دور إسرائيل ومكاسبها في نظام "الفوضى البتاءة" الأميركي

دور إسرائيل ومكاسبها في نظام "الفوضى البتاءة" الأميركي
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

أوّلاً: الفوضى في الأماني الإسرائيليّة

عندما قيل لوزيرة الخارجيّة الأميركيّة كوندوليزا رايس إنّ التفاعلات التي تحدثها السياسة الأميركيّة في منطقة الشرق الأوسط، لا تترك مجالاً سوى للاختيار ما بين الفوضى أو سيطرة الجماعات الإسلاميّة الأصوليّة على السلطة، وإنها لن تؤدّي إلى انتصار الديموقراطيّة، لم تتردد كاندي (قطعة السكر)، حسبما يحلو للرّئيس الأميركي جورج بوش أن يناديها، في أن ترسل ابتسامة عريضة وتردّ بالقول: "إنّ الوضع الحالي ليس مستقرّاً والفوضى التي تفرزها عملية التحوّل الديمقراطي في البداية هي من نوع الفوضى البنّاءة"([1]) التي تنتج، حسب رأيها، خلطاً جديداً للأوراق يجعل الأوضاع أفضل ممّا تعيشه المنطقة حاليّاً، حتّى لو أدّت الأمور، في ما تؤدّي إليه، إلى تغيير واستبدال الأنظمة الحليفة والموالية. ووجّهت السيّدة رايس انتقادات عنيفة إلى سياسة القبول بالأمر الواقع بدعوى الحفاظ على الإستقرار.
والواقع أنّ مصطلح "الفوضى البنّاءة" هو واحد من المصطلحات السياسيّة غير المألوفة التي يطرحها صنّاع السياسة الأميركيّة في ظلّ سيطرة المحافظين الجدد. ويقصد بها أداء وظائف محدّدة للتضليل وإخفاء حقيقة النّوايا وتجميل العيوب الظاهرة في المواقف والأهداف والسياسات، فيصبح السلبيّ إيجابياً والقبيح حسناً؛ لكن منذ متى كانت الفوضى مطلوبة أو إيجابية أو بنّاءة ؟!.
بعد المرحلة الأولى من الإستراتيجيّة الكونيّة الأميركيّة التي أعقبت أحداث 11 أيلول 2001، والتي كان شعارها "الحرب على الإرهاب"، نجد أنّ المرحلة الحاليّة تتمّ تحت شعار ملتبس عنوانه "الحرب على الاستبداد ونشر الديمقراطيّة". والفرق بين المرحلتين، أنّ الأولى تطلّبت استخداماً فاضحاً للقوّة العسكريّة وممارسة الاحتلال الفعلي في كلّ من أفغانستان والعراق، في حين أنّ المرحلة الراهنة تعتمد، على الأرجح، على وسائل غير عسكريّة، من دون استبعاد كلّي لاستخدام هذه القوّة.  والجدير بالملاحظة أنّ خطّة التحرّك الأميركيّ في المنطقة لا تجري وفقاً لجدول زمنيّ محدّد ولا تخضع لترتيب هرمي في الأولويات، وهي تتمتع بالقدر الكافي من المرونة الحركيّة والزمنيّة والمكانيّة على أيّ من الجبهات المستهدفة وفقاً لما تمليه الضرورات والظروف المتغيّرة. وبالتالي فالمعنى الحقيقيّ "للفوضى البنّاءة" هو عبارة عن خلط غير بريء للعناوين والأهداف، يرمي في المحصّلة إلى تفكيك مجتمعات منطقة "الشرق الأوسط الكبير" برمّتها، وبصورة تدريجيّة، إلى عناصرها الأوّليّة، قبل قيام الدولة القطريّة السياديّة الوطنيّة بحدودها المرسومة على الأرض وفي وجدان المواطنين وضمائرهم وفقاً لأطر القانون الدولي وسلوك الجماعة، في ظلّ شعارات السوبر دولة وأحاديّة القطبيّة الأميركيّة التي تصنّف أغلب الأنظمة "أنظمة مارقة" أو "داعية للإرهاب" بدعوى انه "من ليس معنا فهو ضدّنا" و"الكل متّهم حتّى يثبت براءته". والغاية النهائية لكلّ هذه الفوضى التحريضية هو إزاحة الأنظمة والقيادات التي تراها واشنطن معادية لها ولحليفتها المدلّلة إسرائيل، وترك المجتمعات المنهارة في حالة هرج ومرج تذكّرنا بأيّام القرون الوسطى من حيث إحياء الضّغائن التاريخيّة والنّعرات العنصريّة والعصبيّات المذهبيّة والطائفيّة والعرقيّة وإذكاء الغبن الاجتماعيّ، والاستفادة من حالة التذمّر العامّة من الإستبداد السياسيّ والظّلم الاقتصاديّ. والخطورة في الأمر أنّ أغلب الأنظمة العربيّة لا تمتلك الّلياقة السياسيّة التي تمكّنها من إبداع سياسات تؤدي للتصدّي لمصطلح "الفوضى البنّاءة" وتفريغه من تداعياته وسلبيّاته بالأساليب الموضوعيّة والأقرب إلى الحسّ الوطني واحترام كرامة الإنسان.

لقد شكّلت السياسات الإسرائيليّة ضدّ لبنان، منذ مطلع الخمسينات، بزعامة دافيد بن غوريون، أول رئيس حكومة اسرائيلية، المؤشّر الأوّل لجذور نظام "الفوضى البنّاءة" في المنطقة. فبن غوريون نظر إلى لبنان على أنّه الحلقة الأضعف في التحالف العربي، وقال إن تمزيق لبنان عن طريق إحداث الفوضى فيه، سيؤدي تلقائيّاً إلى تمزيق هذا التحالف. وقد أوضح موشيه شاريت، الذي شغل منصب وزير الخارجيّة ثمّ رئاسة الحكومة في تلك الحقبة، والذي كان على خلاف حادّ مع بن غوريون، أنّ هذا الأخير أرسل إليه خطّة مطوّلة، شرحها تفصيليّاً في مذكّراته، يبيّن فيها الأهداف التي يمكن الوصول إليها إذا ما تمّ تمزيق لبنان على أساس الأهداف والتطلّعات الصهيونيّة. وممّا جاء فيها ما يلي: "من الواضح أنّ لبنان هو الحلقة الأضعف في الجامعة العربيّة... ولكنّ المسيحيّين في لبنان... هم أكثريّة... ولذلك فإنّ إيجاد دولة مسيحيّة، هو عمل طبيعيّ، وله جذور تاريخيّة وسيجد الدّعم لدى أوساط العالم المسيحيّ الكاثوليكيّ والبروتستانتيّ... للعمل على إقامة دولة مسيحيّة في جوارنا... ومن دون مبادرتنا ومساعدتنا القويّة لن يتمّ ذلك. وإنّ علينا أن نعمل بكلّ الطرق الممكنة لتحقيق حصول تغيير جذري في لبنان. ويجب تجنيد إلياهو ساسون وسائر خبرائنا في الشؤون العربيّة من أجل تركيز كلّ جهودنا على هذا الموضوع، فهذه فرصة تاريخيّة لا ينبغي تفويتها، ولن يسامحنا أحد إذا نحن أضعناها ... ولن نصل إلى الهدف من دون تغيير الحدود اللبنانيّة، لكن إذا ما عثرنا في لبنان، أو بين المغتربين منه، على رجال مستعدّين للتجنّد لإقامة دولة مارونيّة فإنّ الأمور ستجري على ما يرام"([2]). وقد ردّ شاريت على بن غوريون بالقول: "لا أستبعد تحقيق هذا الهدف في أعقاب موجة من الهزّات التي تجتاح الشرق الأوسط وتدمّر عناصر التركيبة الحاليّة". إلاّ أنّ شاريت كان يعترض على بن غوريون في تسرّعه لعدّة أسباب أهمّها في رأيه ما يلي:
أ­ إنّ المسيحيّين لا يشكّلون الأكثريّة في لبنان.
ب­ إنّ الحرب الدمويّة والفوضى التي ستولّدها ربّما لن تقتصر على لبنان وحده.
ج­ إنّ جبل لبنان لم يكن مكتفياً بذاته، ولا يمكن فصله عن سائر مناطق لبنان الكبير، وقد يؤدّي المشروع إلى انتحار لبنان اقتصاديّاً.
 وأثناء اجتماع مشترك لكبار مسؤولي وزارتيّ الخارجية والدّفاع في 16 أيّار 1954 عاد بن غوريون، بعد أن أصبح وزيراً للدّفاع، إلى ما يسمّيه شاريت "حلمه القديم" في التدخّل في لبنان، وأثار مجدّداً مطالبته بأنّ تسارع إسرائيل إلى فعل شيء بالنّسبة للبنان. وقد عبّر الجنرال موشيه ديان، الذي أصبح في ما بعد رئيساً للأركان ووزيراً للدّفاع، عن دعمه المتحمّس لرئيسه بالقول: "إنّ الشيء الوحيد الضروريّ هو العثور على ضابط لبنانيّ، ويمكن أن يكون حتّى برتبة رائد، لكي يؤدّي المهمّة. وعلينا أن نستميله أو نشتريه بالمال كي يوافق على إعلان نفسه منقذاً للسكّان الموارنة، وبعد ذلك يدخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان ويحتلّ الأراضي اللاّزمة ويقيم نظام حكم مسيحي متحالف مع إسرائيل. وسيتمّ ضمّ الأراضي الواقعة جنوبيّ الليّطاني بشكل نهائي إلى إسرائيل" ([3]).
بطبيعة الحال لم يتمكّن بن غوريون من تحقيق أهدافه الآنفة الذّكر، لأسباب داخليّة، وأخرى تتعلّق بتنامي تيّار القوميّة العربيّة الّذي قاده الرئيس جمال عبد النّاصر في مصر، وبسبب صفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية للجيش المصري، مّما صرف الأنظار الصهيونيّة مؤقّتاً عن لبنان. إلاّ أنّه مع بداية الثّمانينات وخصّوصاً في أعقاب توقيع مصر اتفاقيّة الصّلح المنفرد مع إسرائيل عام 1979، عادت أفكار إحداث الفوضى والاصطياد في الماء العكر تراود فكر القياديّين الصّهاينة. فقد كتب عوديد يينون، الصّحافي والموظّف في وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة، في شهر شباط 1982 مقالاً بالغ الأهميّة في مجلّة "كيفّونيم" المتخصّصة في الشؤون العسكرية والاستراتيجية، يشرح فيه الرّؤية الصهيونيّة بخصوص إحداث الفوضى الخلاّقة في المنطقة، وما يمكن لإسرائيل أن تجنيه من خلالها. وممّا جاء في ذلك المقال: "إنّ حرب الموارد في العالم ­ وليس احتكار العرب للنّفط فحسب، بل أيضاً حاجة الغرب كلّه إلى استيراد معظم مواده الخام من دول العالم الثّالث­  تجعل عالمنا يتمايز عن العالم الذي ألّفناه. وعندما يتّضح لنا أنّ من بين الأهداف السياسيّة للإتحاد السوفياتي إخضاع الغرب بواسطة السيطرة على الموارد الهائلة للخليج الفارسي ولجنوب القارّة الأفريقيّة، حيث تتوافر معظم المعادن في العالم اليوم، فإنّنا نستطيع أن نتصوّر أبعاد المواجهة العالميّة التي تقف على عتبتنا في المستقبل"([4]).
ويضيف يينون : "إنّ العالم العربي الإسلاميّ ليس هو المشكلة الإستراتيجيّة الأساسيّة التي ستواجهنا خلال الثمانينات، وذلك على الرّغم من أنّ له النّصيب الأوفر في تهديد إسرائيل بسبب قوّته العسكريّة الآخذة في الازدياد. وهذا العالم، بطوائفه وأقليّاته وأجنحته ونزاعاته الداخليّة التي تؤول إلى دمار داخلي مذهل، كما نشهد اليوم في لبنان وإيران غير العربيّة ومن ثمّ في سوريا أيضاً، غير قادر على التصدّي لمشكلاته الأساسيّة الشاملة، وبالتالي فإنّه لا يشكّل تهديداً  فعليّاً لدولة إسرائيل في المدى البعيد، وإنّما في المدى القصير، إذ هناك أهميّة كبرى لقوّته العسكريّة الآنيّة. أمّا على المدى البعيد، فهذا العالم لا يستطيع البقاء ببنيته الحاليّة في المناطق المحيطة بنا، من دون تقلّبات فعليّة. إنّ العالم العربي الإسلامي مبنيّ مثل برج ورقيّ مؤقّت شيّده أجانب (فرنسا وبريطانيا في العشرينات)، من دون اعتبار لإرادة السكّان وتطلّعاتهم. فقد تمّ تقسيمه إلى 19 دولة، كلّها مكوّنة من تجمّعات من الأقلّيّات والطوائف المختلفة، تناصب بعضها بعضاً العداء. هكذا فكلّ دولة عربيّة إسلاميّة، تتعرّض اليوم لخطر التفتّت الأمني ­الاجتماعي في الدّاخل، لدرجة أنّ في بعضها الآن تدور حروب أهليّة".
ضمن رؤية يينون هذه يكمن لبّ الاستراتيجيّة السياسيّة الصهيونيّة، التي هي إمتداد كما ذكرنا لرؤية بن غوريون. وهذه الرؤية مستمرّة حتى يومنا هذا وقد تمكّن القادة الإسرائيليّون من تجييرها إلى صلب الاستراتيجيّة السياسيّة الأميركيّة في المنطقة، خصوصاً في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001 التي أدّت إلى التبنّي الأميركي المكشوف والمهووس لها، كسياسة رسميّة متّبعة في أبعادها التعسّفيّة والإنتقاميّة على امتداد منطقة الشرق الأوسط الكبير برمّتها.
ولمزيد من التوغّل في مشهد الفوضى الذي تتمنّاه وتعمل له السياسة الإسرائيليّة بجميع أطيافها الحزبيّة، نعود إلى ما قاله يينون في مقاله من حيث أنّ العرب يعيشون  بأكثريّتهم في أفريقيا وخصوصاً في مصر التي، باستثنائها، فإنّ جميع دول المغرب مؤلّفة من مزيج من العرب والبربر. كما وإنّ الجزائر تشهد حروباً أهليّة متواصلة وقاتلة، والمغرب والجزائر يتصارعان على الصحراء الغربيّة، والإسلام الأصولي يهدّد سلامتهما بالإضافة إلى سلامة تونس، والرّئيس معمّر القذّافي حسب رأي يينون يخوض انطلاقاً من ليبيا حروباً مدمّرة للعرب أنفسهم، والسودان متفسّخ...
أمّا في المشرق العربي، فالدول العربيّة الواقعة شرقيّ إسرائيل  "مجزّأة وممزّقة ومفكّكة داخليّاً أكثر ممّا هي عليه الحال في دول المغرب. فسوريا لا تختلف من حيث الجوهر عن لبنان الطائفي، إلاّ بنظام الحكم العسكري القويّ... والعراق لا يختلف جوهريّاً عن جارته... وكذلك إمارات الخليج والسعوديّة والبحرين وعمان واليمن والأردن وإيران وتركيا وأفغانستان".
وينتهي يينون إلى تلخيص مشهد الفوضى هذا بقوله: "إنّ صورة الوضع القوميّة­ الإثنيّة­ الطائفيّة هذه، من المغرب حتّى الهند، ومن الصومال حتّى تركيا، تشهد على انعدام الإستقرار وعلى التفتّت السريع في جميع أنحاء المنطقة المحيطة بنا. وعندما نضيف إلى ما تقدّم الصورة الإقتصاديّة، ندرك إلى أيّ حدّ تقوم المنطقة بأسرها فعلاً على برج من ورق، من دون أيّة فرص للتصدّي لمشكلاتها الخطرة". وينتقد يينون سياسة السلام المتبّعة في المنطقة ويقول: "إنّ سياسة السلام وإعادة مناطق (إلى العرب) عن طريق الإعتماد على الولايات المتّحدة، تحول دون تحقيق الخيارات الجديدة التي تنشأ أمامنا. فمنذ عام 1997، أخضعت جميع الحكومات الإسرائيليّة أهدافنا القوميّة لأغراض ضيّقة تتعلّق بتولّي السّلطة من ناحية والإتّجاهات الهدّامة في الدّاخل من ناحية أخرى، وكبّلت أيدينا إزاء الخارج والدّاخل. إنّ عدم إتّخاذ خطوات إزاء السكّان العرب في المناطق الجديدة عبر الحرب التي فرضت علينا، هو الخطأ الإستراتيجي الأساسي الذي ارتكبته إسرائيل غداة حرب الأيّام الستة (1967). وفي مقابل هذه السياسة التي كانت ستوفّر علينا كلّ هذا النّزاع الشديد والخطر، كان في إمكاننا أن ننهيه بواسطة إعطاء الأردن للفلسطينيّين الذين كانوا يقطنون غربيّ نهر الأردن. وبذلك كنّا سنحيّد المشكلة الفلسطينيّة التي نواجهها اليوم، والتي وجدنا لها حلولاً ليست بحلول، مثل الحلّ الإقليمي الوسط، أو الإدارة الذاتيّة التي هي في الواقع الشيء نفسه. واليوم تتاح أمامنا إمكانات هائلة لتغيير هذه الأوضاع من جذورها، وعلينا أن ننجز هذا عمليّاً خلال العقد القادم. ومن دون ذلك فلن نتمكّن من البقاء كدولة...
إنّ أسطورة مصر القويّة والرائدة بين الدول العربيّة، قد تحطّمت منذ عام 1956، وطبعاً في عام 1967، لكنّ سياستنا، مثل إعادة سيناء، جعلت هذه الأسطورة اليوم حقيقة؛ ومن النّاحية الواقعيّة، فإنّ قوّة مصر بالنّسبة لإسرائيل وحدها، أو بالنّسبة إلى العالم العربي بأسره، قد انخفضت منذ عام 1967 بنسبة 50 % تقريباً. ولم تعد مصر القوّة القائدة سياسيّاً في العالم العربي. وقوّتها الاقتصاديّة أصبحت في مهبّ الرّيح، وستنهار غداً من دون المساعدات الخارجيّة... إنّ مصر بطابعها وصورتها السياسيّة الداخليّة القائمة، تعتبر منذ اليوم جثّة هامدة حقّاً في أعقاب انهيارها، وفي أعقاب الإنقسام الإسلامي­ المسيحي الذي سيزداد شدّة وتأزّماً في المستقبل. إنّ تجزئة مصر، إقليميّاً، إلى وحدات فرعيّة جغرافيّة منفصلة هي هدف إسرائيل السياسي في الثمانينات في جبهتها الغربيّة".
 يتابع يينون شرح نظرية الفوضى الخاصة به فيقول:  "إنّ مصر مفكّكة ومنقسمة إلى عناصر سلطويّة كثيرة وهي اليوم لا تشكّل أيّ تهديد لإسرائيل وإنّما ضمانة للأمن والسلام لوقت طويل... ومتى تفتّتت مصر تفتّت الباقون... ذلك أنّ تفتّت لبنان بصورة مطلقة إلى خمس مقاطعات إقليميّة هو سابقة للعالم العربي بأسره، بما في ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربيّة... إنّ تفتيت سوريا والعراق لاحقاً إلى مناطق ذات خصوصيّة إثنيّة ودينيّة واردة على غرار لبنان، وهو هدف من الدرجة الأولى بالنّسبة لإسرائيل في الجبهة الشرقيّة في المدى البعيد. غير أنّ تشتيت القوّة العسكريّة لهذه الدول هو اليوم الهدف المرسوم في المدى القصير، وسوف تتفتّت سوريا وفق التركيب الإثنيّ والطائفيّ إلى عدّة دول مثل لبنان حاليّاً، بحيث تقوم على ساحلها دولة علويّة­ شيعيّة، وفي منطقة حلب دولة سنّيّة، وفي منطقة دمشق دولة سنّيّة أخرى معادية للدولة الشماليّة، والدروز سيشكّلون دولة، ربّما أيضاً في الجولان، وطبعاً في حوران وشماليّ الأردن، وستكون هذه ضمانة الأمن والسلام في المنطقة بأسرها على المدى الطويل، وهذا الأمر في متناول يدنا منذ اليوم".
ثمّ يتناول يينون المشكلة الديموغرافيّة الإستيطانية فيقول: "إنّ توزيع السكّان هو، إذاً، هدف استراتيجي داخلي أساسي، وإلاّ فلن تقوم لنا قائمة في المستقبل ضمن أيّ حدود كانت. إنّ السّامرة ويهودا (الضفّة الغربيّة) والجليل، هي الضمانة الوحيدة لوجود الدولة، وإذا لم نصبح أكثريّة في المناطق الجبليّة، فلن نسيطر على البلد، وسوف نصبح مثل الصليبيّين الذين فقدوا هذا البلد الذي لم يكن لهم بطبيعة الحال وكانوا فيه أغراباً منذ البداية، إنّ إعادة التوازن الديموغرافي الإستراتيجي والإقتصادي المعيشي إلى سكّان البلد تشكّل الهدف الرّئيس والأساس اليوم... ومن النّاحية العسكريّة­ الإستراتيجيّة، فإنّ الغرب عامّةً والولايات المتّحدة على رأسه، غير قادر على مواجهة ضغط الإتّحاد السوافياتي في جميع أنحاء العالم. وعلى إسرائيل أن تقف وحدها خلال الثمانينات بلا مساعدة خارجيّة، لا عسكريّة ولا اقتصاديّة. وهذا ما نحن قادرون عليه من دون أيّ تباطؤ. فهناك تغييرات سريعة في العالم سوف تؤدّي إلى تغيير وضع يهود الشّتات، إذ لن تكون إسرائيل ملاذاً  أخيراً بالنسبة إليهم فحسب وإنّما أيضاً الخيار المعيشيّ الوحيد".
هذه هي باختصار أهمّ خطوط واقع حال "الفوضى البنّاءة" في حيثيّات الأماني والأحلام والمخططات الإسرائيليّة تجاه ما يسمّى حاليّاً منطقة الشرق الأوسط الكبير. وهي خطوط عبّر عنها رئيس الحكومة الإسرائيليّة الحالي الجنرال آرييل شارون منذ ما قبل اجتياح لبنان عام 1982 ضمن مقال نشرته صحيفة معاريف في 18/12/1981 تحت عنوان "الخطاب الذي لم يُلق" حيث تحدّث عن مستلزمات ومتطلّبات سياسة إسرائيل الدّفاعيّة التي تشمل ثلاث دوائر: الأولى وتطال دول المواجهة العربيّة المحيطة بإسرائيل مباشرةً، والثانية تطال الدول العربيّة الخارجيّة، أي ما وراء خطوط المواجهة، والثالثة، وتشمل الدول التي قد تؤثّر مكانتها وتوجّهاتها السياسيّة الإستراتيجيّة بمقدار خطر على أمن إسرائيل القومي "أيّ ما وراء الدول العربيّة في الشرق الأوسط وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسّط، مثل تركيا وإيران وباكستان، ومناطق مثل الخليج الفارسي وأفريقيا وبصورة خاصّة دول أفريقيا الشماليّة والوسطى".([5])

 

ثانياً: الفوضى البنّاءة في تطوّرات العالم العربي
إنّ استراتيجيّة الفوضى البنّاءة التي تبنّتها السياسة الأميركيّة الحاليّة في ظلّ ولاية المحافظين الجدد من خلال الإستراتيجيّات الإسرائيليّة التاريخية المتعاقبة منذ الخمسينات وحتّى اليوم، تتناول أوضاع المنطقة العربيّة بنوع خاصّ في جميع مقدّماتها وهيكليّاتها، أنظمةً ودولاً وطبقات اجتماعيّة، وفي مجالات الاقتصاد والثّقافة والأمن وسواها. وهذه الإستراتيجيّة حلّت محلّ الشعار الأميركي الذي سبق أحداث الحادي عشر من أيلول، والذي كان ينادي بثبات الأنظمة السياسيّة العربيّة واستقرارها، والذي كان من نتائجه تفشّي ظواهر الإستبداد السياسي والرّضوخ للإملاءات الخارجيّة وتجذّر البيروقراطيّة والفساد الإداري والمالي والسياسي واعتماد قوانين الطوارئ داخليّاً مقابل تبنّي سياسة السلام الضعيف كخيار استراتيجي مع العدوّ الإسرائيلي بحيث تمّ تشويه أو تسخيرالمسألتين الوطنيّة والقوميّة لصالح سياسة الإلحاق من قبل الدول العربيّة الكبرى للدول العربيّة الصغرى، فتحوّلت الأحزاب والقيادات السياسيّة إلى مجرّد هوامش ملحقة تصلح لجميع المراحل والحالات، في خدمة أنظمة استهلكت في أغلبيّتها الساحقة رأس مالها الماديّ والمعنويّ وفقدت مبرّر شرعيّتها الذي قام في الأساس على تحقيق الإستقلال والحفاظ عليه، بل وأنّها بفضل فقدانها صدقيّتها ودورها ووزنها السياسي، فقدت حتّى القدرة على مواجهة أوضاع عالميّة متسارعة تغيّرت فيها موازين القوى ونوعيّة العلاقات والمقاييس والقيم، ولم يعد لها القدرة حتّى على لعب ورقة الإنحياز أو عدمه أو الرفض أو الإعتدال في الّلعبة الدوليّة، في انتظار استشراء وتفشّي الفوضى الكارثيّة وكوابيس المستقبل فيها. تشهد على ذلك تقارير التنمية السلبيّة الصّادرة عن أعلى المراجع في الأمم المتّحدة بشأنها، بالإضافة إلى ما ورد من أبحاث ودراسات صادرة عن مؤتمرات هرتسيليا المتتابعة، وهي مؤتمرات للأبحاث الإستراتيجيّة الإسرائيليّة تناولت مجموعة من النّقاط والقضايا الحسّاسة في العالم العربي المتعلّقة بأجواء الفوضى المدمّرة التي تستفيد منها إسرائيل والسياسة الأميركيّة معاً ومن أبرزها:
أ­ الفساد المالي وغير المالي في الدول العربيّة إبتداءً من الدول الأربع الكبرى وهي مصر وسوريا والسعوديّة والأردن، ومعها إيران.
ب ­ سوء وضع الحرّيّات المدنيّة وحقوق الإنسان في العالمين العربي والإسلامي وما يمكن أن تفرضه واشنطن على دول هذين العالمين من متغيّرات تصبّ في النهاية في صالح الأمن الإسرائيلي والسمعة الإسرائيلية.
ج ­ عدم الإستقرار السياسي المطلوب وانعدام توفّر أسسه وتوابعه ومتطلّباته مع الأخذ بعين الإعتبار سنوح فرصة الإستفادة من المطالبة بحقوق الأقليّات ومشاريع وخطط تقسيم وإعادة تركيب العديد من الأنظمة العربيّة على أساس الفدرالياّت والكونفدراليّات والكيانات المنفصلة.
وفي ظلّ هذه النقاط تسعى السياسة الأميركيّة الإسرائيليّة المشتركة إلى تحقيق الأهداف التالية: 
1­ مكافحة "الإرهاب"، ليس فقط بالآلة العسكريّة، وإنّما أيضاً بالسياسات الإقتصاديّة والديبلوماسيّة والثقافيّة.
2­ إحكام السيطرة على مصادر النفط الممتدّة من وسط آسيا إلى منطقة الخليج.
3­ إعادة تشكيل التوازنات الإقليميّة لما يمهّد لفرض الهيمنة الأميركيّة على العالم بأسره.
4­ منع ظهور القوى الكبرى المنافسة (الصين، روسيا، الإتحاد الأوروبي) وتعطيل منافستها للولايات المتّحدة الأميركيّة.
5­ إعادة تشكيل العالمين العربي والإسلامي وإلحاقهما بما يتناسب مع مصالح التّحالف الاستراتيجي الوثيق الأميركي الصهيوني.
6­ ضرب وتعطيل مختلف مراكز المقاومة المتبقّية في المنطقة من خلال التطبيع الأمني والمالي والسياسي واستغلال ورقة الأقليّات الطائفيّة والإثنيّة.
من هنا يتبيّن أنّ باطن الأمور ما وراء شعارات مثل "الفوضى البنّاءة" أو "الغموض البنّاء" إنّما هو القضاء على أيّ شكل من أشكال المخاطر أو الإزعاج ضد المصالح الأميركيّة الإسرائيليّة المشتركة تحت ذريعة نشر الديمقراطيّة ومكافحة "الإرهاب"، في حين أنّ الأهداف الحقيقيّة هي إسقاط بعض الأنظمة المستعصية ونزع أسلحة المقاومة وتفكيك بناها التحتيّة في كلّ من لبنان وفلسطين بنوع خاص([6]). وقد قال ناحوم تشومسكي في هذا الصدد إنّ  كلّ  شعارات النّظام العالمي الجديد هي مجرّد إدّعاءات أخلاقيّة فارغة تستخدم للتمويه على النوايا والأهداف الحقيقيّة. وأضاف: "إنّ الدول العظمى لا تتصرّف بناءً على التزامات أخلاقيّة، وهي كثيراً ما تخفي سياساتها خلف قناع من البلاغة الّلفظيّة النبيلة  المقاصد([7]). ومن الشواهد الموضوعيّة على حقيقة أهداف هذا المسار من الفوضى، سلسلة المواقف الإعتباطية التي تبنّتها الولايات المتحدة في أعقاب  انهيار الإتّحاد السوفياتي وحصول أحداث الحادي عشر من أيلول وكلّها تصبّ في ما يمثّله تيّار المحافظين الجدد من مفاهيم الهيمنة ومواقف التفرّد إزاء العالم عموماً والشرق الأوسط خصوصاً وأهمّها:([8])
­إنسحاب الولايات المتحدة من طرف واحد من اتفاقيّة الصواريخ المضادّة (A. B. M- anti balistic missiles) الذي أثار مخاوف حلفاء أميركا، فهذه الإتفاقيّة كانت تعتبر أساس التوازن الإستراتيجي في العالم.
­ مقاطعة مؤتمر التصديق على معاهدة حظر التجارب النوويّة، ومؤتمر المراجعة الذي عقد حول الأسلحة البيولوجيّة.
­ رفضها التصديق في الكونغرس على معاهدة روما الخاصّة بالمحكمة الجنائيّة الدّولية، وقد برّرت خشيتها على هذا الصعيد من احتمال أن تتحوّل المحكمة إلى "أداة سياسية" ضدّ تصرّفات جنودها المنتشرين في مناطق كثيرة من العالم. وكذلك رفضت إسرائيل التصديق على إنشاء هذه المحكمة تضامناً مع الأميركيّين أوّلاً وثانياً لأنّها لا تقبل بأن ينظر إلى إستيطانها في المناطق الفلسطينية المحتلّة على أنّه من كبريات الجرائم الدوليّة التي يقع اختصاصها ضمن اختصاصات المحكمة، الأمر الذي يضعها خارج نطاق الشرعيّة الدوليّة ويفضح سياساتها العنصريّة والإستعمارية والإجلائيّة ممّا يشكل جريمة ضد الإنسانيّة.
­ تبنّي سياسة انحياز كامل وبعيد المدى في سياستها الشرق أوسطيّة لصالح إسرائيل ممّا أدّى إلى إحراج حتّى حلفائها العرب. ومن معالم هذه السياسة التحلّل من التزامات إدارة الرّئيس كلينتون ورفض وزير الخارجيّة كولن باول مناقشة موضوع الإنتفاضة، قبل الإنتهاء من حسم المسألة العراقيّة.
­ رفض توقيع اتفاقيّات كيوتو الخاصّة بحماية البيئة، الأمر الذي ردّت عليه الدول المؤثّرة في العالم بعدم انتخاب الولايات المتّحدة مجدّداً في الّلجنة العالميّة لحقوق الإنسان.

 

ثالثاً: الإستفادة الإسرائيليّة من الهجوم على العراق
 لعل من أبرز مؤشّرات تطبيق نظام "الفوضى البنّاءة" تجاه العالم العربي ما قامت به إدارة الرّئيس جورج بوش الإبن من انقلاب على مبدأ الإحتواء  واستبداله بمبدأ استخدام القوّة العسكريّة بالصورة المباشرة، وهو ما بيّنته الحرب ضدّ العراق التي تتناقض مع السلوك الإستراتيجي العسكري لجميع الإدارات السابقة. فقد عنت هذه الحرب التخلّي عن معظم الثوابت الإستراتيجيّة الأميركيّة في الحروب، والإنطلاق نحو نظام جديد من الفوضى الإجرائية تتمثّل في مجموعة من الخطوات الفريدة من نوعها ومن أبرزها:([9])
­إعلان الحرب من دون الحصول على موافقة مجلس الأمن الدولي.
­ إعلان الحرب بالرّغم من معارضة حلف شمالي الأطلسي.
­ التخلّي عن مبدأ إشراك الأصدقاء وتوريطهم في الحرب.
­ عدم خوض حربين متزامنتين (الحرب غير المنتهية في أفغانستان إضافةً إلى الأزمة الكوريّة الحسّاسة والحرجة).
­اغتصاب موافقة الكونغرس بصورة مساومة على الأمن القومي.
­ إستخدام أسلحة محرّمة دوليّاً وأخرى جديدة تستخدم لأوّل مرّة.
­ إحراج أصدقاء أميركا التقليديّين وتهديدهم (السعوديّة وتركيا وفرنسا وألمانيا...)
­  قبول أصدقاء جدد من (الدول المارقة) السابقة مثل باكستان.
­ الدّخول في حرب مفتوحة وغير محدودة زمنيّاً (تبدو قابلة للتحوّل إلى حرب عصابات جديدة لا تنتهي تذكّر الأميركيّين بكوابيس فيتنام ).
­الإضطرار لتقديم ضحايا بشريّة أميركيّة (خصوصاً  إثر احتلال العراق).
­الدخول في تحدّي صدام الحضارات الذي طالما تجنّبته الإدارات السابقة.
على خلفيّة هذه النقاط نجد أنّ الإستنتاجات التي شاعت حول أهداف الحرب الأميركيّة ضدّ العراق قد تمحورت حول ثلاثة تقديرات أساسيّة هي:
1­ الاعتقاد بأنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة قد شنّت تلك الحرب سعياً وراء تحقيق مشروع إستراتيجي في الشرق الأوسط وهو مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يستهدف إحداث تغيير جيوبوليتيكي في المنطقة، عبر تغيير بعض الأنظمة السياسيّة العربيّة ونشر "الديمقراطيّة" الإستنسابية في المجتمعات العربيّة.
2­ إعتبار السيطرة الأميركيّة على نفط العراق الدافع الرّئيس للحرب، وأنّ المزاعم الأميركيّة حول امتلاك  العراق أسلحة دمار شامل كان دورها الأساسي التمويه على الأهداف "الحقيقيّة" للحرب ضد العراق.
3­ الإعتقاد بأنّ الحرب الأميركيّة ضدّ العراق جاءت كحرب بالوكالة لخدمة المصالح الحيويّة الإسرائيليّة، وأنّ التحريض الإسرائيلي ضدّ العراق قد أدّى دوراً كبيراً في إقناع إدارة الرّئيس بوش الإبن بضرورة شنّ هذه الحرب الأمر الذي تجلّى في العديد من الشهادات الرسميّة والصحفيّة الأميركيّة والبريطانيّة بنوع خاص.
وبطبيعة الحال نجد أنّ هذه التقديرات الثلاثة تتقاطع بصورة وثيقة في أهمّيتها وموضوعيّتها، ولكن ما من شكّ في أنّ العامل الإسرائيلي يبقى هو العامل الأشدّ وضوحاً وإلحاحاً في التحريض والتنفيذ.
لقد ادّعت إسرائيل، من الناحية الظّاهريّة الشّكليّة، أنّ الحرب الأميركيّة على العراق هي حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، وأن لا دور لها فيها. بل وأصدرت وزارة الدّفاع الإسرائيليّة، بتاريخ 19/3/2003 بياناً بهذا الشأن وردت فيه النّقاط التالية([10]):
­ إنّ إسرائيل ليست جزءاً من الصراع بين العراق والولايات المتّحدة.
­ إنّ إسرائيل تؤيّد كلّيّاً قرارات الأمم المتّحدة الخاصّة بالعراق وسياسة الولايات المتّحدة بقيادة الرّئيس بوش بهدف تجريد العراق من أسلحته غير التقليديّة.
­ إنّ النظام العراقيّ يشكّل خطراً، ليس فقط على إسرائيل، ولكن أيضاً على الإستقرار الإقليمي.
­ إنّ إسرائيل لن تشارك في العمل العسكريّ ضدّ العراق وإنّ مصالح الولايات المتّحدة هي التي تحكم تصرّفها ضدّ العراق.
­ إنّ إسرائيل كجزء من العالم الحرّ والديمقراطي تحت قيادة الولايات المتّحدة تكافح ضدّ الإرهاب الدولي وانتشار الأسلحة غير التقليديّة.
­ إنّ امتلاك ديكتاتور العراق للأسلحة غير التقليديّة والتي استخدمها ضدّ شعبه يشكّل خطراً على المنطقة بأكملها.
­ إنّ دعم صدّام حسين للإرهاب وروابطه مع تنظيم القاعدة وغيرها من التنظيمات الإرهابيّة، فضلاً عن امتلاكه للسلاح غير التقليدي يشكّل خطراً استراتيجيّاً على العالم الحرّ بأسره.


إلاّ أنّ مجمل هذه الإدّعاءات ليست سوى كذب صريح لأنّه، حتّى وسائل الإعلام الإسرائيليّة الخاضعة للرقابة العسكريّة المشدّدة، كانت تشير بين الحين والآخر إلى مشاركات إسرائيليّة ونصائح وتقارير تقدّمها إلى "قوّات التحالف"، وذلك حتّى قبل بدء العمليّات العسكريّة، من أجل توفير صورة عن طبيعة المعارك المحتملة التي قد تواجهها هذه القوّات في العراق، لاسيّما في حرب المدن. ولم يكن مستغرباً أن يظهر الفارق الكبير ما بين ادّعاءات الساسة الإسرائيليّين بأنّ العدوانيّة العراقيّة تدفعهم لاتّخاذ إجراءات احتياطيّة، وبين أنّهم كانوا يتحدّثون بصلافة بشأن حجم المعلومات والمزاعم التي وفّروها للأميركيّين بخصوص علاقة العراق المزعومة بتنظيم القاعدة والمقاومين الفلسطينيّين وأسلحة الدّمار الشامل.
وفي سياق إعداد المجتمع الإسرائيلي لحالة خوف مصطنعة، لتبرير الحصول على مساعدات عسكريّة وماليّة أميركيّة، وإيجاد قاعدة تأييد داخليّة لضرب العراق، تركّز الحديث الإسرائيلي على احتمال مواجهة ثلاث جبهات في وقت واحد، الأولى احتمال التعرّض لقصف عراقي، والثانية تصاعد الإنتفاضة في فلسطين، والثالثة احتمال حصول مواجهة مع المقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة في جنوب لبنان. ومن الناحية العمليّة وفّرت هذه الحالة الهستيريّة غطاءً سياسيّاً ومعنويّاً للقيام بمزيد من إجراءات العقاب الجماعي الوحشيّة ضدّ الفلسطينيّين وفي جميع أنحاء الأراضي المحتلّة من دون استثناء.
وفي جانب آخر فإنّ تضخيم الخطر العراقي من قبل الدوائر الاسرائيلية، قد استهدف التأثير على الخطط العسكريّة الأميركيّة، من زاوية دفعها لتحييد ما أسمته جبهة غرب العراق التي يمكن أن تشكّل تهديداً لإسرائيل بحسب زعمها، الأمر الذي أثمر عمليّاً تشكيل القيادة المشتركة الأميركيّة الإسرائيليّة، وإرسال أحد أهمّ رؤساء غرف العمليّات الجوّية وهو الجنرال سمبسون لأداء دور المنسّق الدائم مع الجيش الإسرائيلي. وفي السياق ذاته حصلت إسرائيل على عدّة بطاريّات صواريخ باتريوت مع طواقمها تحت زعم حماية إسرائيل. كما قدّمت واشنطن مساعدات ماليّة وفنّية سخيّة لتطوير صواريخ "حيتس" -السهم­ الإسرائيليّة المضادّة للصواريخ، ومنحت إسرائيل أيضاَ مزيّة تلقّي المعلومات والصور مباشرة من الأقمار الاصطناعيّة الأميركيّة، وأيّة إنذارات حول إطلاق صواريخ من داخل العراق أو حتّى حول أيّ تحرّك جوّي هناك.
لقد كان لإسرائيل دور المحرّض الأساسي لشنّ الحرب أيّاً تكن العقبات القانونيّة أو السياسيّة التي تواجهها في الأمم المتّحدة أو من قبل الرأي العام العالمي. وساعدها على ذلك وجود ممثّلي اليمين المتطرّف من المحافظين الجدد في قمّة الإدارة الأميركيّة، وهم يحملون التوجّهات الإسرائيليّة العدائيّة ذاتها تجاه "المنطقة العربيّة". وقد ساهم الإعلام الإسرائيلي بالتنسيق مع مؤسّسات إعلاميّة أميركيّة كبرى في نشر الإشاعات والمزاعم حول علاقة العراق بتنظيم القاعدة وبن لادن وحول إعادة سعي العراق لإنتاج أسلحة الدّمار الشامل إثر خروج أعضاء لجنة التفتيش الدّولي "أونسكوم" في شهر كانون الأول 1998 من دون نتيجة. وفي التّوازي مع ذلك تم تشكيل لجنة للتنسيق السياسي ضمّت من الجانب الأميركي مستشارة الأمن القومي في حينه كوندوليزا رايس وأعضاء من مجلس الأمن القومي الأميركي، ومن الجانب الإسرائيلي دوف فايسغلاس مدير مكتب شارون وبعض كبار موظّفي وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة.
إزاء هذا التنسيق الوطيد وصف "بيوكانان"، الكاتب والمعلّق السياسي والتلفزيونيّ الأميركي الشهير والمرشّح الجمهوريّ السابق للرّئاسة، الحرب الأميركيّة على العراق بأنّها "حرب من أجل إسرائيل". وممّا قاله أيضاً: "إنّ الكونغرس" الأميركي يعدّ أرضاً محتلّة من قبل دولة أجنبيّة هي إسرائيل".[11]
وأوضح بيوكانان أنّه منذ مطلع التسعينات وعلى إثر انتهاء الحرب الباردة وانهيار الإتحاد السوفياتي سعى المحافظون الجدّد من ذوي الرّوابط الوثيقة باللّوبي الصهيوني في الولايات المتحدة إلى وضع وتنفيذ خطّة من أجل القيام بحملة صليبيّة جديدة لإعطاء معنى لحياتهم، وقد وجدوا ضالّتهم أخيراً في أحداث الحادي عشر من أيلول ليمسكوا بهذا الحدث المروّع من أجل توجيه غضب الأميركيّين المتخمين بكلّ أصناف القوّة والعنجهيّة والتكبّر لتدمير أعدائهم، أعداء إسرائيل، من الدول والقوى العربيّة الإسلاميّة التي تمانع السيطرة الكلّية الأميركيّة وتقاوم الأطماع والإحتلالات الإسرائيليّة. وقد رأى المحافظون الجدد الموالون قلباً وقالباً لإسرائيل، أنّ تدمير العراق سوف يزيل عن كاهل إسرائيل تهديداً إقليميّاً جدّياً لأمنها وينهي ما يسمّى عسكريّاً بالجبهة الشرقيّة. ويكشف بيوكانان أنّ نخبة صقور الحرب من المحافظين الجدد عملت على تحريض الرّئيس بوش لتبنّي فكرة صراع الحضارات، ودعوه في اليوم التّالي للكارثة إلى مطالبة الكونغرس بتبنّي إعلان الحرب على الإسلام، ثمّ طالبوه بألاّ  تقتصر قائمة الأعداء على ما يسمّى "محور الشّر" الثّلاثي الذي يضمّ كلاّ من العراق وإيران وكوريا الشماليّة، بل يتعيّن توسيع دائرة الدول المستهدفة بالتأديب لتضم دولاً أخرى مثل سوريا و لبنان وليبيا وحتى دولاً صديقة لأميركا مثل السعوديّة ومصر وأيضاً السلطة الفلسطينيّة. وقد هاجم بيوكانان هذه التوجّهات "الفوضويّة" بقوله: "إنّ هؤلاء المحافظين الجدد يسعون إلى تجنيد الدّم الأميركي لكي يصبح العالم آمناً لإسرائيل. يريدون لها السلام بالسيف المسلّط على الإسلام، وأن يموت الجنود الأميركيون إذا اقتضى الأمر من أجل ذلك السلام" ([12]).ويشير إلى أفكار المحافظين الجدد الرامية إلى تدمير عمليّة السلام بين العرب وإسرائيل فيقول: "إنّهم دعوا بوش إلى إلغاء اتفاقيات أوسلو وأيّدوا سعي شارون لإعادة احتلال الضفّة الغربيّة". وفي ما يتعلّق بسوريا - التي يعدّونها الهدف التالي بعد العراق - فقد وضع ريتشارد بيرل عام 2001 تقريراً عنوانه "إحتواء سوريا" ملخّصه أنّه لا بدّ من تغيير شامل في العالم العربي برعاية أميركية - صهيونية، وبالنّسبة لسوريا ولبنان والفلسطينيّين فالتغيير يجب أن يحصل بمساعدة إسرائيل. ويخلص بيوكانان إلى نقد هذه التّوجهات التي تلحق الضرر بالمصالح الأميركيّة الذاتيّة، ويؤكّد على عدم وجود تطابق حتمي ومستمرّ بين المصالح الأميركيّة والإسرائيليّة.
وكتب السيناتور الديمقراطي آرنست هولينغز من ولاية كارولينا الجنوبية يقول: إن غزو العراق حصل من أجل ضمان أمن إسرائيل، الأمر الذي جعل منظمات يهودية أميركية تشنّ حملة شعواء ضدّه وتتهمه باللاسامية، فردّ منتقداً اللجنة الأميركية - الإسرائيلية للشؤون العامة "إيباك" قائلاً: "إنّ صانعي التشريع في الولايات المتحدة اتبعوا لسنوات طويلة سياسات وضعتها "إيباك" وأنا لا أعتذر عمّا كتبته في مقال رأي، وأطالب بأن يقدّموا هم الإعتذار إليّ بسبب إشارتهم إلى أنني معاد للسامية"([13]). وأضاف يقول بشأن الحرب على العراق: "هذه ليست مؤامرة، هذه سياسة، وكل فرد يعرف هذه الحقيقة، لأننا كنّا نريد أن نحمي صديقتنا إسرائيل"، ورأى أنّ بوش جاء إلى البيت الأبيض وهمّه الوحيد هو أن يعاد انتخابه.
واتهم أنتوني زيني، الجنرال المتقاعد والرئيس السابق للقيادة المركزية الأميركية، إدارة الرئيس الأميركي بأنّها شنّت حرباً على العراق من أجل مساعدة إسرائيل، وحمّل زيني مسؤولية الفوضى الحاصلة في العراق لكبار المسؤولين المدنييين في البنتاغون وبشكل خاص إلى المسؤولين اليهود في الوزارة، وعلى رأسهم نائب وزير الدفاع بول وولفوفيتز، ومساعد وزير الدفاع للشؤون السياسية دوغلاس فايث والمحافظون الجدد والذين "خطفوا السياسة الخارجية الأميركية" على حدّ تعبير زيني.
من ناحية أخرى اتّهم المستشار السابق للأمن القومي الأميركي برنت سكوكروفت الرئيس بوش بأنه خاض مبادرة فاشلة في العراق بعد أن سحره رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون. وقال سكوكروفت لصحيفة الفاينانشيل تايمز: "لقد حرّكه شارون بإصبعه الصغير. أعتقد أن الرئيس كان مسحوراً". وحين كانت تقع عملية انتحارية، إعتاد شارون الإتصال ببوش لكي يقول له: أنا في خط مواجهة الإرهاب. وكان بوش يجيبه: "نعم أنت في الجبهة"[14].


ويعتقد الصحافي الأميركي "بيل كيلر" أنّ الفكرة القائلة إنّ الولايات المتّحدة أرسلت ربع مليون جندي لخوض الحرب ضدّ العراق من أجل إسرائيل، ربّما تكون تفسيراً لنظريّة المؤامرة الأوسع انتشاراً في الوقت الراهن. ولكنّ هذه الفكرة ما كانت لتحظى بالاهتمام من قبل السجال الدائر حول غزو العراق لولا وجود ثلاثة اعتبارات:
1­ -الفكرة القائلة إنّ الحرب هي من أجل إسرائيل، لا تزال ماثلة، ويعتقد بذلك قطاع واسع من النّاس في العالم أكثر مما يتصوّر الأميركيّون.
2­ -للفكرة أدلّة على صحّتها في السياسات المحلّية الأميركيّة.
3­ -إنّ إسرائيل ظلّت دائماً جزءاً من القصّة، فلماذا تستثنى هذه المرّة؟.
ولتدعيم هذه الفكرة تجدر الإشارة إلى "كارل روف" المستشار الشخصي والعقل المدبّر للرّئيس بوش، وهو الذي أقنعه بفكرة شنّ الحرب مقابل ضمان أصوات اليهود في فلوريدا، وعشرات الملايين من "المسيحيين الإنجيليين" الذين يحبّون إسرائيل لأنّها باعتقادهم تجمع اليهود في الأراضي المقدّسة كشرط سابق إلزامي لعودة المسيح الذي سوف يخيّرهم مابين التنصّر أو الفناء.
من ناحية أخرى يقول المحلّل السياسي الإسرائيلي إيتان هابر -مديرمكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية الراحل إسحق رابين­ قبل اندلاع الحرب على العراق بيوم واحد: "إنّ الحرب الأميركيّة المنتظرة على العراق ستكون الحرب السابعة في تاريخ إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 ، ويمكننا استنتاج أنّ الحرب السابعة لإسرائيل ستكون حرباً بلا ضحايا، سيبدأ منها الإنقلاب المأمول في الشرق الأوسط".([15]
أمّا الكاتب البريطايني المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط "باتريك سيل" فكتب أنّ الولايات المتّحدة وحليفتها إسرائيل قوّتان ضلّتا الطريق؛ لقد قامت الولايات المتّحدة بغزو العراق مدفوعةً بأفكار اليهود الأميركيّين في الجناح اليميني من إدارة بوش، وأشاروا عليها بأنّ أفضل وسيلة لمكافحة الإرهاب تتمثّل في اصلاح المجتمع العربي والإسلامي وتحويله إلى مجتمع ديمقراطي بالقوّة. لقد كان ذلك تحليلاً خاطئاً، وكان ينبغي على الولايات المتّحدة أن تفهم بأنّ أفضل وسيلة لحماية نفسها من "الإرهاب"  تتمثّل في تغيير سياستها في الشرق الأوسط. إسرائيل أيضاً تؤمن بأنّ أيّة مقاومة للإحتلال تدخل في باب "الإرهاب". وينبغي عليها أن تفهم أنّها لن تنعم أبداً بالأمن والسلام ما لم تضع حدّاً لاحتلالها، وما لم تسمح للفلسطينيين بإقامة دولتهم ذات السيادة والاستقلال. إنّ الاحتلال في كلّ من العراق والأراضي الفلسطينيّة آخذ في توليد مزيد من التمرّد. فليعلموا أنّ إنهاء الاحتلال كفيل بنشر السلام، وأنّ المشكلة كامنة  في أعماق سيكولوجيا القوة الإمبرياليّة. فالولايات المتّحدة وإسرائيل تتبنّيان تعريف الأمن والاستقرار بلغة الهيمنة والسيطرة. إنّ الولايات المتّحدة مصمّمة على البقاء كأكبر قوّة عسكريّة في العالم، وهي لن تقبل بوجود منافس لها. وإسرائيل مصمّمة على غرار أميركا على البقاء كأكبر قوّة عسكريّة في الشرق الأوسط، تفوق قوّة جميع الدول العربيّة مجتمعة. ويعني هذا أنّ الولايات المتّحدة وإسرائيل تريدان الحصول على الأمن المطلق حتّى لو كان ذلك من طريق زرع الفوضى وانعدام الاستقرار في دول المنطقة كافّة. والمشكلة هنا أنّ من غير الممكن بناء نظام مستقرّ عالميّاً وإقليميّاً، على أساس سياسات كهذه، لأنّها سياسات قصيرة الأجل متعامية وضيّقة الأفق، ومن المحتّم أنّها ستؤدّي إلى إثارة الغضب والمقاومة وحتّى الفوضى([16]
وباختصار إنّ ما يجري في المنطقة ليس سوى حرب استعماريّة من الطراز القديم تسعى فيها أميركا الإمبرياليّة إلى هزيمة القوى القوميّة العربيّة والإسلام المناضل من أجل بسط هيمنتها على العالم العربي ولا سيّما على النفط العربي. يضاف إلى ما تقدّم أنّ ما يجري هو أيضاً امتداد للصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي فالحرب هي حرب بالوكالة تخوضها أميركا نيابة عن إسرائيل ولحسابها ضدّ جميع شعوب المنطقة في العراق وفلسطين وسوريا ولبنان وإيران والسعوديّة ودول الخليج. وهكذا يتّضح أنّ خطّة الفوضى الخلاّقة أو خطّة وولفوفيتز التي انطلقت ما بعد الحادي عشر من أيلول 2001، إنّما تمحورت فكريّاً وجيوستراتيجيّاً حول مركزيّة إسرائيل وحول رؤية المصالح الأميركيّة على أنّها تتطابق تماماً مع مصالح وأمن إسرائيل. وأنّ مصلحة إسرائيل في الحرب والهدف الاستراتيجي منها، هو تدمير العراق في مقوّماته الماديّة والبشريّة وإضعافه واستنزافه بصورة مستمرّة من أجل القضاء على أيّ خطر محتمل في المستقبل يمكن أن يأتي من الشرق. ولقد تمّ تحقيق هذا الهدف من خلال حربي 1991 و.2003 فالعراق ­النموذج والعبرة­ لم يعد له وجود كدولة مركزيّة قويّة وموحّدة، وأفضل ما يؤمل منه في الظروف الفوضويّة الرّاهنة التي يرزح تحتها هو أن يبقى على الخريطة كفيدراليّة شكليّة. وإنّ مصلحة أميركا تتطابق بكافّة المقاييس مع مصلحة إسرائيل، وفي مقدّمتها التخلّص من شخص ونظام صدّام حسين الذي كان ينظر إلى طموحاته الشخصيّة وطيشه السياسي على أنّه مصدر تهديد للنظام السياسي الذي رتّبته أميركا في الخليج، على الرّغم من الخدمات الهائلة التي قدّمها للمصالح الإسرائيليّة والأميركيّة من خلال حرب الخليج الأولى ضدّ إيران عام 1979، والتي استغرقت ثماني سنوات استنزفت قدراً هائلاً من الإمكانات الماديّة والبشريّة لدى الفريقين اللذين تعتبرهما إسرائيل عدوّان لدودان لها.
لقد أدّت إسرائيل دوراً كبيراً منذ فترة مبكّرة في الإعداد للهجمة الأميركيّة على المنطقة على جميع المستويات السياسيّة والعسكريّة والإعلاميّة، كما مارست دوراً محرّضاً ومحفّزاً لمؤسسات صنع القرار في الولايات المتّحدة لتوريطها في أكثر من حرب ضدّ دول المنطقة، أيّاً تكن العقبات القانونيّة أو السياسيّة التي تواجهها في الأمم المتّحدة أو من قبل الرأي العام العالمي، وساعدها على ذلك وجود ممثّلي اليمين المتطرّف في قمّة الإدارة الأميركيّة.
ولقد تكرّرت الإشارات التفصيليّة حول وجود قوّات نخبة إسرائليّة وعملاء للموساد في مناطق عدّة من العراق، قبل فترة وجيزة من بدء الهجوم المرتقب، لا سيّما في غربي وشمالي العراق، الأمر الذي سبّب بعض الحرج للإدارة الأميركيّة، لا سيّما وأنّ شنّها الحرب قد تمّ من دون تفويض دولي. وقد دفع هذا الوضع واشنطن للطلب من تل أبيب الكفّ عن نشر المعلومات الخاصّة بالعمليّات العسكريّة التمهيديّة أو أيّة أخبار أخرى توضح حقيقة دورها، ممّا دفع المسؤولين الإسرائيليّين إلى إصدار بيانات تنفي دورهم المباشر في الحرب. وصدرت في الوقت نفسه تعليمات خاصّة لجميع السّفراء والقناصل الإسرائيليّين، بعدم التكلّم إلى وسائل الإعلام بهذا الشأن، علماً بأنّ هذه الوسائل كانت قد نشرت أخباراً حول تقارير إسرائيليّة مكتوبة ومحاضرات شفهيّة ألقيت لمساعدة الأميركيّين في حرب المدن بعد الخبرة الكبيرة التي اكتسبها الجيش الإسرائيلي من جرائمه المعروفة في كلّ من لبنان وفلسطين عبر اجتياحاته وعمليّاته العدوانيّة المتكرّرة.
ثالثاً: مؤشّرات الفوضى وانعكاساتها


1­ -الرؤية الإسرائيليّة:
 تضمّنت الرؤية الإسرائيليّة للفوضى المدمّرة والحروب المتعاقبة آمالاً عريضة تتعلّق بأوضاع المنطقة ككلّ. فإسقاط النظام العراقي في رأي الخبراء الإسرائيليين كان من شأنه أن يحدث تداعيات وانعكاسات بالغة الفائدة لمصلحة الأمن القومي الإسرائيلي بالذّات، وذلك وفق صيغة الدومينو الشهيرة، إذ بعد صدّام سيسقط نظام عرفات، ممّا يضطرّ الفلسطينيّين للتراجع عن انتفاضتهم والتخلّي عن مطالبتهم "المزعجة" بحقّ العودة، كما ويمكن أن يعجّل بإسقاط النّظام الإسلامي في إيران، والنّظام البعثي في سوريا، ممّا سيخلق أجواء من الذّعر و "الفوضى البنّاءة" والمرونة العمليّة من قبل القيادة السوريّة تجاه عمليّة التسوية مع إسرائيل، وإزاء الدور المطلوب القيام به بشأن لجم دور المقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة التابعة لحزب الله، والرغبة الصهيونيّة الجامحة لنزع سلاحها وتفكيكها. ناهيك عن أنّ سيطرة الولايات المتّحدة المباشرة على مقاليد الحكم في العراق سيشكّل ضربة صاعقة للأنظمة والقيادات العربيّة عموماً، وسيدفعها، من وجهة نظر إسرائيل، إلى اللهاث وراء كسب ودّها ورضاها. وحينها سوف يتحلّل موقف الدول العربيّة من المحيط إلى الخليج بشأن تعاطفها أو تضامنها الخجول مع الاتفاق وبالتالي ستعود لفتح سفاراتها وقنصليّاتها في تلّ أبيب، وتعود هذه الأخيرة للقيام بالأمر ذاته في قلب العواصم العربيّة من دون أن تضطرّ الحكومة الإسرائيليّة بقيادة شارون إلى تغيير سياستها أو تقديم أيّةّ تنازلات سياسيّة أو استيطانيّة على الأرض. وفي الشرق الأوسط الكبير سيتمّ تكريس أيّ شكل من أشكال المقاومة الفعّلية أو النائمة، وبإقرار دولي "إرهاباً دوليّاً" فاضحاً، وتغدو عمليّات البطش والقتل والتدمير ونهب الممتلكات من قبل إسرائيل، مجرّد حرب "شرعيّة" ضدّ "الإرهاب"، وفي الطريق تتمّ إزالة الخطر الرّادع المتمثّل في امتلاك حزب الله آلاف صواريخ الكاتيوشا التي بوسعها أن تطال الكثير من المستوطنات والمدن الإسرائيليّة الشماليّة، حيث العديد من مراكز الصناعات الإلكترونيّة المتطوّرة والمواقع السياحيّة الهامّة. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف جرى التركيز على تصوير المقاومة الإسلاميّة اللبنانية على أنها مجرّد أداة طيّعة بيد كلّ من طهران ودمشق،  في وقت ردّ أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله على كلّ هذه المزاعم الباطلة بالقول إنّ من يقدّم ابنه البكر على مذبح حبّ الوطن وتحريره لا يمكن أن ينطلق في ذلك من منطلق التبعية العمياء، ولا من منطلق العمالة لهذه الجهة أو تلك.
 لقد كشف رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال "موشيه يعلون" عن ضرورة الحاجة الماسّة لإحراز الإنتصار الأميركي بأي ثمن، وتجييره لحماية المصالح الإسرائيلية الإستراتيجية في المنطقة من خلال حديثه عن هدفين في هذا المجال: الأول أنّ الإنتصار الأميركي هو في الوقت نفسه إنتصار إسرائيلي، لما سوف يخلقه من إحساس بالعجز والهزيمة لدى العرب عامة والفلسطينيين خاصة. وهذا ما تجلّى أيضاً في أحاديث يعلون المتكررة عن أنّ عام 2003 عام الهجوم على العراق، هو في الوقت نفسه عام الحسم ضدّ الإنتفاضة الفلسطينية وقضيتها معاً.
أمّا الأمر الثاني فأورده "شبتاي شافيط"، الرئيس الأسبق للموساد، وإذ توقع  أن يسود العالم العربي مناخ من الفوضى الثقافيّة السياسيّة يتم عبرها ترجيح الدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل تحت عناوين التزام حدود "الواقعيّة" في التعامل مع الأوضاع الميدانية المستجدة في المنطقة عموماً كأمر واقع وحاسم ونهائي، لا يستطيع أحد في العالم تغييره أو التّأثير عليه.
 وفي هذه الأجواء توقعت المرجعيّات الإسرائيلية جني مكاسب جمّة، ليس فقط على الصعيدين السياسي والإستراتيجي، بل أيضاً على الصعيدين الإقتصادي والمالي. ووفقاً لما قاله "داني جيلرمان"، رئيس اتحاد الغرف التجارية في إسرائيل، فإنّ "النّصر سيوفر العديد من الفوائد الاقتصادية لإسرائيل، أهمها ثلاث: حصول إسرائيل على النفط العراقي (الذي سيكون تحت إشراف أميركي) بأسعار مخفضة، تراجع المخاطر الأمنية التي تهدّد إسرائيل ممّا سيؤدي إلى تقليص النفقات الأمنية وإنعاش الإقتصاد الإسرائيلي، ثمّ فتح السّوق العراقية بوجه البضائع الإسرائيلية[17]

ويضيف آخرون أنّ سقوط نظام بغداد وقيام نظامٍ موالٍ للولايات المتحدة مكانه، بالإضافة إلى الأردن، سوف يفسح المجال أمام طرح وتنفيذ العديد من المشروعات الإقتصادية الإقليمية مثل تجديد مدّ أنبوب نفطي من كركوك إلى حيفا في فلسطين المحتلة عام 1948، من أجل تصديره من هناك إلى الولايات المتحدة، ناهيك عن أنّ إعادة تشغيل خط الأنابيب يخفض كلفة الوقود في إسرائيل بنسبة 25 %. وقد تطرّق البعض أيضاً إلى ما يسمّونه المطالبة بتعويضات ماليّة ضخمة عن أملاك اليهود العراقيين الذين غادروا العراق منذ فترة طويلة بإرادتهم، ويقدّرون بنحو مائة ألف يهودي.
هكذا اذاً سرت توقّعات إسرائيليّة بإعادة إحياء مفاهيم ومشروعات الشرق أوسطية التي نادى بها شمعون بيرس مطوّلاً، بحيث يكون لإسرائيل الدور الأبرز فيها، ولكن إلى جانب مخاوف مفترضة من أن تعود واشنطن لإعطاء الأولوية لمصالحها الخاصة، ممّا قد يدفعها إلى التركيز على تسوية القضيّة الفلسطينيّة وإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ لا ترضى عنها إسرائيل، في ظل الإدعاء بأن الأمن الإسرائيلي قد تعزز إثر تدمير العراق واستنزاف القدرات الفلسطينية وتحديد الطاقات والقدرات العربية. ومن المخاوف الأخرى التي تردّدت في صفوف المراقبين الإسرائيليين، الخوف من أن يكتشف الأميركيون إثر تورطهم في وحول المنطقة ورمالها المتحركة، أنّ إسرائيل لم تكن سوى عبءٍ على أميركا وعلى مصالحها، ولم تكن على الإطلاق كما يسوّق الإسرائيليون لأنفسهم، تلك الثروة الإستراتيجية النافعة، بل مجرد ثقب أسود يستهلك سمعة الأميركيين وأموالهم ومصالحهم، لاسيما وأنّ الأنظمة العربيّة برمّتها تقريباً باتت تقدّم للأميركيين وقواتهم في المنطقة شبكة واسعة من التسهيلات العسكرية والإقتصادية التي تتيح لهم التحرك براً وبحراً وجواً وكأنهم في ديارهم باستثناء سوريا وإيران.
إنّ الأمر الثابت والذي لا جدال فيه هو أنّ إسرائيل قد مارست تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة على عملية صياغة السياسة الخارجية الأميركية في مرحلة الفوضى الحاصلة ما بعد الحادي عشر من أيلول بنوع خاص، لاسيما عبر إرتباطاتها مع رموز تيار المحافظين الجدد الذي يسيطر على الإدارة الأميركية والذي يرزح تحت إيحاءات خلاصيّة دينيّة اسطوريّة استفادت منها إسرائيل في المجالات التالية[18]:
1­- دعم سياسة الليكود بزعامة شارون تجاه الفلسطينيين، بالدفع في إتجاه إعتبار أنّ هدف "منظمة التحرير الفلسطينية" هو تدمير إسرائيل، مع النظر إلى المناطق المحتلة على أنها "أراضٍ متنازع عليها" واعتبار سياسات السلطة الفلسطينية ونشاطات المعارضة الفلسطينية أعمالاً إرهابية، يجب عدم لجم الجيش الإسرائيلي عن العمل ضدّها.
2­- التأكيد على أنّ المشكلة الأساسية في الشرق الأوسط هي العراق وليس الصراع العربي الإسرائيلي، مع السّعي لتوسيع نطاق الحرب في إتجاه أطراف أخرى مثل سوريا وإيران، والضغط المستمر على من يعرفون بـ  "جماعة باول" أو التيار السائد في الخارجية الأميركية، حتى لا تُؤثّر على تلك التوجهات باعتبارها جزءاً من الحملة ضدّ الإرهاب، التي تمّ ربطها بانتشار أسلحة الدّمار الشامل.
3­ - لقد دأب بعض رموز الإدارة الأميركية من ذوي الخلفية الصهيونية  على التأكيد بأن الولايات المتحدة وإسرائيل لديهما عدو مشترك، وتقفان في معسكر واحد، وتخوضان المعركة نفسها، الأمر الذي تجلّى في عدم الاعتراض على سياسات شارون الإجرامية تجاه الفلسطينيين. وقد تكفّلت رموز اليمين المحافظ في الإدارة الأميركية بتغطية الأداء الإسرائيلي التعسفي ميدانياً وسياسياً بقبول دفن أوسلو وتشويه وتأجيل خريطة الطريق وعدم الإعتراض على العنف المبالغ فيه ضدّ الفلسطينيين في قياداتهم وكوادرهم وأرزاقهم.
خلاصة ما سبق أن التفاعلات المتصلة بالأوضاع المعقّدة والغامضة التي أحدثتها سياسة "الفوضى البنّاءة"، قد أدّت إلى سحق مقوّمات عملية التسوية السّلمية التي إنطلقت منذ مدريد عام 1991 ولم تصل إلى مكان، خصوصاً في مسار القضية الفلسطينية. هذا في حين أن حالة من الاضطراب والضياع بدأت تتبلور وتسيطر وتنذر بتحولات كبرى مشوبة بعدم اليقين لما يمكن أن يحصل في الحاضر والمستقبل، في مقابل إظهار رئيس الحكومة الإسرائيلية قدرة فريدة من نوعها على المناورة والانتهازية واستغلال التحوّلات الحاصلة لمصلحة تكريس زعامته وإعادة انتخابه تكراراً من خلال الإجراءات التالية:
­ وظّف شارون عملية المراجعة الذاتيّة الفلسطينيّة والسجال الذي دار حول العمليات الإستشهادية والإنتحارية، وتبلور عروض فلسطينية متعددة الأطراف بوقف العمليات المسلحة لمدّة زمنية محدّدة، على أنّه مؤشر على انتصار سياساته في المعركة مع الفلسطينيين.
­ صوّر شارون الدّعوة المصريّة للحوار بين الفصائل الفلسطينيّة المختلفة من اجل إعداد روزنامة للعمل الفلسطيني، على أنّه يمثل فرضاً لوجهة النظر الإسرائيلية وتصديراً للأزمة إلى الملعب الفلسطيني والعربي.
­ صوّر شارون عدم مساس الأميركيين بالعلاقة مع إسرائيل على أنّه نجاح لرؤيته وأوحى بأن مواصلة مصر إتصالاتها الدبلوماسية معه على انّه فرض لوجهة النّظر الإسرائيلية.
­ تبيّن أن سياسة "الغموض البنّاء" المصحوبة بالهجمات والضربات العسكرية القاسية، ساعدت شارون على أن يصوّر الموقف للرأي العام الإسرائيلي بأنه حالة من حالات المواجهة التي تشهد تلاقي الرؤيتين الأميركية والإسرائيلية، وأنّه توجد أولوية لمواصلة العمليات الجراحية الأميركية والإسرائيلية في المنطقة من أجل الحفاظ في النهاية على الغاية المقدّسة، وهي أمن إسرائيل الإستراتيجي.

 يضاف إلى ما تقدّم أنّ الإدارات الأميركية المختلفة منذ أوائل التسعينات بصورة عامة، كانت تدعم سياسات حزب العمل ومرشّحه لمنصب رئاسة الوزراء في إسرائيل، وكان العامل الأميركي حاسماً في إسقاط رئيس الوزراء الأسبق شامير في انتخابات عام 1992، حين رفض الرئيس بوش الأب تقديم ضمانات القروض التي طلبتها الحكومة الاسرائيلية بقيمة عشرة مليارات دولار للإستيطان، من أجل إضعاف فرص الليكود في الفوز في تلك الإنتخابات بعد عناد شامير ورفضه توجّهات مؤتمر مدريد السّلمية، وترتّب على ذلك فوز زعيم العمل اسحق رابين الذي شكّل في ما بعد الحكومة التي وقّعت اتفاق أوسلو عام .1993
وإذا كان بوش الأب قد دعم رابين، فإن الرئيس التالي كلينتون قد دعم بيرس عام 1996 ، ثم دعم باراك عام .1999 وشمل الدعم تأييداً صريحاً وإرسال أطقم خبراء لإدارة المعركة الإنتخابية لمرشّحي حزب العمل.

أمّا الإدارة الأميركية الحالية برئاسة بوش الإبن فإنها عدّلت من الموقف التقليدي تعديلاً جذرياً خصوصاً بعد أن استوعبت فشل تجربة إدارة كلينتون التي أعطت الوقت والجهد على المسار الفلسطيني من دون إحراز أي تقدم يذكر. وهنا رأى الرئيس جورج بوش الإبن أنّه يستحسن ترك الطرفين المتصارعين ينازلان بعضهما البعض حتى يشعرا بالإرهاق، فتتدخّل واشنطن ويكون تدخّلها ناجحاً. إلا أن أحداث الحادي عشر من أيلول، وقضية سفينة السلاح "كارين إيه"، أدت إلى دفع الموقف الأميركي نحو تبنّي الرؤية الإسرائيلية بالكامل. فحكومة شارون نجحت في إقناع الإدارة الأميركية بأن حربها ضد الفلسطينيين هي امتداد للحرب الأميركية العالمية ضد الإرهاب وأنّ ياسر عرفات هو "بن لادن إسرائيل" وأنه عقبة في طريق التسوية لا بدّ من إزالتها. وأشارت مصادر إسرائيلية عديدة إلى أنّ آرييل شارون قد نجح في إحداث "تفاعل كيميائي" ودّي بينه وبين الرئيس الأميركي المسكون بأفكار "مسيحانية خلاصية"، فكان شارون أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور البيت الأبيض أكثر من سبع مرات في ظرف أقلّ من عامين، في حين أن زعيم حزب العمل السابق "عميرام ميتسناع" لم تسنح له الفرصة لزيارة واشنطن ولو لمرة واحدة.
إنطلاقاً من حالة خلط الأوراق الجديدة هذه والفوضى الناجمة عنها، اتّسم تعاطي شارون مع سائر القوى الإقليميّة والدّوليّة بقدر كبير من الإستهتار والتعالي. فهو تعامل باستعلاء مع ممثلي الإتحاد الأوروبي وتجاهل المنظمة الدّوليّة ورفض تنفيذ قرار مجلس الأمن الخاص بتشكيل لجنة تقصّي الحقائق بشأن ما جرى من سفك دماء وحشي في مخيم جنين الفلسطيني في الضفّة الغربيّة. وأخيراً لم يوفر شارون أيضاً أعضاء اللجنة الرباعية التي تضم، إلى جانب واشنطن، كلاً من روسيا والإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، من الإذلال ووصفهم بأنهم "لا شيء". وفي مجمل الأحوال فإن كل ما قام به شارون ضدّ الشعب الفلسطيني حتى الآن لم يخرج عن إطار التوجّه الدّولي لإدارة الرئيس بوش في العالم، ولكن بصيغة إسرائيليّة. وفي هذا السياق لم يجد شارون من المستغرب أن يدعو السلطة الوطنية الفلسطينية للتعاون معه لتأديب أبناء الشعب الفلسطيني وقهر روح الرفض والممانعة لديهم.
من ضمن مشهد "الفوضى البنّاءة" فالسياسيون والمسؤولون الأميركيون وصلوا في مسيرة اندفاعهم لدعم وتأييد السياسة الشارونية، إلى حدّ تجاهل كل التقارير التي تدين الممارسات الإسرائيلية التعسّفية من جانب منظماتٍ لحقوق الإنسان لها مكانتها الراسخة وصدقيتها العالية، مثل منظمة العفو الدوليّة ومراقبة حقوق الإنسان بالإضافة إلى تجاهل استنتاجات الأمم المتحدة. وأدّت واشنطن دوراً محوريّاً في طمس معالم قرار مجلس الأمن الخاص بالتحقيق في احتمال ارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أكثر من مكان في الضفة الغربيّة وقطاع غزة، حتّى أن السياسة الأميركية في المنطقة باتت ترتدي عباءة ليكوديّة فاقعة الألوان. والتقاء السياستين الأميركية والإسرائيلية لم يقتصر فقط على الصراع الإسرائيلي­ الفلسطيني، بل شمل وجهات نظر متطابقة في ما يتعلق بالعراق وإيران وسوريا ولبنان.
والعقيدة العسكرية الإستباقيّة التي طوّرتها إدارة بوش إنما تفصّل على قياس وطراز السياسة الإسرائيلية الراسخة المعتمدة منذ عقود في الصراع العربي الإسرائيلي. وفي هذا السياق، عندما سئل وزير الخارجية الأميركية السابق كولن باول، مثلاً، عما إذا كان من  الممكن استخدام هذه السياسة الإستباقية لتبرير هجوم على المنشآت في كلٍ من كوريا الشمالية وإيران، ذكّر بالهجوم الإسرائيلي على مفاعل أوزيراك العراقي عام 1981 ، بعد أن استنتجت إسرائيل أن المحطة تملك قدرة إنتاج بلوتونيوم من درجة تصلح للإستخدام في صنع أسلحة نووية، قال: "لقد فعلها الإسرائيليون عام 1981 وكانت تلك بوضوح ضربة عسكرية إستباقيّة. والآن فإن الجميع مسرورون على الرغم من أنهم تعرّضوا لإنتقادات شيطانية في ذلك الوقت"([19]).
في المقابل وفي موقف انتقاد لاذع لهذه السياسة الفوضويّة الإنفرادية التي تمارسها أميركا وإسرائيل بصورة إستثنائية في العالم، يقول وليم غالستون إنه لا يكاد يكون هناك في الإدارة أو في الحزبين السياسيين رجل واحد يناقش التأثيرات السلبية بعيدة المدى لسياسة الفوضى والتفرّد هذه، ويضيف: "إن استراتيجية عالمية مبنية على مبدأ بوش الجديد، تعني نهاية نظام المؤسسات والقوانين والأعراف الدّولية الذي عملت الولايات المتحدة من أجل بنائه لأكثر من نصف قرن... إن الولايات المتحدة، بدلاً من أن تستمر في الخدمة كطرف أول بين أطراف متساوين في النظام الدّولي لما بعد الحرب العالمية الثانية، تتصرف الآن باعتبارها القانون بحد ذاته، فهي تقيم  قاعدة جديدة للعلاقات الدّولية من دون موافقة دول أخرى"([20]).
هذا النوع من التصرّف هو ممارسة إسرائيلية منذ وقت طويل، وهو الذي قاد الرئيس بوش الإبن إلى قلب الحقائق رأساً على عقب، عندما اعتبر أن "الإرهاب" الفلسطيني هو الذي يجبر إسرائيل على الإبقاء على الإحتلال، وليس الإحتلال هو الذي يولّد المقاومة و"الإرهاب". ومن هنا جاء وصف الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بأنه "رجل إرهاب" وأن شارون هو "رجل سلام". ولم يأت على ذكر أن الإحتلال هو أمر غير مشروع ولا بدّ من إنهائه وفقاً للقانون الدّولي وقرارات الأمم المتحدة. في المقابل دعا الرئيس بوش إلى قيام دولة فلسطينية مؤقتة، وهو مفهوم ينطوي على مغالطة مفهوميّة لا موقع لها في القانون الدّولي والمعاهدات الدّولية. وقد حاول معاونوه تفسير ذلك بأنه "دولة" ذات "حدود مؤقتة"، وجعل ذلك متوقفاً ومشروطاً بإفراز قيادة فلسطينية جديدة وجهاز أمني يحمي أمن إسرائيل بصورة تامة وناجزة، في حين أنه تجاهل كليّاً قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين المشرّدين في المنفى إلى ديارهم، مثلما تجاهل من قبل، عام 2000، عرض السلام العربي الجماعي في قمة بيروت، وطالب بتطبيع العلاقات مع إسرائيل الشارونية حتى قبل إنهاء أية خطوة جديدة على طريق تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد جاء في صحيفة النيويورك تايمز ([21]): "فاز الصقور الأميركيون وأصبحت سياسة الليكود الإسرائيلية سياسة أميركا الرسمية في المنطقة". ويذكر "كريس باتن" مفوّض الإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية أن "عضواً ديمقراطياً في مجلس الشيوخ (الأميركي) أبلغ وفداً أوروبياً زائراً بالقول: جميعنا الآن أعضاء في الليكود"([22]).
باختصار يمكن التقدير بأنّ مصطلح "الفوضى البنّاءة" إنما هو مؤشر على مرحلة جديدة من مراحل تطور السياسة الأميركية إزاء منطقة الشرق الأوسط، وهي تخفي في باطنها غير ما تظهره. فالمعلن من هذه السياسة هو "مكافحة الإرهاب" و "نشر الديموقراطية"،  في حين أن الأهداف الإستراتيجية المنشودة بعد إسقاط نظامي طالبان والبعث في كل من أفغانستان والعراق، تكمن في زعزعة نظامي سوريا وإيران ونزع سلاح المقاومة الإسلامية  وتفكيك بناها التحتية في كل من لبنان و فلسطين، وإدخال تعديلات سياسية وثقافية جوهرية في برامج  وأنظمة الدّول العربية المركزية، وفي مقدمتها مصر والسعوديّة، بحيث تصبّ في النهاية في المصلحة الإسرائيلية المادية والمعنوية.
ولفهم طبيعة التحركات الأميركية الإسرائيلية المشتركة في المرحلة المقبلة في ظل نظام الفوضى البنّاءة، حسب رأي الدكتور حسن نافعة([23])، لابد من التمييز بين ما يمكن تسميته بمسرح العمليات المباشر ومسرح العمليات غير المباشر. فإيران وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق تشكل مسرح العمليات المباشر، وتعتبر سوريا وإيران الرقم الصعب فيه. ومن الواضح أن اختيار الولايات المتحدة قد وقع على الملف النووي ليكون بمثابة الذريعة والمدخل للضغط على طهران وعلى الملف اللبناني، ليكون هو الذريعة والمدخل الملائم للضغط على سوريا. أما مسرح العمليات غير المباشر فيشمل كل مكان آخر في منطقة الشرق الأوسط.

 

2­- المصالح والمكاسب المشتركة:  
منذ نهاية العام 2002 وإسرائيل تعقد كل عام مؤتمراً للأبحاث الإستراتيجية في بلدة هيرتسيليا الواقعة على مسافة 10 كلم شمالي تل أبيب. وفي ذلك الحين تقدم الدكتور "ماكس زينغل" المتخصّص في تحديد السياسات، بمذكرة خاصة تضمّنت خمسة سيناريوهات فيها الكثير من الملامح التفصيلية للسيطرة على العراق، ثمّ الإنتقال إلى السعوديّة ومصر، وصولاً إلى إحداث تغييرات جذرية في سوريا ولبنان، من أجل التفرّد بعدئذ بإيران بهدف إسقاط نظامها الإسلامي وإعادتها إلى حضن السيطرة الصهيونية الأميركية المشتركة. لقد وردت في تلك السيناريوهات أفكار عديدة بشأن إسقاط حكومات عربية وإسلامية وتغيير أنظمة ودعم إيصال علمانيين ومتأثرين بالغرب إلى سدّة الحكم في مجمل عواصم الشرق الأوسط، حماية للمصالح الأميركية ودعماً للأمن الإسرائيلي.
إنطلاقاً من مؤتمر هرتسيليا رأى محللون وخبراء متخصّصون من جنسيّات مختلفة، أن لكلٍ من إسرائيل وأميركا مصالح بالغة الأهميّة على المديين المتوسط والبعيد من سياسة "الفوضى البناءة" المشار إليها، في جملة التغييرات المنتظرة في دول المنطقة، ومن أبرز هذه المصالح ما يلي:

­ تأمين حضور أميركي استراتيجي في المنطقة يتّخذ من العراق الجديد نقطة ارتكاز للإلتفاف من خلالها على سائر دول المنطقة. وفي هذا الإطار كشفت الولايات المتحدة عن خطط لإقامة قواعد عسكرية دائمة لها في العراق يكون مركزها قاعدة مطار بغداد، فيما تنتشر القواعد الأخرى في الشمال والجنوب والغرب. وأعلنت الإدارة الأميركية عن عزمها على إقامة أكبر سفارة لها في المنطقة وربما في العالم، تضم أكثر من ثلاثة آلاف موظف ينشطون لتوفير المعلومات في مختلف المجالات الحساسة.
­ الإمساك بملف النفط واحتكار السيطرة على مخزونه وإنتاجه والتحّكم في سياسات تسعيره وتسويقه. وتشير التقارير إلى أن هذا الملف هو من أبرز وأقدم محرّكات السياسات الأميركية الحيوية، الأمر الذي يثير قلق دول المنطقة، بل ودول العالم أجمع أيضاً.
­ تطويق المثلث القوي في المنطقة والذي يضم إيران والسعوديّة وتركيا، ومحاولة ترويضه وإخضاعه لخدمة الإستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة، والحيلولة دون أن يشكل أية ضغوطات أو تهديدات للمصالح الأميركية أو الإسرائيلية في المنطقة، الآن وفي المستقبل.
­ تغيير هيكليات الأنظمة العربية في المنطقة، سواء كان ذلك عبر الإصلاح أو عبر التغيير بالإكراه. وفي السياق ذاته، إحداث تغييرات جوهرية وعميقة في مقوّمات المجتمعات الأهلية، مثل البرامج التعليمية والتثقيفية وصولاً إلى التغيير في الأنظمة إلاقتصادية وفي السياسة الخارجية التي تخدم غرض الإنفتاح التطبيعي الكامل مع إسرائيل.
­ جعل الشرق الأوسط مركز الإستراتيجية الأميركية للعقود القادمة باعتباره مصدر الثروات الواعدة وصمّام الأمان القريب في الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني بوجه أية قوى أو جماعات قد تصعد فجأة إلى السلطة. ويرى محللون وخبراء في هذا المجال أن هذا الهدف يمثل أهم وأكبر انقلاب في استراتيجية الولايات المتحدة الخارجية بعد 11 أيلول حيث بات الشرق الأوسط يمثّل بالنسبة لواشنطن مصدر التهديد المباشر لمصالحها ووجودها في المنطقة، بما يحتّم الإمساك بمقدّراته بصورة مباشرة وليس عبر وسطاء كما كان يحصل في الماضي.

­ مواصلة شنّ  الحرب طويلة الأمد ضد "الإرهاب" حيث باتت بيئة الشرق الأوسط الملتهبة مناسبة لنموّ جماعات الرفض والممانعة للسياستين الأميركية والصهيونية.
­ تهميش الملف الفلسطيني الإسرائيلي وتعطيل أو تأجيل أية حلول سياسية له، لاعتبار أن أيّ حل عملي وحقيقي لا بد من أن يلحق الضرر بالأمن الإستراتيجي الإسرائيلي، وإبقاء هذا الملف تحت السيطرة بحيث لا يضر بالمصالح الأميركية ولا بالحضور المباشر للقوات الأميركية في المنطقة.
أما في ما يتعلق بالمصالح والمكاسب الإسرائيليّة الخاصّة التي ضمنتها السياسة الأميركية المنفلتة من عقالها في المنطقة تحت عنوان "الفوضى البناءة"  فيمكننا تعداد النقاط التالية:
­ حتميّة تخلّي الفلسطينيّين اللاجئين عن "حقّ العودة" إلى ديارهم في أراضي عام 1948 التي أقيمت عليها دولة إسرائيل وإمكانيّة إعادة بعضهم إلى الدولة الفلسطينيّة المفترض إنشاؤها في قطاع غزّة وبعض مناطق الضفّة الغربيّة.
­ قبول الأميركيّين باحتفاظ إسرائيل بكبريات مستعمراتها في الضفّة الغربيّة حفاظاً على أمنها واستقرارها وتلبية لطموحاتها الجغرافية والديموغرافيّة المستقبليّة.
­ رفض إعتبار حدود الرابع من حزيران 1967 كحدود مقدّسة في أي اتفاق سلام نهائي مع الفلسطينيين والسوريين، وتكريس تعديل هذه الحدود وفقاً للإحتياجات الأمنيّة والإنمائيّة الإسرائيليّة.

­ تكريس إعتبار القدس الكبرى عاصمة للكيان الصهيوني.
­ الإلتزام الأميركي بسلامة ورفاهيّة الدولة اليهوديّة وبقائها واستمرارها واعتبار أنّ "حقوق" اليهود المطلقة تحجب وتهمّش عند الضرورة حقوق الفلسطينيّين.
­ الموافقة الأميركيّة على إقامة الجدار العنصري العازل باعتباره جداراً أمنيّاً وسياسيّاً في الوقت عينه.
­ إلتزام الفلسطينيّين والعرب بالإعتراف بالأمر الواقع إستناداً إلى الوقائع  القائمة على الأرض، وضرورة أن يخضع الحلّ النهائي للقضيّة الفلسطينيّة للرضى الإسرائيلي بعيداً عن ادّعاءات الحقّ والعدالة والشرعيّة.
­ رهن إقامة الدولة الفلسطينيّة بنجاح السلطة الفلسطينيّة في القضاء على المقاومة ­"الإرهاب"­ وتفكيك بناها التحتيّة ضمانةً لأمن واستقرار إسرائيل، ممّا يعني سحب الوعود الأميركيّة بالإلتزام بروزنامة زمنيّة قريبة الأجل لإقامة الدولة الفلسطينيّة.

 

4­ -سوريا ولبنان في ميزان "الفوضى البنّاءة"
 "روبرت ساتلوف" هو المدير التنفيذي في موقع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الأميركي على الإنترنت، وقد نشر في مطلع شهر نيسان من هذا العام دراسة من حلقتين قيّم فيهما سياسة إدارة الرّئيس بوش الإبن إزاء كلّ من سوريا ولبنان والتي تندرج ضمن ما سمّي "عدم الاستقرار البنّاء" أو "الفوضى البنّاءة" ([24]). في القسم الأوّل من الدراسة تحدّث ساتلوف عن القرار الدولي 1559 وما يتفرّع عنه من أهداف تغييريّة أساسيّة تتمحور حول أربعة محاور أوّلها مراقبة الإنتخابات النيابيّة التي يجب أن تكون "حرّة وعادلة" من خلال مراقبة دوليّة وذلك بعد الإنسحاب السوري الكامل عسكريّاً ومخابراتيّاً، وثانياً تجريد المقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة التابعة لحزب الله من سلاحها الرّدعي تحت عنوان "نزع سلاح الميليشيات" وذلك وفقاً لجدول أعمال متدرّج، بالإضافة إلى إخراج بضع عشرات من الخبراء العسكريّين الإيرانيّين ومنع أيّة وسيلة تسمح بالعودة لتزويد الحزب بالسلاح عبر السفارة الإيرانيّة في بيروت.
وقد ورد في التقرير أنّ هذه الإجراءات يجب أن تكون مصحوبة بانتشار الجيش اللبناني حتّى الحدود الدوليّة والخطّ الأزرق، بصرف النظر عن أيّ تدخّل أجنبي، إستناداً لتجارب عاميّ 1982 و.1983 أمّا الخطوة الإجرائيّة الثالثة فيجب أن تتّجه نحو دمشق التي يصفها التقرير بأنّها "الأضعف في الشرق الأوسط" لأنّه مع بعض الخطوات نحو الديمقراطيّة في كلّ من مصر والسعوديّة "يبقى هناك حدّ أدنى من الضغوط الأميركيّة إضافةً إلى عمق من الدّعم المؤسّساتي، بينما في سوريا الوضع مختلف. فلا مصلحة للولايات المتحدة في استمرار نظام الأسد، كما أنّ نظامه في الأساس هو نظام أقليّة مبني على قاعدة من الخوف والترهيب، والتصدّعات التي يمكن احتواؤها في أنظمة أخرى، يمكن أن تتحوّل إلى ثورة وحتّى إلى زلزال في سوريا". أمّا كيفيّة الوصول إلى هذه الأهداف بحسب التقرير فيمكن أن تتمّ أوّلاً من خلال "العمل المخابراتي حول ديناميكيّة الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة" وأيضاً من خلال كثرة الحديث عن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان وحكم القانون ورعاية الأقليّات.
الجزء الثاني من التقرير، الذي يحمل عنوان "ديناميكيّة المنطقة أو القوى المحرّكة في المنطقة"، تحدّث فيه "ساتلوف" عن العبر والدروس التي يمكن استخلاصها في مختلف أرجاء المنطقة عبر المتغيّرات الحاصلة في كلّ من العراق وسوريا ولبنان، ممّا يدفع "الزعماء العرب الآخرين للعمل وفقاً للمصلحة الأميركيّة مدفوعين بغريزة حبّ البقاء".
من خلال ما تقدّم يتبيّن أنّ الرّئيس بوش الإبن قد أحدث انقلاباً حقيقيّاً في السياسة الخارجيًة الأميركيّة إزاء المنطقة، فبدلاً من الحفاظ على الإستقرار كسياسة تقليديّة لواشنطن، تسعى إدارة الرّئيس بوش الحاليّة إلى تطبيق سياسة "عدم الإستقرار البنّاء"، انطلاقاً من الاعتقاد بأنّ هذه السياسة القائمة على المبادرة والإستباق هي وحدها الكفيلة بتوفير الحماية اللازمة للمواطنين الأميركيّين والمصالح الأميركيّة. وفي هذا السياق حصلت الحرب ضدّ أفغانستان والعراق وفلسطين في مقابل توجيه الإيحاءات والتهديدات المبطّنة وغير المبطّنة إلى كلّ من مصر والسعوديّة وسوريا ولبنان. وقد جاء في التقرير في هذا المجال: "بشكل جماعي، أسقط الزعماء العرب الإدّعاء بالتّضامن بينهم وأصبحوا مستعدّين للتّضحية بنظرائهم طالما أنّ ذلك يمنحهم الوقت، ويبعد عنهم المعاناة الآتية من واشنطن. وهذا يفسّر كيف استقبلت السعوديّة الرّئيس الأسد، بينما طعنته في ظهره عبر الطلب علناً بسحب قوّاته من لبنان. وبادل بوش السعوديّة بالمثل حين خفّف حدّة الانتقادات أو الاقتراحات التالية في مجال الإصلاح السياسي السعودي على حساب مصر، حيث أعلن ( الرّئيس) بوش قائمة مطالب أو إجراءات ينبغي لمصر اتّخاذها لضمان انتخابات رئاسيّة ديموقراطيّة منها: حرّية التظاهر، حريّة التعبير، الإعتراف بشرعيّة الأحزاب السياسيّة، وذلك مع أنّ مصر طلبت من سوريا احترام القرار 1559، إلاّ أنّ السعودية كانت السبّاقة".
بالنّسبة للوضع في لبنان بالتحديد، يرى التقرير أنّه توجد خصوصيّات معيّنة، لا سيّما إثر اغتيال الرّئيس الشهيد رفيق الحريري، وتداخل المصالح الأوروبيّة مع المصالح الأميركيّة وغير الأميركيّة. وهنا، أي في لبنان، المنطقة الوحيدة التي يؤدّي عدم الاستقرار والفوضى فيها إلى عدم استقرار وفوضى في سوريا. وعدم الاستقرار هذا من شأنه أن يزداد تفاقماً كلّما تزايدت حدّة التجاذبات الدوليّة، بعد مرور 25 سنة من التوافق وشبه الإجماع الدولي. وفي لبنان وحده، حسب التقرير، "ترتبط الروزنامة الديمقراطيّة بهموم استراتيجيّة تقليديّة مثل حلّ قضية سلاح إيران النووي سلميّاً، لأنّه من الصعب ألاّ تعتبر إيران المفاوضات حول سلاحها النّووي وتطبيق القرار 1559، إلاّ كحملة دوليّة متكاملة للقضاء على تأثيرها الإقليمي". ويتابع التقرير "أنّ الموضوع اللبناني يلامس عمليّة السلام بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين ممّا يثير نقاشاً داخليّاً إسرائيليّاً حول مدى الفائدة من الديموقراطيّة (عدم الإستقرار) على حساب الإستقرار". ويختصر التقرير مشهد الفوضى الخلاّقة في الساحة اللبنانيّة من خلال التشديد على أنّ الجميع "إسرائيل وإيران وأوروبا والولايات المتّحدة وسوريا والفلسطينيين... كلّهم يلتقون في لبنان".

خلاصة
من خلال ما تقدّم يبدو أنّ سياسة "الفوضى البنّاءة" التي بادر الأميركيّون إلى تطبيقها العملي والفوري بعد أحداث 11 أيلول، يمكن أنّ يتمّ تصويرها على أنّها سباق محموم ما بين الترويج للحريّة والديمقراطيّة وتوابعهما على الطريقة الأميركيّة من ناحية، وبين شعارات وأفكار الإسلاميّين المناهضين للغرب، من أجل الوصول إلى السلطة، من ناحية أخرى، علماً بأنّ أحداث واشنطن ونيويورك جاءت كطوق نجاة للمصالح الإسرائيليّة، وأوجدت انطباعاً لدى الرأي العام الأميركي بأنّ العرب والمسلمين يقتلون الآخرين من دون تمييز. ويتمّ ربط ذلك بتخطيط خبيث لدى إصابة أي مدني إسرائيلي في مواجهات الانتفاضة. وبالتالي "فالفوضى البنّاءة" التي تدعو إليها إدارة الرّئيس بوش هي نفسها التي تخلط بصورة إستنسابيّة وغير منطقيّة ما بين الإرهاب والمقاومة، بين السبب والنتيجة، وهي نفسها التي تجعل التاريخ في المنطقة لا يبدأ إلاّ مع أحداث الحادي عشر من أيلول، متناسية العقود السابقة من الإعتداءات والإنتهاكات الصهيونيّة منذ عام 1948 وحتّى اليوم، مروراً بعدوان عام 1967 وما رافقه من قرارات دوليّة عطّلتها إسرائيل، وأحلّت محلّها منطق الدفاع الإستباقي عن النّفس الذي تمارسه حكومات شارون المتعاقبة. وبالتالي فالمذابح التي ارتكبها شارون في مخيّم جنين الفلسطيني في نيسان عام 2002 مستخدماً الطوّافات والبلدوزرات والطائرات السمتيّة، لم تشكّل أكثر من "دفاع مشروع عن النفس". وفي هذا السياق يقول الرّئيس بوش: "إنّنا في صراع بين الخير والشرّ. وأميركا ستسمّي الشرّ بإسمه. إنّكم إمّا أن تكونوا معنا - وبالتالي ضدّ الشرّ­ أو ضدّنا، وبالتالي مؤيّدين لمرتكبي الشرور، أي الإرهابيّين أنفسهم. وكحرب على الشرّ تصبح هذه حرباً بلا نهاية، بخاصّة وأنّ مرتكبي الشرور يتكاثرون مع اتّساع تعريف الإرهاب". وفي هذا المجال يكفي التذكير بطلب الإدارة الأميركيّة من العديد من الأنظمة العربيّة والإسلاميّة، وفي مقدّمتها مصر والسعوديّة وباكستان وسائر دول المغرب العربي، بإعادة النظر في مناهجها التعليميّة الإسلاميّة، بالإضافة إلى تعزيز مركز الدراسات التابع للبيت الأبيض "راند كوربوريشن" الذي اعتبر السعوديّين ناشطين على كلّ المستويات في السلسلة الإرهابيّة، مثلما اعتبر جون أشكروفت، وزير العدل الأميركي السابق، أنّ مفهوم العدل الإلهي في الإسلام هو مفهوم خاطئ، لإنّ اللّه في هذا المفهوم "يطلب منك أن ترسل إبنك لكي يموت من أجله". هذه الأمور وسواها من شأنها أن تفتح المجال أمام حرب حضارات عالميّة لا أحد يعرف مداها وخطورتها، وعندئذ لا تعود سياسة "الفوضى البنّاءة" منحصرة في الشرق الأوسط لوحده، بل من شأنها أن تجتاح العالم بأسره وتوجد حالة من الفوضى العالميّة القاتلة التي قد تنفتح على أوضاع رهيبة من العنف والتخريب. 

 

[1] من حديث للسيدة رايس إلى صحيفة الواشنطن بوست 4/2/2005

[2] مذكرات موشيه شاريت ص 2397 وما بعدها وأيضاً الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في جبل عامل -محمد

[3] كوراني­ دار الوسيلة )خطة بن غوريون ورد موشيه شاريت) مذكرات موشيه شاريت -يوميّات شخصيّة­ 16/5/1954 )ص 999)

[4] تطور العقيدة العسكريّة الإسرائيليّة خلال 35 عاماً، ترجمات مختارة من مصادر عبرية، إعداد سمير جبّور -مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، الطبعة الأولى 1983 )ص 88) من مجلة كيفونين العدد رقم 14 شهر شباط 1982 )ص49­61

[5] تطوّر العقيدة العسكريّة - مصدر سابق  )ص82­83)

[6] لمزيد من التفاصيل أنظر د. حسن نافعة -جريدة الحياة 6/4/.2005

[7] جريدة الأهرام 15/9/.1992

[8] المستقبل العربي - العدد 281­ تمّوز 2002 )ص 68)

[9] فصليّة إيران والعرب - العددان العاشر والحادي عشر /خريف 2004 وشتاء 2005)ص125)

[10] التقرير الإستراتيجي العربي - 2002 -2003 )ص119)

[11] مجلة الأرض­ العدد2­ شباط 2005 )ص44)

[12] المصدر السابق ص 45 و .46

[13] المصدر نفسه ص .46

[14] المصدر السابق 

[15] يديعوت أحرونوت 19/3/.2003

[16] صحيفة الإتّحاد الإماراتيّة 61/6/.2003 وأيضاً أنظر صحيفة الوطن القطريّة 18/3/.2003

[17] التقرير الإستراتيجي 2002­2003 ص 122 

[18] التقرير الإستراتيجي العربي 2002­2003 ص 277

[19] المستقبل العربي، السنة 25 العدد 284 تشرين الأول 2002 ص 20 

[20] المصدر السابق

[21] نيويورك تايمز 25/6/.2002

[22] المستقبل العربي/ المصدر السابق ص 36

[23] جريدة الحياة 6/4/.2005

[24] الموقع على الإنترنت www.alnahada.org ، وأيضاً جريدة السفير 8/4/.2005

The Israeli role and gains in the American “constructive anarchy” system

Following the collapse of the soviet union and the events of September 11 / 2001, The American new administration, presided by Georges W. Brush adopted a policy of overthrow in the Middle-East due to a wild feeling of strength that was never witnessed before throughout human history the need to invest this strength at the geo-strategic and geopolitical levels on one hand, beside the feelings offence vengeance feeling on the other hand. There for instead of preserving stability and patronizing the existing situation adopted traditionally by the American former presidents in the region, we find that the current alternative is based on surpassing and dropping all the sovereignties in order to destroy the political structure of any system which is classified, according to the new American Zionist diary, while certifying the slogan he who is not with us is against u” . This policy which a based on challenge and direct was nicknamed by the minister of the American foreign affairs Condoleezza rice as constructive anarchy. Anarchy here means the destroynment the current position and the destabilization of its bases. the word “constructive “ means rearranging systems + leader ships , according to an elective vision and a discretionary political culture based on subjection and the forcement . without any doubt , the huge strength Zionist in the American congress and administration supported by whom are called now the new conservative one plays important role in formulating and managing a such policy . The “constructive anarchy policy has just started its way is replying deeply to the historic destroying Zionist desires ,ideas and plots , that has as bases two weak points : first , the small geographic area of Israel , second its demographic capacities limited of installation ,opposite a contradictory quality to this reality, that the Arabs possess usually and especially the Palestinians; this is the imbalance profit of the Arabs . Tanks to the application of the American policy “constructive anarchy” .the Israel role contain dangerous repercussions for the Arabic destiny, for it destabilize and threaten the systems and the orders that do not submit themselves completely the will and the common interests Americo-Zionist. It is possible then to say that the system of “constructive anarchy” represents a bouleversement violate trees in the regional in order to collect their fruit with the simplest traditional colonial means based on the principle: divide to reign, and with the least material and human damages

Le rôle et les gains israéliens dans le système de «l’anarchie constructive» américain

A la suite de l’effondrement de l’Union Soviétique et les événements du 11 Septembre 2001, la nouvelle administration américaine, présidée par Georges

w. Bush, a adopté une politique de renversement au Moyen – Orient

C’est alors qu'au lieu de préserver la stabilité et de patronner la situation existante adoptée traditionnellement par les anciens présidents américains dans la région, nous trouvons que le substitut stratégique actuel est établi pour dépasser et faire tomber toutes les souverainetés afin de détruire les composants politiques de n'importe quel régime, classifié. Cette politique qui repose sur le défi, et la comptabilité directe, a été surnommée par la ministre des affaires étrangères américaine Condoleezza Rice " l'anarchie constructive". L'anarchie ici signifie le désordre de la situation actuelle et la déstabilisation de ses bases. Le mot "constructive" signifie la remise en forme des régimes et et le renouveau des commandements, selon une vision élective et une culture politique discrétionnaire reposant sur l'assujettissement et le forcement. La politique de "l'anarchie constructive" est au début de son chemin, elle répond profondément aux désirs, idées et complots du sionisme historique saboteur qui a comme base deux points faibles: premièrement, la petite surface géographique d'Israël, deuxièmement, ses capacités démographiques limitées d'installation, en face d'une qualité contradictoire à cette réalité, que les arabes possèdent en général et surtout les Palestiniens; c'est le déséquilibre à ce niveau et qui est pour le bénéfice des Arabes.Grâce à l'application de la politique de "l'anarchie constructive" américaine, le rôle et les gains israéliens renferment des répercussions dangereuses pour le destin arabe. Les plus notables de ces répercussions sont d'imposer plus de déstabilisation politique, religieuse et raciste dans le monde arabe, évoquer des guerres civiles et des émeutes confessionnelles, afin d'éviter le fardeau de nouvelles guerres directes ou indirectes, petites ou grandes. Il est possible alors de dire que le système de "l'anarchie destructive" représente un boulversement violent des arbres des Etats de la région afin de collecter leurs fruits avec les moyens colonials traditionnels les plus simples basés sur le principe: divisez pour régner, et avec les moindres dégâts matériels et humains