يوبيل الجيش

دورة «اليوبيل الماسي للجيش» غابت الطقوس...أما الواجب فحاضر
إعداد: ندين البلعة خيرالله

نعم! هذا العام، خلا الملعب الأخضر الكبير من المدعوين والضباط والتلامذة والقوى المستعرِضة، ومن الإعلام والأعلام والمنصات غابت عنه تقاليد العيد وطقوسه الاحتفالية وفرحه. لم تلمع السيوف، ولم تصدح هتافات الأهالي وزغاريد الأمهات فخرًا وابتهاجًا بتخريج أبنائهنَّ... لم تُطلق البالونات بلون العلم اللبناني، لم تحلّق أسراب الطوافات ولم يرمِ الضباط الجدد قبعاتهم عاليًا! لكن عزم الرجال على الولاء لوطنهم والتضحية لأجله حتى آخر نقطة دم كان حاضرًا في العيون والوجوه والقلوب...

١٧٨ ضابطًا علّقوا النجوم على الأكتاف بصمت وإصرار على خوض المسيرة الصعبة. احتفلوا بتسلّم مسؤولياتهم وهذا ما كان الأهم في نظرهم. ترأس قائد الكلية العميد الركن جورج الحايك احتفال تسليمهم الشهادات وتقليدهم شارات الرتب الجديدة. وتوجّه إليهم بكلمة من القلب، كلمة أب رافق دورتهم على مدى ثلاث سنوات، ويفتخر بهم وبكفاءاتهم ومؤهلاتهم.

 

كلمة الرئيس

أبى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أن تمرّ هذه المناسبة من دون أن يتوجّه بكلمة إلى الضباط الجدد، عُرِضت على شاشة في قاعة غسان عويدات حيث أُقيم الحفل. وقد أسف الرئيس عون للظروف التي آلت إلى عدم إقامة الاحتفال الرسمي هذا العام، وقال:

«كان مفترضًا أن تجمعنا هذه الكلية مرة جديدة ليقف أمامنا في ساحتها شبّان من خيرة الشباب، ينتظرون بتلهف أن تنطلق حناجرهم مردّدة «والله العظيم»، وهي تقسم يمين القيام بالواجب كاملًا حفاظًا على علم البلاد وذودًا عن الوطن، إلا أنّ ظروف الحجر الصحي التي يفرضها تفشي وباء كورونا حالت للأسف دون ذلك».

وتوجّه الرئيس عون إلى الضباط الخريجين، قائلًا:

«اخترتم لدورتكم اسم «اليوبيل الماسي للجيش»، تخليدًا للعيد الخامس والسبعين لجيشنا، بعد أن اختار زملاؤكم السنة الماضية تخليد العيد الخامس والسبعين للاستقلال. نعم استقلالنا وجيشنا ولدا معًا، بفارق زمني بسيط، ترافقا وعاشا حلو الأيام ومرّها، وسعى الجيش جاهدًا، وبكل ما أوتي، طوال تلك السنوات أن يحفظ الاستقلال ويحميه من كل المتربصين به.

خمسة وسبعون عامًا مضت، كانت لجيشنا فيها محطات مجيدة وحقق انتصارات مذهلة وبإمكانات محدودة، ولكنّه أيضًا عاش محطات مرهقة. أضنته حروب الآخرين على أرضنا وعليه، شرذمته حروب الداخل، أضعفته قوة الميليشيات، ومورست عليه شتّى أنواع الابتزاز، ولكن ولاءه للوطن كان دومًا الصمغ الذي يعيد التحامه، ومناقبيته كانت الدرع الذي يحميه من الانزلاق. وقد علّمتنا تلك التجارب القاسية أن الجيش هو قلب الوطن ولا جسد يبقى إذا ضُرب قلبه. ولذلك ظل يشكّل الأمل للبنانيين، وحصن الأمان كيفما تقلّبت الأحوال.

اليوم، أنتم تختتمون مرحلة من حياتكم تلقيتم فيها كل أنواع التدريب والتعلّم وفنون القتال، للدفاع عن وطنكم وشعبكم، لتنطلقوا إلى المرحلة التطبيقية وإلى الحياة العسكرية الحقيقية، وتشاء الظروف أن تتزامن انطلاقتكم مع تحدّيات وصعوبات كبيرة تواجه الوطن وشعبه ومؤسساته.

فلبنان اليوم يخوض حربًا من نوع آخر، ولعلها أشرس من الحروب العسكرية، لأنّها تطال كل لبناني بلقمة عيشه، بجنى عمره، وبمستقبل أبنائه، حيث الوضع الاقتصادي والمالي يضغط على الجميع ولم ينج منه أحد. وأعداء لبنان في هذه الحرب كثر:

العدو الأول هو الفساد المستشري في المؤسسات وفي الكثير من النفوس، وهو يقاوم بشراسة ولكن الخطوات نحو استئصاله تسير وإن يكن ببطء، ولكن بثبات.

العدو الثاني هو كل من يتلاعب بلقمة عيش المواطنين ليراكم الأرباح.

العدو الثالث هو من أسهم ويُسهم بضرب عملتنا الوطنية ليكدّس الأموال.

العدو الرابع هو كل من يطلق الشائعات لنشر اليأس وروح الاستسلام، وأيضًا من يجول دول العالم محرّضًا ضد وطنه وأهله وناسه ومحاولًا حجب أي مساعدة عنهم.

أضف الى ذلك عدو خفي على شكل فيروس، هاجم البشرية جمعاء ولما يزل، مخلفًا الضحايا وضاربًا اقتصاد العالم، ونال لبنان قسطه من هذه الهجمة وسقط لنا ضحايا وزادت أزمتنا الاقتصادية تفاقمًا، وها هو يمنعنا اليوم من اللقاء».

وأكّد رئيس الجمهورية أنّ «الانتصار في هذه الحرب هو على همتنا جميعًا دولة ومواطنين، لكل دوره، فإن أحسن القيام به يصبح الخلاص ممكنًا. أما الوقوف جانبًا وإطلاق النار على كل محاولات الإنقاذ، وتسجيل الانتصارات الصوتية خصوصًا ممن تهرّبوا من المسؤولية في خضم الأزمة فلا «يُسمن ولا يغني من جوع».

إنّ الخطوات الإصلاحية التي بدأ تنفيذها لمعرفة واقع المال العام وفرملة الفساد ووضع اليد على الملفات المشبوهة تمهيدًا للمعالجة المناسبة وملاحقة الفاسدين، لن تتوقف عند مؤسسة واحدة بل ستنطلق منها إلى كل المؤسسات، وهي ستساهم باستعادة ثقة اللبنانيين بدولتهم وأنفسهم تمهيدًا لاستعادة الثقة بلبنان.

ومع إقرار الخطة المبدئية لعودة النازحين السوريين إلى بلادهم التي أصبحت بمعظمها آمنة وقادرةً على استيعابهم، تكون الدولة قد وضعت تصورًا موحدًا لحل هذه الأزمة ونأمل أن تتجاوب معنا الدول المعنية لتأمين العودة الآمنة والكريمة».

كذلك، تطرّق الرئيس إلى الخروقات الإسرائيلية والمسؤوليات المترتبة على المتخرجين الجدد، فقال لهم:

«إنّ إسرائيل تخرق بوتيرة متصاعدة القرار ١٧٠١، وتتوالى اعتداءاتها على لبنان، ومع تأكيد حرصنا على الالتزام بهذا القرار وبحل الأمور المتنازع عليها برعاية الأمم المتحدة، إلا أنّنا ملزمون أيضًا بالدفاع عن أنفسنا وعن أرضنا ومياهنا وسيادتنا، ولا تهاون في ذلك.

واجبكم أن تظلوا العين الساهرة على السيادة اللبنانية في وجه الأطماع الإسرائيلية، وعين أخرى على كافة الحدود والداخل منعًا من تسلل الإرهاب إلينا مجددًا، فمن طرد الإرهابيين من سهولنا وجبالنا لا يجب أن يسمح لهم بالعودة اليها متنكرين بلباس آخر ومسمّى آخر».

وفي حنين إلى المؤسسة العسكرية قال رئيس الجمهورية: «أنا ابن هذه المدرسة، تعلّمت منها أن الاستسلام ممنوع، تعلمت منها أن نحفر الصخر لنفتح طريقًا، تعلمت أن نسير بين الألغام لننقذ جريحًا. الجريح اليوم هو الوطن، وعهدي لكم أن أبقى سائرًا بين الألغام، وأن استمر في حفر الصخر لفتح طريق إنقاذه، والأكيد أن الاستسلام لا مكان له في مسيرتي».

وختم الرئيس كلمته مشيرًا إلى أنّ «البزة المرقطة لطالما كانت عامل ثقة وطمأنة لكل اللبنانيين، فكونوا المثال والقدوة، بالمناقبية العسكرية، بالتعاطي الأخلاقي مع رفاقكم ومع المواطنين، وبالولاء للوطن، وله وحده».

 

كلمة من القلب

وتوجّه قائد الكلية الحربية بدوره بكلمة من القلب إلى ضباط هذه الدورة، داعيًا إياهم إلى عدم الأسف لإلغاء الاحتفال الرسمي لتخرّجهم، وقال لهم: «للأسف هذه الأمور لطالما حدثت وتحدث في لبنان، وعديدة هي الدورات التي لم تحظ بفرصة الاحتفال بتخرّجها بسبب الحروب والظروف التي غالبًا ما عانى منها لبنان. ولكن بعض هذه الدورات خرّجت ضباطًا تسلّموا سدّة قيادة الجيش في ما بعد!

وعلى الرغم من أنّ الأسباب خارجة عن إرادتنا، ولكن على الأقل يمكنكم أن تفرحوا بأنّ مراسيمكم قد وُقِّعت والنجمة التي تعلّقونها اليوم على أكتافكم هي شرعية. صحيح أنّ الاحتفال يبقى ذكرى جميلة لكم، ولكنّه لا يضيف شيئًا على مسيرتكم العسكرية، فعملكم والتزامكم سيكونان مصدر فخركم ونجاحكم».

وختم العميد الحايك قائلًا: «أنتم أبناء دورة واحدة ومؤسسة واحدة هي المؤسسة العسكرية، مهما اختلفت اختصاصاتكم. فطبّقوا المبادئ التي تعلّمتموها واكتسبتموها في الكلية الحربية في حياتكم العسكرية، وليكن ميثاق شرف التلميذ الضابط هو ميثاق شرف مسيرتكم كلّها. اعتمدوا على القوانين والجأوا إليها واحتموا بها...».

 

مراسيم وشهادات وشارات

بعد هذا الكلام المشجّع الذي مدّ الضباط الجدد بالأمل، قُرئت مراسيم الترقيات وسلّم العميد الركن الحايك الشهادات للمتخرّجين. وها هي النجوم تتلألأ على الأكتاف مع تقليد طليع الدورة الملازم أنطوني التوني شارة الرتبة الجديدة وإعطاء الأمر للباقين بتعليق شاراتهم. إنّها للحظة انتظروها وحلموا بها يوميًا على مدى ثلاث سنوات، وربما هو حلم الطفولة لمعظمهم... رحّب العميد الركن الحايك بهم زملاء ورفاق في المؤسسة، ثم توجّه معهم إلى أمام النصب التذكاري لشهداء ضباط الجيش، لالتقاط الصورة التذكارية ويودّعوا هذه الكلية التي ستظلّ الأساس الصلب لانطلاقتهم في ميدان الرجال...