قصة قصيرة

دمعة ندم
إعداد: العميد الركن إميل منذر

جلس راضي في سريره، وأدار التلفاز ليستمع إلى نشرة أخبار المساء. وبعدما أنصتَ إلى الموجز، ضغط بعصبية على الزرّ الأحمر في الريموت كونترول قبل أن يُصاب بالغثيان ووجع الرأس اللذين سيحصل على الكثير منهما هذه الليلة. ثم تناول عن منضدة صغيرة إلى جانبه كتاباً كان قد أتى على أكثره في ليلتين اثنتين، وفتحه وراح يقرأ صفحاته الأخيرة، وينظر بين الفينة والأخرى إلى الساعة الكبيرة المعلّقة في أعلى الجدار متمنّياً لو ان عقاربها تتوقّف عن الدوران ولا تأتي الساعة التاسعة، موعد خروجه وزوجته من البيت في هذا المساء، لأنه يكره المطاعم والسهرات الصاخبة، خصوصًا في أيّام الأعياد. لكن العقارب دارت ودارت، فأخذ راضي نفَسًا عميقًا كالذي يصفه الأطبّاء للمرضى في أوقات الضيق والشدّة، وانزلق عن سريره ببطء، ومشى صوب خزانة ملابسه بقدمين ثقيلتين، وفتحها، وأخرج منها قميصًا قلّبه بين يديه ظَهرًا لبطن وبطنًا لظهر، وتأمّله مليًّا، ثم خرج ينادي زوجته، ويبحث عنها من غرفة إلى غرفة.
- لم تأتِ بعد. أجابت الإبنة باتريسيا.
- لم تأتِ بعد! قال راضي وهو يتّجه ناحية مصدر الصوت، ويفكّر كيف تستطيع امرأة أن تهدر من وقتها ساعتين وثلاثاً في صالون الحلاّق ليأتي دورها وتسلم رأسها وشعرها ليدَيْن ستقبضان ثمن العبث بهما وتخريبهما. ثم خطرت في باله فجأة فكرة قديمة كان ينتظر لتنفيذها فرصة مناسبة، وها هي الفرصة قد أتت. ولكَم كانت مفاجأته كبيرة عندما وجد ابنته جالسة على الأريكة وبين يديها بنطلون جينز جديد تُمعن فيه تشويهًا وتمزيقًا لناحية الساقين وفوق الركبتين.
- ماذا تفعلين يا بنت!
- إنها الموضة يا أبي. أجابت وهي توسّع مزقًا أحدثته بالمقصّ ومن غير أن ترفع بصرها إلى أبيها.
- لماذا لا تلبسين البنطلون العتيق إذًا!
- لأنه عتيق كما قلت. ثم إن ملابسي تخصّني أنا. وأنا أريد أن أفعل بها ما يحلو في عيني وفي عيون الناس.
في تلك اللحظة تملّكت راضيًا رغبة جامحة في أن ينتزع البنطلون من يد ابنته ويمزّقه إربًا إربًا أمام ناظرَيها، ويرميه في وجهها. لكنه تمالك نفسه وعدّ للعشرة، فابنته لم تعد صغيرة. لقد دخلت الجامعة. وما عاد يصحّ أن يتصرّف معها بخشونة. لذلك فإن كلّ ما فعله هو أنه بلع ريقه، وقال: حسنًا. ما دامت أمّك لم تعُد بعد، أتستطيعين أن تكوي لي هذا القميص؟
- أنا!
- أجل أنتِ.
عندئذٍ رفعت باتريسيا رأسها ونظرت إلى أبيها نظرة طويلة فارغة من كلّ معنى. ثم سألته: ألا تستطيع أن تنتظر حتى تعود أمّي، أو تلبس قميصًا غيره؟
- أحبّ أن أرتدي الليلة هذا القميص ومكويّاً هذه المرّة بيديكِ أنتِ. أتستطيعين كيّه أم لا؟
- أستطيع يا أبي... أستطيع. أجابت بصوت لا حياة فيه، وقامت تبحث عن المكواة إلى أن اهتدت إليها؛ فأمدّتها بالتيّار الكهربائيّ، وجعلت تمرّرها على القميص من غير نتيجة. وإذ رآها والدها كيف تفعل، قال: لن تنجحي إن لم ترشّي على القميص بعض الماء.
- ماء!
- أجل. ألم تري أمّك تفعل ذلك من قبل؟ سأل راضي وعيناه تلمعان مكرًا.
- وهل أمّي مَن يكوي الثياب! هكذا أجابت ولعنت في سرّها الخادمة التي طلبت في هذا اليوم إجازة تقضيها في زيارة أختها المريضة في بيت مخدومها في بيروت، وحتى الساعة لم تعُد.
- لا تلومي أمّك، فإنّ لديها أعمالاً أخرى كثيرة تقوم بها. هناك إعداد الطعام، وصنع الحلويات أيّام الأعياد، والتبضّع من السوق. ولا تنسي زيارات الأصحاب، وتمارين الرياضة في النادي.
عندئذٍ نظرت باتريسيا إلى والدها غير عارفة إن كان يتكلّم جادًّا أم ساخرًا. ثم مضت وأحضرت بعض الماء رشّته على القميص، وعادت تُعمل مكواتها فيه وتزيده طعوجاً فوق طعوج. فابتسم والدها كمَن يتهيّأ للبكاء، وقال: الأزرار ليست بحاجة إلى كيّ؛ فلا تمرّي بالمكواة فوقها.
- أتعرف يا أبي؟ أرى أنك تسخر مني.
- أتعرفين يا ابنتي؟ أرى أنكِ رسبتِ في الامتحان. لقد غسلتِ القميص بالماء وما كويتِه. هاتي المكواة من يدك، وانظري إليّ كيف أفعل.
وما مضت دقيقتان من الوقت حتى كان الأمر قد تمّ؛ فرفع راضي القميص أمام عينيه وتأمّله: «أنظري. لقد أصبح مكويًّا، لكن لا يمكن ارتداؤه. يجب نشره حتى الصباح ليجفّ».
ودخل راضي، واختار من الخزانة قميصًا آخر. وما وضع ربطة العنق حول ياقته أمام المرآة، حتى لاحظ أن زرّ أحد الكمَّين يكاد أن يسقط؛ فخلع القميص، وخرج ليمتحن ابنته مرّة ثانية: «أتثبّتين لي هذا الزرّ؟».
- أترى أنه سيسقط؟
- لو سقط وضاع لما أمكن العثور على آخر بشكله وحجمه ولونه.
- حسنًا... هاته. هكذا قالت مخافة أن ترسب قبل أن تجرّب. لكنها في هذه المرّة لم تلعن الخادمة لوحدها، بل لعنت أمّها أيضًا. ثم جاءت بإبرة وخيط، وهمّت بشكّ رأس الإبرة في موضع قدّرت أنه صحيح؛ فما كان من أبيها إلا أن التقط طرف الخيط وعقده: «لن تكوني قد فعلتِ شيئاً إن لم تعقديه هكذا».
وعادت باتريسيا تحاول تمرير رأس الإبرة في ثقب الزرّ عبر القميص، فلم تنجح إلا بعد عدة محاولات. ولما نجحت، أصاب رأس الإبرة رأس إصبعها، فصرخت وألقت القميص من يديها، ومسحت دمعتين في عينيها.
- ها قد تأكّد لك أنني لا أعرف من أعمال البيت شيئًا. أليس هذا ما كنت تريده؟
- أنا كنت أعرف. وما أردته هو أن تعرفي أنتِ.
- أنا أعرف شيئًا واحدًا، وهو أني لا أريد أن أعرف من هذه الأعمال أيّ شيء، قالت، وقصّت الخيط، وأعادت الإبرة إلى علبتها، وأطبقت عليها الغطاء بقوّة، وأضافت: لمَ تراني أتعلّم في الجامعة؟ أليس من أجل أن أنال شهادة، ثم أجد وظيفة بمرتّب محترم، وإن تزوّجتُ أتيتُ بخادمة كالتي عندنا فتقوم بكلّ هذه الأعمال السخيفة؟
- حتى لو كان لكِ خادمة يا ابنتي، عليكِ أنتِ أن تكوي قميص زوجك بيدك من وقت لآخر، وأن تُعدّي بنفسك الطعام الذي يحبّه، وأن...
- كفى يا أبي، كفى أرجوك. إن كان عليّ أن أعمل في وظيفتي ثم أعود لأختم نهاري في عمل البيت، فلن أتزوّج. أتقبلني ضيفة دائمة في بيتك؟
- ضيفة! قال راضي، وأحاط عنق ابنته بذراعيه، وأضاف: أنتِ ابنتي. حبيبتي. فلذة من كبدي. ولكن لتعلمي أن مكان المرأة الطبيعيّ هو البيت. وأيّ نجاح خارجه سينعكس تقصيراً وخللاً في موضع ما داخله.
- هل أستطيع أن أردّ على هاتفي ونؤجّل هذا البحث إلى وقت آخر، لأن رفيقتي تطلبني؟ قالت باتريسيا وهي ترفع ذراعَي أبيها عن كتفيها، وتنهض، وتخرج، بينما أخذ راضي يعالج زرّ القميص بنفسه.
وما هي غير لحظات حتى دخلت ميرفت عائدةً من عند الحلاّق بتسريحة شعر وصباغ جعلا راضياً يستعيذ في سرّه بالـله من الشيطان الرجيم، ويلعن مَن أطلق على الحلاّق لأوّل مرّة اسم المزيّن.
- أيعجبكَ شكل شعري يا عزيزي؟ إنها آخر موضة.
- هلمّي نخرج. لقد تأخّرنا على أصدقائنا.
* * *
في المطعم جلس الزوجان قبالة صديقيهما جوليان وزوجته فرجيني حول طاولة بعيدة لأنّ راضيًا تزعجه أغاني «طرب آخر زمان» والتي يستطيع كلّ إنسان أن يؤلّف ويلحّن عشرًا على شاكلتها في كلّ يوم. وعندما استقرّت الكؤوس وسط المائدة وأخذت الصحون تتوافد وتتوزّع في كلّ مكان، قال راضي: مَن يؤكّد أن هذه اللحوم ليست من تلك الأطنان الفاسدة التي ضبطتها قوى الأمن؟
- كبّر عقلك يا شيخ، قالت فرجيني. هذا مطعم محترم. ثم إن أسعاره توجع، فلا يعقَل أن يكون مثل غيره.
- هذا هو الوجع الوحيد الذي يصيب الرجال من دون النساء، قال جوليان ضاحكًا فأضحك الجميع.
- إنه بالفعل مطعم اللقمة الطيّبة، قالت ميرفت وهي تتلمّظ وتحاول أن تحافظ على أحمر شفتيها. تذوّقوا هذا الصحن ما أطيبه. فما كان من فرجيني إلا أن غمست في الصحن لقمة صغيرة ثم دفعتها داخل فمها: «إنه لذيذ حقًّا. لكن ما هو من شغل البيت ألذّ منه بكثير».
- أنا، من جهتي، أفضّل الـ delivery، طعام طيّب، خفيف نظيف. قالت ميرفت رافعةً يديها تسليمًا واقتناعًا.
- أما إنه خفيف، فهو كذلك، أجاب راضي، لأنْ ليس أنتِ مَن يحمله إلى البيت. وأما إنه نظيف، فـ «عين لا ترى، قلب لا يتوجّع» كما يقول المثَل.
- أنتِ ذقتِ كعكات العيد عندي يا ميرفت. بربّك هل ذقتِ بنكهتها عند أحد؟
- كعكات أمّي لذيذة الطعم. الملعونة «شاطرة». لقد أرسلت لي حصّتي مع أختي.
- أرأيتم؟ قال راضي. زوجتي تحارب بسلاح أمّها. هذه كأس حماتي يا جماعة. فرفع الكلّ كؤوسهم، وضربوا بعضها ببعض، وشربوا وضحكوا. وبعد ذلك صدحت الموسيقى، وما عاد أحد يسمع أحدًا. حتى المغنّية التي انتفخت أوداجها ونفرت عروق رقبتها من كثرة الشدّ، ضاع صوتها بين الطبل والزمر. ألا رحم الله ابن الروميّ وتلك التي كانت «تغنّي كأنها لا تغنّي».
وفيما كان الجميع يتناولون الطعام بلذّة وشهية، كان راضي يلتقط بالشوكة من صحن السلطة بعض وريقات من الخسّ. وإذ رأى على إحداها حلزونًا ذا صدَفة بحجم حبّة الحمّص، اقشعرّ بدنه وكاد أن يتقيّأ ما كان قد دخل جوفه؛ فوضع الشوكة فوق الصحن، وأخذ كأسه بيده. وعندما سألوه لماذا لا يأكل، أجاب بأنه يشعر بألم بسيط في معدته.
* * *
بعَيد منتصف الليل توقّف الضجيج، أعني الموسيقى. وانتهت السهرة، لكنها لم تنتهِ على خير. فما وصل راضي وزوجته إلى البيت وبدّلا ملابسهما واستقرّا في السرير، حتى وضعت ميرفت يدها على بطنها تشدّ عليه متوجّعة. ثم خرجت وتقيّأت وغسلت وجهها من العرَق. وكان أن استيقظت الخادمة من نومها فهرعت إلى سيّدتها تسألها عمّا تريدها أن تفعله لها. لكن ميرفت لم تُجب لأن الألم خنق في حنجرتها كلّ صوت إلا الأنين. عندئذٍ استولى الوسواس على راضي، فرفع زوجته عن السرير ونقلها على جناح السرعة إلى المستشفى.
في المستشفى أخبر راضي طبيب الطوارئ ما سهّل عليه اكتشاف العلّة؛ فأجرى لميرفت الاسعافات العاجلة، ثم طمأنها إلى أن ما أصابها تسمّم بسيط سوف تتعافى منه في وقت قريب. وبينما عاد راضي إلى البيت أمضت ميرفت ليلتها في ضيافة ملائكة الرحمة.
وطلع صباح اليوم الثاني، وارتدى راضي ثياب العمل. وقبل أن يخرج سأل ابنته إن كان باستطاعتها أن تعدّ طعام الغداء ريثما يعود. لكن باتريسيا عقدت حاجبيها، وأشاحت بنظرها، ولم تردّ.
ورجع راضي بعَيد الظهر؛ فقامت باتريسيا وسكبت طعامًا في صحن واحد، ودعت والدها إلى المائدة.
- وأنتِ؟ ألا تسكبين صحنًا لكِ أيضًا؟
- لست جائعة.
- أحبّ أن تشاركيني الطعام يا حلوتي.
- بإمكاني أن أجلس إلى جانبك ريثما تنهي غداءك.
ورفع راضي بعض الطعام بالملعقة إلى فمه. وإذ ألفاه كثير الملح عديم النكهة، ازدرده، وانصرف عنه إلى الجبنة والخضار والزيتون.
- مَن الذي أعدّ هذا الطعام، أنت أم الخادمة؟
- أنا. لماذا؟ ألم يعجبك؟
- بصراحة... لا.
- بإمكانك إذاً أن تطلبه من الخادمة في المرّة القادمة.
ساعتئذٍ لم يستطع راضي أن يُكمل العدّ إلى العشرة كما فعل أمس، فرفع يده وصفع ابنته على خدّها المطليّ بالمساحيق. لكن باتريسيا لم تبكِ ولم تخفض رأسها، بل نظرت إلى أبيها بعينين جامدتين غير مصدّقة أن والدها، الذي لم يرفع عليها يداً من قبل، قد ضربها. وبعد أن استفاقت من ذهولها، قامت عن الكرسيّ وخرجت من البيت وردّت الباب بعنف وراءها. أما راضي فترك طعامه، ودخل غرفته، ورفع كفّه التي صفع بها ابنته أمام وجهه ينظر إليها بعينين غارقتين بالدمع.
قُبَيل المغيب قصد المستشفى ليطمئنّ إلى صحّة زوجته. ولما دخل غرفتها وألقى التحية عليها، أشاحت بوجهها عنه غير راغبة في الحديث إليه.
- ما الأمر! ألا تردّين التحية؟
- لماذا ضربت البنت؟
- كان يجب أن أضربها قبل اليوم. لقد تأخّرتُ كثيرًا. على أيّ حال، ليس الحقّ عليها وحدها، بل عليكِ أنتِ أيضًا... لقد كبرتْ وأصبحتْ صبيّة ولم تعلّميها من أعمال البيت شيئاً.
- ولماذا تتعلّم أعمال البيت! الزمن تغيّر يا زوجي العزيز. المرأة اليوم تشتغل بشهادتها مثل الرجل. أما الطبخ والنفخ وغسل الصحون وتنظيف الأرض فهي من شأن الخدم.
- إسمعي يا عزيزتي. أنا أريد لابنتي أن تكون خرّيجة جامعة وستّ بيت أيضًا. هذه قناعتي ولو خالفني الرأيَ كلُّ الناس.
- حسنًا، حسنًا. غدًا تتعلّم.
- متى غداً؟ لقد أصبح عمرها تسعة عشر عامًا وما زالت لا تعرف أن تقلي بيضة.
- أوه. هوّن عليك يا عزيزي. الانفعال يضرّ بالصحّة.
- أتهمّك صحّتي إلى هذا الحدّ!... حسنًا، سأعمل بنصيحتك من الآن فصاعدًا.
وعاد راضي إلى البيت حزين القلب مهزوم النفس. ولما دخل وقع بصره على صورة لأمّه كانت زوجته قد «نفتها» إلى ركن قصيّ في الصالون، فرفع الصورة وأخذ يتأمّلها والدمعة ملء عينه: «ألا رحمكِ اللـه يا أمّي، ورحم كلّ نساء ذلك الزمان. كنتِ قديرة جبّارة، عمّرتِ البيت بتعبك وحسن تدبيرك. كنتِ تعملين في البيت وتلحقين بأبي إلى الكروم والبساتين وما كنتِ تتذمّرين أو تشكين. أما نساء اليوم فكلّ شيء متوافر لهن، لكن لا شيء يعجبهن».
* * *
ومرّت الأيّام سريعةً. وتخرّجت باتريسيا من الجامعة. ومضى الزمن الذي قالت ميرفت أن ابنتها ستتعلّم فيه شغل البيت، وما تعلّمت. وجاء ذوو عصمت، الشابّ الذي تحبّه ويحبّها، يطلبون يدها من ذويها، ويستعجلونهم عقد القران لأن كلّ شيء جاهز: البيت وحاجاته ونِعَم الله كلّها. فوافق أهل باتريسيا لأن الشابّ «إبن ناس» محترمين، وسيرته وسيرتهم ببياض ثلج صنّين. واتّصلوا بولدهم المسافر يدعونه إلى المجيء لحضور زفاف أخته؛ فجاء بعد أيّام قليلة.
وحلّ الموعد المنتظَر. وأُقيم للعروسين حفل زفاف قلّ نظيره قبل أن يغادرا لقضاء شهر العسل خارج البلاد. أما ماجد شقيق باتريسيا فبقي في لبنان، بعد زفاف أخته، لمدّة أسبوع أمضاه بين أصدقاء جُدُد وقدماء. وبعد أربع وعشرين ساعة على إقلاع طائرته من أرض المطار في بيروت، بلغ راضيًا خبر كسر خاطره، بل ظهره، وأودى به إلى المستشفى في الحال إثر نوبة قلبية حادّة؛ ذلك أن جهاز أمن المطار في أوروبا ألقى القبض على ماجد لمحاولته تهريب كميّة من المخدّرات.
في المستشفى ندب راضي حظّه يائسًا من حياته: «يا لضياع تعبي! إبني الذي ربّيته بعرقي وسهري شبَّ ليصبح مهرّب مخدّرات. آخ يا قلبي، آخ». تلك كانت الكلمات الأخيرة التي لفظها راضي مغسولةً بدمعتين حارقتين قبل أن يفارق الحياة.
قطعت باتريسيا رحلتها، وعادت وزوجها لحضور جنازة والدها، ولتبدأ رحلة من المعاناة لم تكن تحسب لها حسابًا. هذه الرحلة بدأت يوم طلبت من زوجها أن يأتيها بخادمة، ويساعدها في العثور على وظيفة تناسب شهادتها.
- وظيفة! لمَ الوظيفة يا حبيبتي! أنا أريد أن تكون زوجتي سيّدة بيتها لا عاملة تحت أيادي الناس وأوامرهم.
- والعِلم الذي حصّلته، ألا يجب أن أستفيد منه في وظيفة!
- تستطيعين أن توظّفي علمكِ في تدبير شؤون بيتك، وغداً في تعليم أولادك. إني أريد الكثير منهم، قال عصمت مبتسماً وهو يلقي ساعدَيه على كتف زوجته.
- والخادمة؟
- ما حاجتنا بها اليوم! تستطيعين أن تستعيني بها متى شئتِ لمساعدتك في إنجاز الأعمال الصعبة. أما متى أصبح لنا أولاد، فسآتيك بها من غير أن تسألي يا حبيبتي.
أدركت باتريسيا ساعتئذٍ أنها خسرت الجولة. لكنها قرّرت أنها ستحاول في جولة ثانية، وستربح. وبدأت الجولة الثانية أبكر ممّا توقّعت باتريسيا أو تمنّت، ذلك أن زوجها عاد من العمل في إحدى الأماسي، وجلس لتناول طعام العشاء وتذوُّق أحد الأطباق الذي طلبه من زوجته منذ عدّة أيّام وكانت في كلّ مرّة تعِده ثم تُخلِف الوعد. وما وضع عصمت لقمة في فمه، حتى تقزّزت نفسه، فبلع اللقمة غصباً عنه، وقلب شفته: «ما هذا! هل تذوّقتِ الطعام وأنتِ تعدّينه يا عزيزتي؟».
- ألم يعجبك؟
- واللـه خفتُ أن آكل أصابعي معه.
- هل تسخر مني؟
- هكذا فعل أصدقائي اليوم عندما نظروا إلى قميصي هذا. أنظري إليه. أترينه مكويًّا يا عزيزتي؟
- أنا لا أستطيع أن أفعل أكثر.
- أما أنكِ لا تستطيعين، فشيء. وأما أنك لا تريدين، فشيء آخر. أيّ الأمرين أنتِ تعنين يا ترى؟
- إسمع يا عزيزي. أنا لم أُخلَق لعمل البيت. ولا أستطيعه، ولا أريده. هذا تقوم به الخادمة. أما أنا فأريد وظيفة. أريد أن أخرج وأرى الناس.
- أما أنا، فيا سبحان اللـه، أريد العكس. أريد أن تكوي ثيابي زوجتي، وتعدّ طعامي زوجتي، وتربّي أولادي زوجتي، لا الخادمة.
- إنك بذلك تكبّل يديّ. تأسرني... تقتلني.
- أتعرفين؟ أنتِ امرأة جميلة وتحمل شهادة فحسب. وغير ذلك لا شيء. أنتِ، يا امرأة، لا تصلحين لتكوني ربّة منزل. لذلك أنا أُحِلُّك من قيودك وأعيد لك حرّيتك. أنتِ... طالق. أتسمعين؟ أنتِ طالق.
- ماذا!
- طالق، طالق، طالق. خذي حقيبة ملابسك وشهادتك الجامعية وشهادة الكفاءة التي أعطتك إيّاها أمّك، وعودي إلى بيتك.
صُعقت باتريسيا بما سمعت؛ فمكثت لدقيقة جامدة مثل صنم. ثم نهضت بعصبية، ومن غير أن تقول كلمة، فتحت الباب وخرجت.
خرجت مثل لبوءة غضبى. لكنها عندما دخلت بيت أمّها، كانت مثل عصفورة مهيضة الجناح. أمّها ضمّتها إلى صدرها ومسحت دموعها بيدها، وسألتها مئة سؤال قبل أن تتلقّى جوابًا واحدًا.
- أنا عدت إلى البيت يا أمّي.
- ماذا تعنين بأنك عدتِ إلى البيت يا باتي! سألت ميرفت وبدأ قلبها يضرب جنبات صدرها.
- زوجي طلّقني.
- ماذا! كيف يفعل هذا بكِ! هل يحبّ غيرك؟ يا لحقارته! يا لدناءة نفسه!
- أسكتي يا أمّي، أرجوكِ اسكتي. صرخت باتريسيا وهي تتهالك على أوّل مقعد. أنا امرأة فاشلة لا أساوي شيئًا. لا أنا تعلّمت ولا أنتِ علّمتِني. كنتِ تدافعين عني دائماً، وتقولين لأبي غداً تتعلّم. لقد أحببتِني فقتلتِني. وأبي أحبّني فقتلتُه. جميعنا قتلناه، أنا وأخي وأنتِ...آه يا أبي! هل تستطيع أن تسامحنا بعد؟». هكذا قالت باتريسيا، وفتحت الباب وخرجت، وقصدت قبر أبيها، وارتمت إزاءه على ركبتيها، وحنت رأسها حتى لامس الأرض، وبكت: «كم أفتقدك في هذه اللحظة يا أبي! ها قد جئت إليك أستغفرك، وأعترف لك بأنني كنت حمقاء وعنيدة، وأقول إني الآن نادمة من كلّ قلبي على كلّ كلمة قلتَها ولم أسمعها، وعلى كلّ نصيحة قدّمتَها لي وأدرتُ لها الأذُن الصمّاء. ولكن لاتَ ساعةَ ندم؛ فيا ليتك آنذاك صفعتني وأوجعتني أكثر. صفعة واحدة ما كانت كافية لتردعني عن طيشي. ما كانت كافية لأعرف أنك تحبّني أكثر ممّا أحبّ نفسي، وتريد الخير لي». وبعد ذلك اختنق صوت باتريسيا في حنجرتها، فلم تعد تستطيع كلاماً؛ فبكت كثيراً. ولكنها لم تعرف أن عظام أبيها كانت هي أيضاً تحت التراب تبكي.