني»... بعد فترة سنجد هذا الطفل يقف بثبات على خشبة مسرح المدرسة أمام حشد من الأهل والغرباء، يغنّي ويمثّل من دون أدنى شعور بالخوف...
 

تغيير جذري
المهم في هذا كله - والذي غالبًا ما يهمل - هو أن التغيير الجذري الذي ينتج عن دخول الطفل إلى المدرسة لا يعيشه الطفل بمفرده، بل العائلة بكاملها. فالأم في المنزل تشعر فجأة أنها في فراغ، وليس هناك ما تملأ ساعاتها به، وهي تتنقّل في المنزل وتطرح على نفسها العديد من الأسئلة. فالحياة بالنسبة إليها هي تغيّرت، وأصبحت أكثر وحشة، وفي اعتقادها أنّ ذلك ينطبق على طفلها أيضًا. وفي الوقت عينه، يجد الأب نفسه، وللمرة الأولى، موضوع مقارنة برجل آخر؛ فالأساتذة الذكور غالبًا ما يكونون قلّة في الصفوف الأولى، لكن وجودهم قد يترك تأثيرًا مهمًا جدًا على الطفل، فنجد هذا الطفل، مثلًا يواجه أباه للمرة الأولى بعد عجزه عن الإجابة، ويقول له إن «الأستاذ فلان يعرف كل شيء»، ممّا يعني بالتالي أنه أفضل. والمشكلة الحقيقية تنشأ مع الأصدقاء والأخوة... فالتفريق بين الأطفال الصغار وبين الذين سيرتادون المدرسة للمرة الأولى، يظهر التغيير الأكبر في حياة الطفل منذ ولادته: إذ لا يمكن مقارنة المشكلة بأي خطوة مهمة أخرى (كالمشي، والكــلام وحتــى اللعــب مع الآخريــن).
 

صدمة مع أنّها مفرحة
منذ يومه الأول في المدرسة، يخضع الطفل يومًا بعد يوم، وأسبوعًا بعد أسبوع ولسنوات طويلة، لاستيقاظ مبرمج وفق نظام المدرسة والأصدقاء الذين يتعرّف إليهم فيها. فالطفل في المدرسة يعيش تحت نظام آخر، لا بل أنظمة أخرى: الصمت ساعة يطلب منه ذلك، وانتظار دوره لطرح الأسئلة، تعليق «جاكيت» مثلاً، بالشكل الصحيح وفي المكان الصحيح، والاهتمام بمشروع معيّن من بدايته حتى النهاية من دون أن يفقد اهتمامه به... إذًا بعد أن كان الطفل صغيرًا يتحكّم بخطواته ويملك حريّة التنقّل في المطبخ، وفي أرجاء المنزل عندما يحلو له ذلك، تصدمه المدرسة على الرغم من أنها مفرحة. أمّا الأصدقاء والأخوة الصغار الذين تركهم وراءه، فلا يملكون أي فكرة عما يجري في المدرسة، ممّا يترك تأثيرًا واضحًا في مجتمعه الصغير. في الواقع، إن الفارق في السن هو دائمًا ذو تأثير، مثلاً حين يكون الأخ الصغير في سنته الأولى وما دون، فعلى الأخ الأكبر بعض الواجبات القيادية، وكلما كان الفارق في السن أكبر كلما كان من الأسهل الانتقال إلى المدرسة. الأطفال الذين لا فارق شاسعًا بينهم (سنتان أو أقل) هم الأصعب في التأقلم مع هذا التغيير. فعندما يعود الطفل من المدرسة مرهقًا، يحتاج إلى أمه التي لا شغل لها سواه، والصغير الذي يشعر بالغيرة، لا يفهم شيئًا مما يدور حوله. كيف يمكن معالجة هذا الأمر؟

 

شعور مزعج
ينبغي إقناع الأكبر سنًا بأن يلعب مع الأصغر لعبة المدرسة، فذلك يُدخل الصغير في جو اللعبة، ويسمح للكبير بأن يعزّز ثقته بنفسه، إذ مهما تكن المعلّمة لطيفة في السنوات الأولى، تبقى نظرة الطفل ذي الأربع سنوات إلى نفسه، على أنه صغير جدًا. إنه لشعور مزعج! الخطوة الثانية وهي الأصعب، حين يحضر الأكبر سنًا إلى المنزل مع رفيقه من المدرسة ويتصرّف بطريقة سيّئة، كأن ينصب الفخاخ مع رفيقه لأخيه الصغير، ليس بقصد الاساءة طبعًا، ولكنها طريقته في الإعلان عن نفسه، ومحاولة منه للتخلّص من ذلك الشعور المزعج بالوحدة والضعف. هنا على الأم أن تسيطر على أعصابها فالأمر سيهدأ بعد لحظات. الأصدقاء المتروكون أيضًا مشكلة، فالطفل الذي يكبر إبنة الجيران بتسعة أشهر مثلاً، اعتاد أن يلعب معها منذ ولادته، إنما عندما حان موعد المدرسة كان من الطبيعي أن يسبقها هو سنة، فبقيت هي من دون رفيق؛ والطفل الذي أمضى نهاره وحيدًا، يبدو «رفقة» مملّة لطفل آخر قضى نهاره في عجقة المدرسة منذ الصباح الباكر. هي تريد اللعب والعودة إلى ما كانا يفعلانه، في حين أن كل ما يطلبه هو، لا يتعدّى الجلوس على ركبتي والدته والاستكانة، والنتيجة بؤس في كل مكان. يبقى الوقت هو العلاج الوحيد، فبعد الأسابيع الأولى سيعتاد الاثنان على طبيعتهما الجديدة ويعودان صديقين من جديد مع ما تتطلّبه حالة كل منهما.

 

لا تقفلي الأبواب
في هذا الوقت الدقيق، يجب أن تتراجعي إلى حدود معيّنة وأن تدركي أن طفلك اليوم هو غير الذي كان في البارحة. وأن المدرسة تقدّم له الأصدقاء الكثر وسيختار هو من يناسبه، وهذا حق للطفل وهو منذ الآن سيبدأ باتخاذ القرارات من دون العودة إليك. لكن ابتهجي: لا تقفلي الأبواب أبدًا على علاقتكما القديمة: فبعضها سيبقى على الرغم من كل شيء.