دور القضاء العسكري في مكافحة الإرهاب والتجسس وخطورة المسّ به

دور القضاء العسكري في مكافحة الإرهاب والتجسس وخطورة المسّ به
إعداد: العقيد الركن أنطوان شديد
ضابط في الجيش اللبناني

 المقدّمة

تؤدي الجريمة إلى الإخلال بأمن المجتمع وإلحاق الضرر بالمجني عليه، وهذا ما يُعطي حقًا للدولة في توقيع العقاب بالجاني عن طريق أجهزة قضائية متخصصة في مجال الادعاء والملاحقة والتحقيق والمحاكمة. من هنا يُشكّل القضاء الجزائي في لبنان الملتزم بمبدأ "لا جريمة دون نص"[1]، وهو ما يُسمى بمبدأ الشرعية الجزائية. وقد جاء دور المحاكم في الحفاظ على النظام العام عن طريق قمع الجريمة وملاحقة المجرمين وإحالتهم أمام المحاكم الجزائية المختصة، بهدف معاقبتهم وإعادة الحق المُغتَصب إلى أصحابه. هذا وتتنوع المحاكم في لبنان من حيث اختصاصاتها ونطاق عملها، ولكنّها تدخل جميعها ضمن تسمية المحاكم العادية، وفي بعض الحالات أوجب المشرّع ملاحقة ومحاكمة بعض الجرائم المحددة حصرًا أمام محاكم جزائية استثنائية بموجب قوانين خاصة تُجيز ذلك، ومن هذه المحاكم المحكمة العسكرية الدائمة المنفردة في اختصاصها الشخصي والموضوعي، والمتميزة في تنظيمها كما في إجراءات المحاكمة المتّبعة لديها.

إذا كان وجود هذه المحكمة الاستثنائية، خصوصًا في الظروف الاستثنائية الحالية التي تمر فيها المنطقة، أمرًا مسلّمًا به من غالبية الحقوقيين اللبنانيين، فإنّ صلاحيات هذه المحكمة، النوعية منها والشخصية، لجهتَي المضمون والسعة، كانت وما زالت موضوع جدل واسع ومعلّل، ما طرح قيد المناقشة الجدية الواقع التشريعي الحالي لهذه المحكمة.

إنّ الخلاف الدائر بين الحقوقيين في هذا الشأن يجد باعثه، من جهة، في رغبة بعضهم بتضييق الصلاحية الموضوعية لهذه المحكمة، وحصرها في المسائل الخاصة بالمؤسسة العسكرية وأمنها، ومن جهة أخرى في إصرار البعض الآخر على الاكتفاء بترميم الوضع القائم.

استنادًا إلى ما تقدّم، تبرز لدينا إشكالية مستقبل مكافحة الإرهاب والتجسس، في ظل المطالبات بإلغاء صلاحيات المحكمة العسكرية أو الحد منها، ما يدفعنا إلى طرح التساؤلات التالية:

     1- ما مدى قدرة القضاء العدلي على القيام بمهمة مكافحة الإرهاب والتجسس، وإمكانية تأمين الحماية الأمنية اللازمة له؟

     2- هل يمكن محاكمة العسكريين أمام المحاكم العدلية وخاصة لما لهذا الأمر من خصوصية أمنية كبيرة؟

     3- هل المحكمة العسكرية هي الحل الأنسب لمكافحة الإرهاب والتجسس وتشكيل الرادع الكافي وخاصة مع الازدياد المطّرد لهذه الجرائم؟

 

القسم الأول: القضاء العسكري بين التنظيم والأصول

أولًا: التنظيم القانوني للقضاء العسكري في لبنان

أعطى قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد[2]، بموجب نص عام، المحاكم العادية صلاحية النظر في الدعاوى الجزائية جميعها، ما لم يوجد نص خاص يمنع عنها صلاحية النظر في قضايا معيّنة ليُدخلها في اختصاص محاكم استثنائية أو خاصة، كالمحكمة العسكرية أو المجلس العدلي، فاختصاص المحاكم العادية هو الأصل، لتمتّعها بالولاية الشاملة[3]. والمحاكم الاستثنائية توجد في كل دول العالم، وهي تنشأ في الأصل لمعالجة ظروف استثنائية، في زمن استثنائي يقتضي اتخاذ إجراءات سريعة ومؤقتة، ومن ثم العودة إلى الأصل، أي إلى الوضع العادي وفق قواعد العامة المعمول بها في الظروف الاعتيادية. وفي المبدأ لا تكون المحاكم الاستثنائية الجزائية، بخلاف المحاكم الجزائية العادية، مختصة للنظر في قضية معيّنة إلا بموجب نص قانوني خاص يُبيح لها صراحة حق الملاحقة والمحاكمة في بعض الجرائم أو بسبب المساهمة في ارتكابها، أو بالنظر إلى طبيعة الأفعال الجرمية المرتكبة[4]. وقد لحظ المشترع اللبناني عدة أنواعٍ من المحاكم الاستثنائية انطلاقًا من الواقع الاجتماعي والواقع الأمني اللذَين تمر فيهما البلاد، هذا بالإضافة إلى إنشائه المحكمة العسكرية الدائمة التي أعطى وجودها أهمية كبيرة في منظومة التشريع اللبناني.

تشمل المحاكم الجزائية الاستثنائية في لبنان: المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، المجلس العدلي، الهيئة العامة لمحكمة التمييز الجزائية عندما تنظر بالجرائم المنسوبة إلى القضاة، محكمة الأحداث، القضاء العسكري، محكمة المطبوعات، المحكمة الناظرة بالقضايا الجمركية، ومحكمة مكافحة الغش والاحتكار[5]. بعد ذكر هذه المحاكم الاستثنائية، سوف نضيء فيما يلي على موضوع مقالنا هذا ألا وهو القضاء العسكري متناولين تعريفه، جذوره التاريخية، هيكليته، اختصاصه، صلاحية محاكمه، وخصوصياته.

يشغل القضاء العسكري حيّزًا مهمًا في بنية الجسم القضائي اللبناني نظرًا إلى سعة اختصاصه وتنوّع الأشخاص المحالين أمامه، بسبب صفتهم الوظيفية، أو بسبب نوعية الأعمال المنسوبة إليهم، ولا بد من الإشارة إلى هذا القضاء الذي يُعنى:

     1- بتحديد المحاكم العسكرية وتنظيمها، بما في ذلك الصلاحيات والأصول الواجب اتباعها أمامها. كما أنّه القانون الذي يُحدد العقوبات والجرائم العسكرية. إنّه قانون يجمع بين أمرَين: قانون تنظيم القضاء العسكري وأصول المحاكمات الجزائية من جهة، وقانون العقوبات والجرائم العسكرية من جهة أخرى[6]. بذلك يكمن أول اختلاف بين قانون القضاء العسكري وقانونيّ العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية، إذ إنّه في الحقل الجزائي لكل منهما قانون خاص نظرًا لاتساع المواضيع.

     2- لا تلغي هذه الاختلافات حقيقة العلاقة المتينة والثابتة بين قانون القضاء العسكري وقانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية إذ إنّ قانون القضاء العسكري هو قانون خاص، وأما القانونان الآخران فهما قانونان عامان، ويقتضي تطبيق القانون الخاص عندما يرتكب الجرم المنصوص عليه أحد العسكريين. ويقتضي دومًا الرجوع إلى القانون العام في حال خلوّ قانون القضاء العسكري من نص ينطبق على الجرم المنسوب إلى المدعى عليه[7].

أما تاريخيًا، فقد عرف اللبنانيون في بداية شهر تشرين الأول من العام 1945 ولادة أول محكمة عسكرية وطنية لهم، بعد الاستقلال، مبررة ضرورة وجودها بأنّه عندما أقرّت جمعية الأمم المتحدة قيام فرنسا بانتداب لبنان أعطتها الحق بإبقاء جيوشها على الأراضي اللبنانية للمحافظة على سلامة الدولة الواقعة تحت سلطة الانتداب. وتوالت منذ ذلك الحين القوانين المتعلقة بالقضاء العسكري، وتوسعت صلاحياته أكثر فأكثر. ففي 12 كانون الثاني من العام 1946، صدر قانون العقوبات العسكري وألغى معه قانون العقوبات العسكري العثماني والقانون الذي أنشأ محكمة عسكرية وطنية لأول مرة للعام 1945. بعد ذلك وتحديدًا في 28 شباط 1956، صدر القانون المتعلق بإنشاء محكمة تمييز عسكرية، وتعديل بعض مواد قانون العقوبات العسكرية المذكور، ووفق أسباب الموجبة لإنشاء محكمة التمييز العسكرية. وعطفًا على ما تقدّم، لا بد من تسليط الضوء على هيكلية هذا القضاء الاستثنائي الذي تتشابه مع القضاء الجزائي.

 

١- هيكلية القضاء العسكري اللبناني

يتألف من ثلاثة أجهزة قضائية تعمل باستقلاليةٍ وتعاون لإيصال الدعوى إلى مرحلة الحكم، بحيث يتمثل قضاء الادعاء بمفوضية الحكومة لدى المحكمة العسكرية، وقضاء التحقيق من قضاة التحقيق العسكريين، فيما يتألف قضاء الحكم بمستوياته الثلاث من قضاة منفردين ومحكمة عسكرية دائمة ومحكمة تمييز عسكرية. وسنتناول في ما يلي مهام هذه الأجهزة.

     • مفوض الحكومة ومعاونوه

تتحرك الدعوى العامة في القضاء العسكري بشكلٍ حصري من قبل مفوضية الحكومة، فالمتضرر لا يمكنه تقديم شكواه مباشرة أمام قاضي التحقيق، أو المحكمة العسكرية الدائمة، أو القاضي المنفرد العسكري بل أمام النيابة العامة التي تتولى السير في الدعوى. ويُمارس مفوض الحكومة، القائم بأعمال النيابة العامة لدى المحكمة العسكرية ومعاونوه، وظائف النائب العام الاستئنافي عمومًا إلى جانب الأصول والأعمال الخاصة بهم والمحددة في القانون[8].

     • دائرة قضاة التحقيق

يقوم بوظيفة قاضي التحقيق لدى المحكمة العسكرية قاضٍ أو عدة قضاة من ملاك القضاء العدلي، أو ضابط أو عدة ضباط من المجازين في الحقوق، وتتألف الدائرة من قاضي التحقيق العسكري الأول ويعاونه ستة قضاة تحقيق، ويمكن أن يُعيّن ضباط من المجازين في الحقوق للقيام بوظيفة قاضي تحقيق عسكري. يُعيّن القضاة العدليون لدى المحاكم العسكرية من قضاة الملاك العدلي بناء على اقتراح وزيرَي العدل والدفاع الوطني، وبعد موافقة مجلس القضاء الأعلى، ويبقى هؤلاء القضاة خاضعين لوزارة العدل في كل ما يتعلق برواتبهم وترقياتهم وتأديبهم[9].

     • قضاء الحكم

يتألف قضاء الحكم من:

     - قضاة منفردين عسكريين: يتولى القضاء العسكري المنفرد قضاة من ملاك القضاء العدلي، غير أنّه يمكن تعيينهم من الضباط المجازين في الحقوق من رتبة ملازم أول فما فوق، وإذا تعذّر ذلك فمن غير المجازين[10].

     - المحكمة العسكرية الدائمة ومركزها بيروت، ويمكن تغيير مركزها بقرارٍ من وزير الدفاع الوطني بعد أخذ رأي السلطة العسكرية العليا، ويتأثر تأليفها بنوع الجرم الذي تنظر فيه، ففي الدعاوى الجنائية تُشكّل هذه المحكمة من رئيس برتبة ضابط مقدم وما فوق، ومن أربعة أعضاء، أحدهم قاضٍ عدلي من الدرجة الثالثة عشرة وما فوق، ومن ثلاثة ضباط من رتبة دون رتبة الرئيس، وتُشكّل في الدعاوى الجنحية من رئيس ضابط لا تقل رتبته عن رتبة مقدم وما فوق، ومن عضوَين أحدهما قاضٍ عدلي من نفس درجة الأول، ومن ضابط دون رتبة الرئيس[11].

     - محكمة التمييز العسكرية ومركزها الرئيسي في بيروت. تُشكّل هذه المحكمة بحسب نوع الجرم الذي تنظر فيه، ففي الدعاوى الجنائية تُشكّل من رئيس وهو قاضٍ عدلي من الدرجة السابعة وما فوق، ومن أربعة ضباط أعضاء من رتبة مقدم وما فوق، أما في الدعاوى الجنحية فتتألف من قاضٍ من الدرجة السابعة وضابطَين عضوَين من رتبة مقدم وما فوق بدلًا من أربعة[12].

 

٢- صلاحية القضاء العسكري

أما في ما يتعلق بالاختصاص، فهو بصورةٍ عامة، أهلية إحدى السلطات للقيام بأعمالٍ معيّنة، ويعني بالنسبة إلى القضاء الجزائي، أهلية القاضي لرؤية الدعوى الجزائية والفصل فيها وفي الدفوع المقدمة في شأنها[13]. إنّ قواعد الاختصاص في القضايا الجزائية هي من النظام العام، لأنّها وُضعت لتأمين حُسن سير العدالة الجزائية، ويجوز إثارتها في مراحل الدعوى جميعها، بل يتوجب على المحكمة إثارتها عفوًا من تلقاء ذاتها حتى لو لم يتعرض لها الفرقاء[14]. وعندما نتحدث عن الاختصاص، نعني بذلك سلطة المحكمة وصلاحياتها للنظر في القضية المطروحة أمامها إنْ لجهة الشخص المحال أمامها، أم لجهة الجريمة المسندة إلى الفاعل أو باقي المدعى عليهم من شركاء ومتدخلين أو محرضين، أم لجهة مكان وقوع الجريمة أي وقوع هذا الجرم داخل المنطقة الخاضعة إداريًا لهذه المحكمة[15]. لا بد لنا في هذا السياق من تناول موضوع صلاحيات المحكمة العسكرية ألا وهي:

     1- الصلاحية الإقليمية: تشمل صلاحية المحكمة العسكرية الدائمة الأراضي اللبنانية كافة، باستثناء المناطق التي تشملها المحاكم العسكرية المؤقتة الخاصة بالقوات المسلحة[16].

     2- الصلاحية النوعية: تُحدّد هذه الصلاحية اختصاص المحكمة في النظر في هذا الفعل الجرمي أو ذاك، وفي نوع هذه الجريمة أو تلك، وعندما نتكلم على الصلاحية الموضوعية أو النوعية للمحكمة العسكرية، لا بد لنا من أن نعرض مواد قانون القضاء العسكري المتعلقة بهذه الصلاحية، ومناقشة كيفية تطبيقها، وشرح أنواع الجرائم التي تنضوي ضمنها، وهي المذكورة في المادة 24 من قانون القضاء العسكري.

     3- الصلاحية الشخصية: يُقصد بها صلاحية المرجع الجزائي بالنظر إلى شخص المدعى عليه، حالته وصفته الخاصة، كما بالنظر أيضًا لشخص المدعي أي المتضرر. ويمكن القول إنّ ما يُحدد اختصاص المحكمة العسكرية هو "الصفة العسكرية" لشخص المدعى عليه، بغضّ النظر عن طبيعة الجرم الذي ارتكبه، ويُحاكم أمام المحكمة العسكرية أيًا كان جنسيتهم وأيًا كان نوع الجريمة المسندة إليهم وفقًا للمادة 27 من قانون القضاء العسكري.

أما في حالة الخلاف على الصلاحية بين المحاكم، فقد ميّزت المادة 26 من قانون القضاء العسكري عند وقوع خلاف سلبي أو إيجابي[17]، بين مرجعَين قضائيَين عسكريَين، وآخر بين محكمة عسكرية ومحكمة عدلية. ففي الحالة الأولى، المحكمة الصالحة للبتّ بتعيين المرجع هي محكمة التمييز العسكرية بهيئتها الجنحية. أما في الحالة الثانية، فتصبح محكمة التمييز العدلية هي محكمة تعيين المرجع. فإذا كان الجرم جناية من صلاحية المحكمة العسكرية، فإنّها تنظر تبعًا لهذه الجناية بسائر الجرائم المتلازمة معها[18].

أما إذا كان الجرم جناية من صلاحية القضاء العادي، وكان ثمة جنحة من صلاحية القضاء العسكري متلازمة مع الجناية، فإنّ القضاء العادي ينظر في الجرمَين معًا، أما إذا لوحق شخص في آن واحد بجرمٍ من صلاحية المحكمة العسكرية وبجرمٍ من صلاحية المحاكم العادية، فإنّه يُحاكم بكل جرم على حدة من قبل القضاء الصالح، وعلى المحكمة التي تنظر بعد الأولى بالجرم الذي هو من صلاحيتها أن تَبُتّ بجمع العقوبات أو بإدغامها[19].

 

ثانيًا: القضاء العسكري: أصول بسيطة لجرائم خطيرة

تحكم إجراءات الملاحقة الجزائية أصول وضوابط، تُحددها نصوص قانونية محددة، وفي مقدمتها أصول المحاكمات الجزائية، أما تلك النصوص التي تحددها قوانين خاصة، كما هو الحال في النصوص الإجرائية التي تُحدد أصول الملاحقة أمام بعض المحاكم الجزائية الاستثنائية، كالمحاكم العسكرية، فيغلب على إجراءات الملاحقة فيها طابع الإجراءات الكلاسيكية التي تحكمها الكثير من القيود والضوابط، من هنا تُقسم الأصول الواجب مراعاتها نسبة إلى مراحل المحاكمة.

 

١- الأصول الواجب مراعاتها خلال مرحلة ما قبل المحاكمة

أولى المشرّع اللبناني القضاء العسكري صلاحية النظر بالجرائم الإرهابية، وبالتالي تكون المحاكم العسكرية هي المختصة بالجرائم الإرهابية[20]، باستثناء الجرائم الإرهابية التي تُحال إلى المجلس العدلي بمرسومٍ صادر في مجلس الوزراء.

يختص مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية ومعاونوه، بتحريك الدعوى العامة والسير بها أمام المحكمة العسكرية، ما لم يصدر مرسوم يقضي بإحالة إحدى القضايا على المجلس العدلي فتكفّ يد المراجع القضائية الناظرة كافة.

 

٢- الأصول الواجب مراعاتها خلال مرحلة المحاكمة

تخضع الملاحقات والتحقيقات والمحاكمات وإصدار القرارات والأحكام وطرق الطعن في القضاء العسكري، لقانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، باستثناء بعض النصوص المخالفة الواردة في هذا القانون.

هذا ويتمتع كل من الخصوم باستثناء الطرف المتضرر من الجريمة، خلال إجراءات المحاكمة أمام المحاكم العسكرية، بالحقوق ذاتها الممنوحة لهم أمام القضاء الجزائي العادي. وقد منع المشرّع المتضرر من تحريك الدعوى العامة، إذ حرمه من الادعاء المباشر بدعوى الحق الشخصي أمام أي مرجع عسكري، ومنعه أيضًا من الانضمام إلى الدعوى العامة بعد تحريكها، ففوّت عليه إمكانية المطالبة بتعويضاتٍ شخصية أمامها. إنّما ذلك لا يمنعه من التقدم بشكوى أمام مفوضية الحكومة أو الشرطة العسكرية في الجريمة المشهودة، وبالتالي ليس هناك ما يمنع الاستماع إليه بصفة شاكٍ أو شاهد[21].

وتختلف إجراءات الملاحقة والحقوق والضمانات المقررة لحماية مصالح الخصوم، لو أُحيلت القضية أمام المجلس العدلي، إذ يتوجب فور تعيين المحقق العدلي، على المراجع كافة التي كانت قد وضعت يدها على القضية أو كُلّفت القيام ببعض إجراءات الملاحقة والتوقيف وإحالة الملفات والمستندات كافة المتعلقة بالقضية، ومنها المحاضر المنظمة إلى المحقق العدلي المعيّن، وذلك بواسطة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية.

وكما هو الوضع أمام المراجع العسكرية، حُرم المشرّع المتضرر من جريمة إرهابية حقه في تحريك الملف بالإدعاء الشخصي المباشر أمام المجلس العدلي، ولكنّه أجاز له حق الانضمام إلى الدعوى العامة، والمطالبة بالتعويض عما لحق به من ضرر.

إنّ هيئة المحكمة العسكرية الناظرة بالقضايا الجنحية تتبع في المحاكمة نفس الأصول والقواعد التي يطبّقها القاضي المنفرد الجزائي، والهيئة الجنائية تتقيد ببعض الأصول العامة، باعتبار أنّ لها قواعد أصولًا خاصة، بينما تتبع الهيئة الناظرة بقضايا الاستئناف، نفس الأصول والقواعد التي تطبّقها محكمة الاستئناف، حتى صدور الأحكام النهائية.

    

• المحاكمة الوجاهية:

     - العلانية

تجري المحاكمة علانية أمام المحكمة العسكرية على اختلاف درجاتها، بمعنى أنّه يمكن لمن يشاء من الناس حضور المحاكمة، وهذه القاعدة مفروضة تحت طائلة الإبطال إلا في بعض الأحوال الخاصة، كالمحافظة على النظام العام حيث يمكن للمحكمة العسكرية الدائمة أن تجري المحاكمة بشكلٍ سري، على أن تصدر الأحكام علنًا[22].

     - الشفاهية

تُعد الشفاهية شرطًا أساسيًا تحت طائلة إبطال الحكم، إذا لم تُراعَ خلال مراحل المحاكمة كافة، بحيث وُجب تلاوة ورقة الادعاء أو القرار الظني أو الاتهامي بعد التثبّت من هوية المدعى عليه وقبل استجوابه الكامل، ووضع الأدلة جميعها قيد المناقشة وعرض المواد الجرمية وتلاوة المحاضر التي تثبت ضبطها. إنّ قاعدة الشفاهية تتعلق بالنظام العام.

     - الوجاهية

يجب على المحكمة اعتماد قاعدة الوجاهية والتقيّد بها، فالمحاكمة تجري بحضور فرقاء الدعوى، أي المدعى عليهم وممثل مفوضية الحكومة، إلا أنّ هذه الأخيرة لا تمثُل أمام القاضي المنفرد العسكري، وإذا لم يحضر المدعى عليهم تجري محاكمتهم غيابيًا بعد تبليغهم قانونًا، ويجب في القضايا الجنائية إبلاغ المتهم قرار الاتهام الصادر بحقه، وإلا يكون الحكم باطلًا.

أما عندما يتبين من نتيجة التبليغ، أنّ المدعى عليه قد تبلّغ أصولًا أو تم إبلاغه لصقًا، لعدم العثور عليه، ولم يحضر في الموعد المقرر لمحاكمته، أو لم يسلّم المتهم أو الظنين نفسه للتوقيف، قبل الساعة المحددة لافتتاح الجلسة، جاز للمحكمة العسكرية محاكمته غيابيًا، ويقتضي التمييز بين الجناية والجنحة.

     - حق الدفاع

     يُعدّ هذا الحق من الحقوق التي تحظى باهتمامٍ دائم نظرًا لخطورة القضايا المتعلقة به والنتائج المترتبة عليها، كما يُشكّل ركيزة جوهرية للمحاكمة المنصفة، التي يُشكّل نظامها المتكامل[23]. حيث إنّ وجود محامٍ للدفاع عن المدعى عليهم إلزامي أمام المحاكم العسكرية كافة باستثناء القضاة العسكريين المنفردين، ويُعهد بالدفاع عن المحالين على المحكمة العسكرية الذين ليس لديهم محامين إلى أحد المحامين أو الضباط المجازين في الحقوق المعيّنين بقرارٍ من وزير الدفاع الوطني. ويمكن توكيل محام شفهيًا خلال الجلسات من دون لزوم تسجيل الوكالة إذا كانت خطية. على رئيس المحكمة العسكرية تعيين محام للدفاع عن المدعى عليه في حال لم يعيّن هو محاميًا، أو إذا تعذّر على محاميه الدفاع عنه. فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه، ويعني حق الدفاع بالأصالة حق المتهم بأن يُبدي في حرية كاملة وجهة نظره في شأن وقائع الدعوى وتطبيق القانون عليها.

     باستثناء النصوص المخالفة الواردة في هذا القانون، تخضع للملاحقات والتحقيقات والمحاكمات وإصدار القرارات والأحكام وطرق الطعن فيها لقانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني.

 

 • المحاكمة الغيابية

عندما يتبين من نتيجة التبليغ، أنّ المدعى عليه قد تبلّغ أصولًا أو تم إبلاغه لصقًا لعدم العثور عليه، ولم يحضر في الموعد المقرر لمحاكمته، جاز للمحكمة العسكرية محاكمته غيابيًا، ويقتضي التمييز بين الجناية والجنحة.

     - الحكم الصادر في الجناية

إنّ الحكم الغيابي الصادر عنها لا يقبل الاعتراض أو النقض[24]، غير أنّه إذا أوقف المحكوم عليه الفار، من جراء تسليم نفسه، أو إلقاء القبض عليه قبل سقوط العقوبة المحكوم بها، بمرور الزمن، تُقرر المحكمة التي أصدرت الحكم باعتبارها واضعة يدها على الدعوى من دون سواها، إسقاط الحكم الغيابي الصادر في حقه وإلغاء مفاعيله كافة وتحاكمه مجددًا موقوفًا، وبالصورة الوجاهية.

     - الحكم الغيابي الصادر في الجنحة

إنّ هذا الحكم قابل للاعتراض بمهلة عشرة أيام من تاريخ التبليغ، كما أنّه قابل للنقض بمهلة 15 يومًا اعتبارًا من تاريخ تبليغ الحكم القاضي بردّ الاعتراض شكلًا أو اعتبارًا من تاريخ انقضاء مهلة الاعتراض في حال لم يتم تقديمه.

إذا اعترض المحكوم عليه وكان اعتراضه مقدمًا ضمن المهلة القانونية، تُقرر المحكمة إسقاط الحكم الغيابي واعتباره كأنّه لم يكن، وتجري المحاكمة مجددًا بالصورة الوجاهية وتسمى حينها بالمحاكمة الاعتراضية.

     - طرق المراجعة

أما في ما يتعلق بطرق المراجعة فتُقسم إلى نوعَين: طرق مراجعة عادية وطرق مراجعة غير عادية.

 

     ١- طرق المراجعة العادية

الاعتراض والاستئناف، وهي تلك التي يُجيز فيها المشترع للمتظلّم أن يتذرّع بكل حكم صدر ضده لأي سبب كان من غير أن يفرض عليه أن يستند في طعنه على عيب قانوني مشروط.

    أ- الاعتراض

يقتصر الاعتراض فقط على الأحكام الغيابية، والحق بالاعتراض يقتصر أيضًا على الجنح إذ إنّ الحكم الغيابي الصادر في الجناية لا يقبل الاعتراض. وللاعتراض المقدم مفعولان:

مفعول مُسقَط: بمعنى أنّ الحكم الغيابي يسقط إذا ما توافرت شروطه القانونية والشكلية، ويقتصر هذا المفعول على مقدم الاعتراض فقط.

مفعول إعادة الدعوى: تُعاد إلى المحكمة نفسها التي أصدرت الحكم الغيابي من أجل إجراء المحاكمة مجددًا بصورةٍ وجاهية.

    ب- الاستئناف

تقتضي هذه الطريقة برفع القضية إلى مرجع ثانٍ أعلى مرتبة في التسلسل القضائي من المرجع الذي أصدر الحكم بقصد إبطال أو تعديل ما ورد في الحكم السابق. إنّ الأحكام الصادرة عن القضاة المنفردين العسكريين في الدعوى الجنحية بالصورة الوجاهية أو بمثابة الوجاهي تقبل الاستئناف وفقًا للأصول العادية المعيّنة في قانون أصول المحاكمات الجزائية. إنّ الأحكام القابلة للاستئناف هي أحكام القضاة العسكريين المنفردين سواء قضت بالبراءة أو بالعقوبة، وسواء فصلت في الأساس أم في الصلاحية أم في الاختصاص.إذًا، لا استئناف في الأحكام الصادرة عن المحكمة العسكرية الدائمة.

يكون للاستئناف مفعولان أساسيان:

المفعول المعلّق: يُقصد به تعليق تنفيذ الحكم البدائي الصادر عن القاضي العسكري المنفرد.

المفعول الناقل والناشر: يُقصد به عرض الدعوى وبسطها أمام محكمة أعلى لتدقّق فيها، وتفصل في الاستئناف وفق موضوعه، وصِفَة مقدّمِه والأسباب المستند إليها فيه.

 

     ٢- طرق المراجعة غير العادية

التمييز وإعادة المحاكمة، وهي تلك التي لا يجوز استعمالها إلا في الحالات التي ينص عليها القانون على وجه التحديد بعكس الطرق العادية ولا مجال لاستعمالها إلا عندما تنعدم إمكانية اللجوء لطرق المراجعات العادية أو عند استنفاذها.

     أ- التمييز أو النقض

التمييز هو طريق من طرق المراجعة الاستثنائية التي تسمح للمحكمة العليا أي أعلى درجة في التسلسل القضائي بأن تُلغي الأحكام المخالفة للقانون، والقانون اللبناني جمع في محكمة التمييز صلاحية مزدوجة، فولّاها في الوقت نفسه سلطة نقض الحكم وسلطة رؤية الدعوى والفصل فيها مجددًا[25]، يكون للتمييز أو النقض مفعولان:

المفعول المعلّق أو الموقف حيث يجب التفريق بين نوعَين من العقوبات، ففي الجنح لا يجوز وقف تنفيذ عقوبة جنحية إذا كان الحكم القاضي بها موضوع طلب النقض، أما بالنسبة للجنايات، فلا يمكن قبول طلب النقض من المحكوم عليه ما لم يكن موقوفًا، أو ما لم يسلّم نفسه ويدخل السجن قبل انقضاء مهلة النقض.

المفعول الناقل والناشر أي ينقل الدعوى إلى مرجع أعلى من الذي أصدر الحكم المطعون فيه وينشرها أمامه، والمرجع الأعلى هنا هو محكمة التمييز العسكرية.

     ب- إعادة المحاكمة

إعادة المحاكمة هي إحدى طرق الطعن الاستثنائية التي تسمح بإلغاء حكم أصبح مبرمًا لاستنفاذه طرق المراجعة كافة، العادية وغير العادية، أو لانقضاء المهل من دون الطعن به، في حال ألحق هذا الحكم ضررًا بالشخص الذي تم إصدار الحكم بحقه.

 

القسم الثاني: التصويب على القضاء العسكري: إحقاق للعدالة أم خدمة للإرهاب والتجسس؟

يكاد الإرهاب الذي تحتاط منه دول العالم يشمل الكرة الأرضية، فالإرهاب بسبب الإهمال وعدم المواجهة أصبح منظمة ومافيا عالمية، وأصبح للإرهابيين القدرة على السيطرة أكثر على قدرات البلدان والعبث بأمن الإنسان ومصيره.

إنّ محاربة الإرهاب والتجسس تتم حاليًا عبر المحكمة العسكرية، كونها جسم قضائي مهيأ أمنيًا لملاحقة الضالعين بهذه الجرائم ومحاكمتهم. وسنعرض فيما يأتي المفاهيم القانونية للإرهاب والتجسس، عارضين الأسباب والتقسيم وتأثير هذه الجرائم على لبنان، كما سنتطرق للانتقادات الموجهة إلى القضاء العسكري وتأثيراتها على الأمن في المجتمع اللبناني.

 

أولًا: التجسس والإرهاب تحت مطرقة العدالة

تعدّ جرائم الإرهاب والتجسس من جرائم الاعتداء على أمن الدولة، وهي تُشكّل خطرًا كبيرًا على كيان الدولة وسلامتها. والحقيقة أنّ هذه الطائفة من الجرائم ليست جريمة فرد ضد فرد ولكنها في الواقع جريمة ضد دولة على يد فرد أو مجموعة من الأفراد. وبالتالي، فإنّها تكون مرتكبة ضد الصالح العام، ويمتد أثرها ليشمل كل من يقيم على أرض الدولة اللبنانية.

تمثّل جريمة التجسس نمطًا من أنماط السلوك الإنساني الذي رافق نشوء المجتمعات القديمة، وتطوّر بتطوّرها حتى أصبح له في يومنا هذا شأن كبير. اتّسمت الجاسوسية قديمًا بالطابع العسكري، أما اليوم فقد اتّسع نطاقها ليشمل النواحي الحيوية كافة المكوّنة للدولة. إنّ جرائم الخيانة والتجسس والصلات غير المشروعة بالعدو هي من أخطر الجرائم التي تقع من الفرد ضد دولته، ذلك أنّ مقترف هذه الجريمة يقطع رابط الولاء المقدس الذي يربطه بدولته وأمّته حين يتخذ موقفًا معاديًا لوطنه وشعبه، وهو موقف لا يُقدِم عليه المواطن الشريف.

الإرهاب هو إحدى الظواهر المعاصرة التي أحدثت تغييرًا كبيرًا على الأصعدة كافة داخل الدولة، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى كونها أصبحت ظاهرة غير محدودة. أصبحت الجريمة اليوم تستخدم أحدث أدوات التكنولوجيا وترصد لها أموالًا طائلة، فقد خرجت من منهج العشوائية لتتبع التخطيط والتنظيم، إذ أصبح للجماعات الإرهابية هيكلية قيادية، تضع الخطط وتقوم بالتنفيذ بناء لاستراتيجيات تخدم مصالحها.

عندما تُرتكب جريمة إرهابية أو جريمة تجسس، فإنّها تسبب أضرارًا عامة للمجتمع، كونها تمسّ بالخصائص الأساسية لسيادة الدولة وأمنها، وانطلاقًا من تعرّض أمن الدولة إلى الخطر، فإنّ هذا يستوجب على السلطات العامة التدخل لإيقاع العقوبة وردع المرتكبين، وقد اعتمد المشرّع اللبناني في هذا الإطار سياسة جنائية متشددة.

تُعد الجاسوسية واحدة من أقدم المهن التي مارسها الإنسان داخل المجموعات البشرية المنظمة.

والتجسس هو عملية الحصول على معلومات ليست متاحة عادة للعامة، وهو أحد الأنواع والسبل الملتوية في الحروب الحديثة والقديمة، إضافة إلى أنّه يمثّل تربصًا وخطرًا داهمًا لكلا طرفَي الحرب، وبموجب القانون الدولي[26]. في الواقع لم تُحقّق الدولة العبرية انتصاراتها على الدول العربية بالاعتماد على جيشها وأسلحتها فحسب، ولكنّها تغلّبت عليها من خلال المعرفة والاهتمام بكيفية الحصول على المعلومات الاستخباراتية، بوصفها سلاحًا مهمًا في هذا العصر. وقد كشفت الأجهزة الأمنية اللبنانية العديد من برامج التجسس الإسرائيلية التي يتم تحميلها على الهواتف الذكية مثل فايبر(VIBER)، والتي تعمل مثل جاسوس متنقّل مع الضحية، بالإضافة إلى عملاء كبار يعملون من خلال شبكات الخلوي وتزوير الأرقام.

أما الإرهاب، فإنّ الإحاطة بمدى خطورته تستدعي ذكر تعريفه وأنواعه والأسباب التي تؤدي إليه، بالإضافة إلى تبيان معاناة لبنان الطويلة مع الإرهاب. وقد اعتبر القانون اللبناني أنّه "يُعنى بالأعمال الإرهابية الأفعال جميعها التي ترمي إلى إيجاد حالة ذعر وترتكبها بعدة وسائل كالأدوات المتفجرة والمواد الملتهبة والمنتجات السامة أو المحرقة والعوامل الوبائية المكروبية التي من شأنها أن تُحدث خطرًا عامًا[27]" ولا شك أنّ لبنان شهد عدة موجات من التطرف والإرهاب، وتحديدًا منذ بداية السبعينيات، حيث برزت فيه أنماط من الإرهاب، قلّما عرفها التاريخ المعاصر لهذه الدولة التي تآكلتها الحروب. فإنّ تمدّد الحركات الجهادية وتوسّع دائرة نشاطاتها في الآونة الأخيرة بات أمرًا مقلقًا، وخاصة بعد غزو العراق وبدء الأزمة السورية والنزوح السوري ودخول لبنان وسط أتون هذه الأزمة، وسعي الحركات المنضوية في ظل الشعارات إلى استخدام ساحات شتى لنشر أفكارها وفق الحاجة والمتطلبات. دخل لبنان على هذا الأساس في حلقة العنف وتحوّل إلى مركز نشاط لتلك المنظمات، فنشطت الجماعات الإرهابية فيه، على الرغم من أنّ تيارات الفكر الجهادي السلفي التي ظهرت في الخمسينيات لم تستطع أن تبني شعبية حول طروحاتها، ولم تستطع مأسَسَة نفسها.

 

ثانيًا: التجاذبات حول صلاحية القضاء العسكري وتداعياتها على الأمن في المجتمع اللبناني

لقد تعرّض القضاء العسكري على مر العصور لانتقاداتٍ شرسة ناهيك عن التجاذبات الحادة التي تُشكّل موضوعًا لها، ولعل أبرزها ما جاء على لسان أحد رؤساء الوزراء الفرنسيين السابقين جورج كليمنصو(George Clémenceau) من أنّه يكفي إضافة عبارة "عسكري" على كلمة ما من أجل إفقادها لمعناها، وأنّه انطلاقًا من هذا الواقع فلا القضاء العسكري هو قضاء ولا الموسيقى المصبوغة بذات الصفة هي الموسيقى[28]. وقد انقسمت الآراء في الداخل اللبناني ما بين مؤيد ومعارض لوجود القضاء العسكري، حيث يرى قسم كبير وجود هذا القضاء ضرورة وطنية وحاجة ملحة للاستقرار الداخلي، فيما قسم آخر يطالب الحد من صلاحياته أو إلغائه.

سنقوم بعرض وجهة نظر من يهاجم المحكمة العسكرية وينتقدها في اختصاصها وإجراءتها وأحكامها، عارضين بعد ذلك كل الدلائل والبراهين التي من شأنها أن تظهر عدم أحقية اداعاءاتهم وعدم صحة اتهاماتهم، وسنورد أسماء بعض الأشخاص الذين اعتبروا أنّ وجود المحكمة العسكرية ليس ضروريًا ويمكن الاستغناء عنها.

  

١- مكامن الخلل من وجهة نظر المنتقدين

من هنا لا بد لنا من ذكر الأسباب الدافعة إلى معارضة هذا القضاء الاستثنائي.

 

• انعدام المساواة بين المواطنين وعدم جواز محاكمة المدنيين أمام هذه المحكمة

أدّى هذا الأمر إلى المطالبة بالامتناع عن محاكمة المدنيين أمام المحاكم الاستثنائية، فهذه الإشكالية جعلت الكثيرين يرون تعارضًا بين اتّساع نطاق اختصاص القضاء العسكري وصلاحيته، وبين مبادئ حقوق الإنسان وطبيعة الأنظمة الديمقراطية.

 

• وضعية المتضرر أمام القضاء العسكري

في القضاء العسكري، تم حصر تلقّي الشكاوى والإخبارات جميعها المتعلقة بالجرائم التي هي من صلاحية القضاء العسكري بمفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. ويضع منتقدو القضاء العسكري هذا النظام في خانة المؤسسات القضائية، التي لا تقبل أصولها إطلاقًا بالتقدم بالدعوى المدنية، من قبل المتضرر للمطالبة بالتعويض لا مباشرة ولا انضمامًا إلى الدعوى العامة[29]. إنّ لمسألة عدم جواز مثول المدعي الشخصي، باسمه وصِفَته أمام القضاء العسكري أهمية خاصة في النقاش الدائر، لتعارض هذا الوضع مع حق من الحقوق الأساسية للإنسان، وهو حق الادعاء والتقاضي والمطالبة بالتعويض، بسبب الجرم الذي يقع على شخصه أو ماله أو على أي من الحقوق المادية والمعنوية المرتبطة به.

 

• حقوق الدفاع

إنّ قانون القضاء العسكري يَعُدّ وجود محامي دفاع إلزاميًا أمام المحكمة العسكرية، ولكنّه اختياريًا أمام القضاة العسكريين المنفردين[30]. ولكن خلافًا للمفهوم السائد وأيضًا حسب رأي منتقدي المحكمة العسكرية، فإنّ المفهوم السائد حول عبارة "محام" لا تعني هذه التسمية في القضاء العسكري بالضرورة أنّ هذا الشخص هو رجل قانون[31]. وبالتالي، فإنّ من يقوم بمهام محامي الدفاع في المحكمة العسكرية يمكن أن يكون شخصًا غير حائز أبسط شروط ممارسة مهنة المحاماة، ألا وهو إجازة الحقوق. أما عن الشرط الثاني لممارسة المهنة أي التدرّج في المهنة، فهو ليس متوافرًا في هذه الحالة أيضًا.

 

• علانية المحاكمات

مما لا شك فيه أنّ أهم ضمانات المحاكمة العادلة هي مبدأ علانية الجلسة لضمان الشفافية والنزاهة، أما القضاء العسكري فقد نص أنّه "تجري المحاكمة علنية أمام المحكمة العسكرية على اختلاف درجاتها، إلا أنّ لها أن تقرّر وفق قانون العادي إجراءها سرًا، على أنّ الأحكام تصدر دائمًا علنًا. وللمحكمة العسكرية أن تُحظّر نشر وقائع الجلسات أو ملخّص عنها إذا رأت موجبًا لذلك"[32]. ويَعتبر أصحاب نظرية إلغاء المحكمة العسكرية أنّ هذا النص الواسع يفسح المجال للمحكمة العسكرية، في أثناء النظر في الجرائم التي تتعلق بالمدنيين، أن تعتبرها ذات جانب أمني يُؤثّر في الأمن القومي فيتم التعامل معها بسريةٍ، مما يُشكّل انتهاكًا صارخًا لمبادئ المحاكمة العادلة والعلنية[33].

 

• تأليف المحكمة العسكرية وتشكيلها

أورد الدستور اللبناني في الفقرة "هـ" من مقدمته مبدأ فصل السلطات الذي يُعَدّ مرتكز العلاقة بين السلطات لحماية حقوق المواطنين، وذلك عندما نص على أنّ "النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها"، كما ورد في المادة 20 منه "إنّ السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة والمتقاضين الضمانات اللازمة، والقضاة مستقلون في إجراء وظائفهم، وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتُنفّذ باسم الشعب اللبناني".

تكون المحاكم العسكرية تابعة لوزارة الدفاع وليس لوزارة العدل، المرجع القضائي للمحاكم العادية، ووضعها خارج سلطة وزارة العدل وتحت سلطة وزارة الدفاع، يعني وضعها خارج نطاق القانون العادي، بعيدًا عن مبادئ حكم القانون، حيث تأتي خارج إطار النظام القضائي العام، مما يتنافى مع مبدأ فصل السلطات.

استنادًا إلى ما تقدم، وإلحاقًا لما ذكرناه من هيكلية القضاء العسكري، يستخلص معارضو وجود المحكمة العسكرية ما يأتي:

- عدد الضباط في المحاكم العسكرية يفوق عدد القضاة بضعفَين أو أكثر.

- يرأس المحكمة العسكرية الدائمة ضابط وليس قاضيًا، أما القاضي هنا فهو مجرد مستشار قضائي لا يملك سوى سلطة إبداء الرأي.

- يمكن تعيين ضباط غير مجازين في الحقوق كقاضٍ عسكري منفرد.

يتساءل هنا هؤلاء عن مدى قدرة الضباط المذكورين على صون المبادئ والمعايير الدولية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. إذ إنّه خلافًا للقضاة العدليين المتخرجين من معهد الدروس القضائية، فالضباط المعيّنين للحكم في المحاكم العسكرية من قبل السلطات السياسية والتنفيذية لم يحصلوا على تدريب كاف أو شهادة في القانون.

 

• حيادية المحكمة العسكرية

ينصرف معيار الحياد إلى مقلبَين، يصب المقلب الأول في خانة الحياد المؤسساتي، والثاني في خانة الحياد الفردي.

من جهة، الحياد المؤسساتي للمحكمة عن أي جهة أخرى وعدم تبعيتها لسلطةٍ غير السلطة القضائية. وبالتالي، إنّ عدم مراعاة هذا الشرط يُؤثّر في سير العدالة في المحكمة، الأمر الذي يزيد القلق حيال الصلاحيات الواسعة للقضاء العسكري أيضًا، كون هذا القضاء يتألف من عدد من الهيئات والأجهزة المختلفة التي تتكون من أقلية قضاة عدليين ومن أكثرية عسكريين، ويجري تعيين العسكريين منهم ومناقلتهم وفق أصول لا تتوافق والمعايير التي تضمن حياد القضاء واستقلاله[34].

من جهة أخرى، نفقد الحياد الفردي عندما يحاكم الضابط أحد أفراد مؤسسته ورفيق السلاح، حيث التعاطف والانحياز أمر إنساني وارد جدًا. من هنا تنبع فلسفة التنحّي، حيث تكون الصلة بين المحاكم العسكرية والضابط الحَكَم هي صلة وثيقة تتبع إراديًا أو بصورةٍ غير إرادية مقولة "انصر أخاك رفيق السلاح، ظالمًا كان أو مظلومًا"[35].

هذا وقد شهد التشريع العسكري في لبنان عدة تعديلات، كان آخرها في العام 2001، ولكن منذ ذلك التاريخ، ظل المشرّع اللبناني تحت وطأة المطالبات المدنية والحقوقية بالحد من صلاحيات المحكمة العسكرية وتعديل بعض نصوص القضاء العسكري، لا بد لنا أن نقف عند كل هذه المطالبات والمآخذ لنبرهن مدى الشفافية التي تتمتع بها المحكمة العسكرية الدائمة في كل إجراءاتها. وكون بحثنا هذا ليس متعلقًا سوى بدور المحكمة العسكرية الفعال في مكافحة الإرهاب والتجسس، سنعكس كل ما يتبع هذَين الجرمَين ضمن سياق موضوعي.

 

٢- واقع المحكمة يدحض حجج المنتقدين

• مبدأ المساواة

كرّست الاتفاقيات الدولية مبدأ المساواة أمام القانون والمحاكم، إذ إنّ "الكل سواء أمام القانون، ولكل شخص حق في التمتع بالحماية من قبل القانون على قدم المساواة مع الآخرين[36]. تنحصر صلاحية المحكمة العسكرية بالقضايا المحالة أمامها بموجب نص قانوني فقط. وبالتالي، فإنّ المحكمة العسكرية في ما يخص جريمتَي الإرهاب والتجسس تستمد صلاحيتها من القانون وفق الجرم بحد ذاته وليس وفق الشخص مرتكب الجرم. كما يُجاهر من ينتقد المحكمة العسكرية بعدم جواز محاكمة أي مدني أمامها، باعتبارها قضاء استثنائيًا يُميّز بين عسكري ومدني، ويُرجّح الكفّة أو الغلبة للأول على حساب الثاني، والحقيقة أنّ طرفَي الخصومة هنا، في قضايا التجسس والإرهاب، هما الدولة والمجرم، وليس من مكان هنا لتمييز مدني عن عسكري. بالعودة إلى دور المحكمة في معالجة ظاهرتَي الإرهاب والتجسس، وعطفًا على وجود نصوص قانونية مقيّدة وملزمة، نستنتج أنّ إجراءات المحكمة العسكرية تحترم مبدأ المساواة، فليس من الممكن أو المنطقي أن تتعاطف المحكمة العسكرية مع من يرتكب هذا الصنف من الجرائم تحت ذريعة تمييز بين عسكري ومدني.

 

• وضعية المتضرر أمام المحكمة العسكرية

يدّعي من ينتقد القضاء العسكري ويهاجمه بأنّ هذا القضاء الاستثنائي يتعارض مع أحد حقوق الإنسان الأساسية، وهو حق الادعاء والتقاضي من جهة، والمطالبة بالتعويض من جهة أخرى.

- حق الادعاء والتقاضي

يدّعي من ينتقد المحكمة العسكرية بغُبْن المتضرر أمام القضاء العسكري، كونه لا يستطيع أن يكون طرفًا في النزاع، ولكن يغفل هؤلاء عن حقيقة إمكانية المتضرر أن يتقدم بشكوى أمام النيابة العامة العسكرية لتحريك الدعوى، ويغفل أيضًا أنّ قضاة التحقيق العسكريين يصيغون قراراتهم الظنية والاتهامية بعد الاستماع إلى المدعى عليهم والشهود جميعهم حيث يستمع إلى المتضرر بصفته شاهد.

- حق المطالبة بالتعويض

انطلاقًا مما سبق ذكره، ومن عدم صلاحية القضاء العسكري بالنظر في دعوى الحق الشخصي، فإنّ المحكمة العسكرية لا تستطيع أن تحكم بأي تعويضات للمتضررين، غير أنّ هذا لا ينفي حق المتضرر من نقل الدعوى الشخصية إلى القضاء المدني فور انتهاء المحكمة من النظر والبت بدعوى الحق العام.

 

• حقوق الدفاع

مما لا شك فيه، أنّ المحكمة العسكرية حريصة كل الحرص على حق الدفاع، كونه حق أساسي وركن جوهري للمحاكمة المنصفة، وذلك انطلاقًا من قرينة البراءة إلى حين إثبات الإدانة، غير أنّ من ينتقد المحكمة العسكرية ويهاجمها، يتذرّع بكون محامِي الدفاع العسكريين من الضباط، لا يُشترط أن يكونوا من الحائزين على إجازة حقوق وفق قانون القضاء العسكري، وإنّما يُفضّل ذلك، ولكن ومن أجل أن تكون الأمور في نصابها الصحيح يقتضي الذكر، أنّ الضباط محامِي الدفاع العسكريين المعيّنين جميعًا من قبل قيادة الجيش هم من المجازين في الحقوق، لا بل وأغلبهم يتابع دراسة عليا في هذا الاختصاص. أما عن شرط التدرج، فقد غاب عن بال هؤلاء إمكانية الضباط محامِي الدفاع الاستعانة بمندوب نقابة المحامين لدى المحكمة العسكرية عند الحاجة.

 

• علانية المحاكمة

يعتبر من ينتقد المحكمة العسكرية أنّ مبدأ علانية المحاكمة منقوص، كون المحكمة موجودة داخل ثكنة عسكرية يستلزم الدخول إليها إذن مسبق، كما ويعتبر هؤلاء أنّ لرئيس المحكمة العسكرية سلطة استنسابية كبيرة في مجال جعل الجلسات سرية. إنّ علنية المحاكمة هي من الخصائص الأساسية لأصول المحاكمة في القانون اللبناني، وقد نص قانون القضاء العسكري على هذا المبدأ. انطلاقًا مما سبق، نجد أنّ القانون العسكري قد كرّس مبدأ العلانية تحت طائلة إبطال المحاكمة، وقد أعطى للمحكمة صلاحية إجراء بعض المحاكمات بشكلٍ سري لدواعٍ أمنية، حيث قد يُؤدي بقاء المحكمة علنية إلى إفصاح أسرار عسكرية تتعلق بالأمن القومي والعسكري. أما بعد، وفي موضوع الإرهاب والتجسس، وفي ما يختص بالدخول إلى المحكمة المرتبط بإذن الدخول إلى الثكنة العسكرية، فيجب أن نذكر أنّ الصحافة اللبنانية ووسائل الإعلام دائمة الحضور في الجلسات كافة، وإنّما إذن الدخول هو من أجل تأمين الحماية للمحكمة والحضور والصحافة والمدعى عليهم على حد سواء.

 

• تأليف المحكمة وحيادية أعضائها

يُعدّ الانحياز من أبرز الاتهامات التي تُطلق على المحكمة العسكرية، باعتبارها تتألف بأغلبها من الضباط الذين تحكمهم تراتبية انضباطية معيّنة، لا تسمح لهم بأن يكونوا عادلين ومنصفين في أثناء النظر في القضايا والملفات المعروضة أمامهم. لكن الجدير بالذكر، أنّ عديد القضاة المدنيين في المحكمة العسكرية، من قضاة النيابة العامة وقضاة تحقيق وقضاة مستشارين، يبلغ اثنان وعشرون قاضيًا مدنيًا. فيما يبلغ عدد القضاة العسكريين أربعة ضباط جيش واثنين من قوى الأمن، ليسوا جميعًا جالسين في نفس الهيئة. وبالتالي، فإنّ أي ملف يمر بثلاث مراحل، بحيث تكون المرحلة الأولى في عهدة النيابة العامة العسكرية التي يتولاها قضاة مدنيون، ومن ثم ينتقل الملف إلى قضاة التحقيق حيث القضاة جميعهم مدنيين، وأخيرًا يصل الملف إلى المحكمة العسكرية حيث يوجد قضاة ومستشارون عسكريون، بالإضافة إلى المستشارين والقضاة المدنيين.

 

• محاولات إلغاء أو الحد من صلاحيات المحكمة العسكرية

لا يمكن هزيمة الإرهاب والتجسس بالأسلحة فقط، فالذي يرتكب جرمًا بحق المجتمع لا بد وأن يُقدَّم إلى محاكمة عادلة، وأن يصدر بحقّه عقاب مناسب، ومن أبرز أهداف قانون القضاء العسكري إنزال عقوبة سريعة وعادلة بمرتكبِي الجرائم الواقعة ضمن اختصاصه، فقيمة القانون وفاعليته تكمنان في سرعة إجراءاته كما في عدالة أحكامه.

وقد تم تقديم العديد من الاقتراحات التي تطالب بإلغاء المحكمة العسكرية أو تعديل صلاحياتها، أبرزها ثلاثة اقتراحات:

اقتراح النائب إيلي كيروز الذي اعتبر أنّ القضاء العسكري لا يتوافق مع مبادئ المحاكمة العادلة ومفاهيم حقوق الإنسان، حيث تقدم في 22 نيسان من العام 2013 باقتراح قانون يرمي إلى تعديل قانون العقوبات العسكرية، أي قانون القضاء العسكري لحصر اختصاص هذا القضاء بالجرائم العسكرية، بحصر المعنى أي القضايا المسلكية والتأديبية ومنع أي امتداد للاختصاص العسكري إلى المدنيين، ولقد أُحيل الاقتراح إلى الحكومة لإبداء الرأي منذ العام 2013.

أما وزير العدل السابق أشرف ريفي فقد وعد منذ توليه الوزارة، في شباط من العام 2014، بإلغاء المحاكم العسكرية والاستثنائية وعمل بكل الوسائل لتعديل قانون القضاء العسكري، حيث شنّ عليها هجمة شرسة وصلت الأمور به حد نزع الثقة عنها، والتشكيك بشرعيتها، إلى أن أعلن أخيرًا بالانتهاء من مشروع قانون رقم 34/ق، يرمي إلى إنشاء أجهزة قضائية متخصصة بقضايا الإرهاب والجرائم الكبرى، وحصر دور المحكمة العسكرية بمحاكمة العسكريين عن الجرائم التي يرتكبونها.

أما آخر الاقتراحات فهي التي تقدّمت بها النائب بولا يعقوبيان بتاريخ 12 آذار 2019، لتعديل بعض أحكام قانون القضاء العسكري رقم 13/04/1968، لتصبح صلاحياته محصورة بالعسكريين ولا تطال وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وقد سَمَّت هذا الاقتراح بقانون آدم[37].

تَطرح هذه المطالبات بإلغاء أو الحد من صلاحيات القضاء العسكري عدة علامات استفهام، تحت وطأة تصاعد الأخطار والتهديدات التي يجابهها لبنان من بوابتَي الإرهاب التكفيري والاعتداءات الإسرائيلية، وبالإضافة إلى ذلك هناك قضايا متعلقة بالأجهزة العسكرية والأمنية من ضباط ورتباء وعناصر، تعتبر إحالتها كاملة على المحاكم العدلية أمرًا غير مقبول، لأنّ العسكري عندما يمثل أمام المحاكمة يُؤتى بكل سيرته، وهذه المعلومات تُصنّف سرّية جدًا، ويُؤدي إفشاؤها إلى تعريض الأمن القومي والعسكري للخطر.

تتميز المحاكم العسكرية بسرعتها وليس بتسرّعها في إنجاز الملفات المعروضة أمامها وإصدار الأحكام.

 

الخاتمة

تطرح قساوة المشاهد الدموية، التي تحولت إلى أفلام رعب يُنتجها إرهابيون، ويُشرف على نقلها وبثّها وسائل التواصل الاجتماعي، لا تستأذن أحد للدخول إلى هواتف أطفالنا وحواسيبهم، سؤال لا بد منه، كيف نحارب الإرهاب؟ وهل يجب إرهاب الإرهابيين؟

أمام تفاقم حدة الإرهاب والخطاب حوله، يجب أن يتحوّل الرفض للمحكمة العسكرية إلى توجّس لأي مسّ بها، فسرعة هذا القضاء في إصدار أحكام عادلة ضد الإرهابيين والعملاء، تُولّد مشاعر طمأنينة عامة حول قدرة الدولة على مواجهة خطر هذه الجرائم. وقد استطاعت المؤسسة العسكرية قيادة ورتباء وأفراد، بهيئاتها وكل فروعها ومحكمتها الدائمة، في ظل وحدة الموقف العالمي حول لبنان الاستراتيجي اليوم، أن تمنع هذا الفلتان الإرهابي المنتشر في الشرق الأوسط من التغلغل في الداخل اللبناني، وهي تضع في حساباتها صالح لبنان الوطن، فوق كل المصالح الشخصية الضيقة وفوق كل اعتبار، بحيث تعمل بمؤازرة القضاء على تطبيق القوانين المرعية الإجراء التي تحفظ لبنان والتي من خلالها يستطيع الوطن اللبناني ضبط الإرهاب.

يجدر الامتناع عن التهجّم العبثي على وجود المحكمة العسكرية، كونها شكّلت وتُشكّل رادعًا ضروريًا في ظل عدم وجود محكمة مختصة. من هنا يبدو لنا جليًا، ضرورة الإبقاء على المحكمة العسكرية كمحكمةٍ مختصة لمحاكمة العسكريين من جهة، والإرهابيين والعملاء من جهة أخرى، لا سيما في ظل الأزمات الكبرى التي يمر بها لبنان، ضرورة تجمع ما بين احترام المبادئ التي ينص عليها الدستور، وسمعة القضاء والجيش في المحافل الدولية.

بالإضافة أيضًا، يجب اتخاذ الإجراءات الآيلة إلى تخفيف الاحتقان الطائفي والمذهبي الذي يتم استغلاله من قبل التنظيمات الإرهابية، لتضليل الشبان والمراهقين والتغرير بهم، ومكافحة الفقر والحرمان والجهل، اللذين يُشكّلان ركيزة أساسية في الترويج للأفكار الإرهابية، والسبب الرئيسي للوقوع في فخ التعامل. كذلك، العمل على تفعيل دور المسؤولين اللبنانيين في تنمية روح الانتماء والولاء للوطن داخل فئات المجتمع كافة، لحرمان أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من استخدام بعض ضعفاء النفوس للقيام بأعمالٍ تخريبية وإجرامية.

إنّ العمل على زيادة الثقة بين أجهزة الأمن والمواطنين، تؤدي إلى تكامل الجهود في كشف العملاء والجواسيس، وذلك من خلال إطلاق حملات توعية في المدارس الرسمية والخاصة، وبالأخص الجامعات، لتثقيف المجتمع المدني بالتعاون مع وزارة الدفاع وقيادة الجيش، وذلك عبر إقامة حلقات توعية من قبل اختصاصيين وخاصة عبر وسائل الإعلام، لتوضيح أهمية دور المحكمة العسكرية في حماية الأمن القومي والحفاظ على السلم الأهلي، من خلال محاربة الإرهاب والتجسس الذي لا ينفك يعمل على تفكيك الوحدة الوطنية، عبر زرع الخلافات والشقاق بين فئات المجتمع المكونة للوطن.

 

المراجع

النصوص القانونية

 -الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، منشورات الأمم المتحدة، 1948.

- قانون القضاء العسكري رقم 28/64، مجلس النواب اللبناني، الجريدة الرسمية، 2002.

- قانون العقوبات اللبناني، مجلس النواب اللبناني، الجريدة الرسمية، 1990.

- قانون الأسلحة والذخائر، مجلس النواب اللبناني الجريدة الرسمية، 2006.

- قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، مجلس النواب اللبناني، الجريدة الرسمية، 2009.

- قانون الإرهاب الصادر في 11/1/1958، مجلس النواب اللبناني، الجريدة الرسمية، تاريخ النشر 2006.

- قانون إنشاء المحكمة العسكرية، مجلس النواب اللبناني، الجريدة الرسمية، 1945.

- قانون تنظيم الضابطة الجمركية، مجلس النواب اللبناني، الجريدة الرسمية، 1979.

- محاضر مجلس النواب، مجلس النواب اللبناني، الجريدة الرسمية، 1945.

- محاضر مجلس النواب، مجلس النواب اللبناني، الجريدة الرسمية، 1948.

 

الندوات العلمية والمؤتمرات

- دور المحكمة العسكرية في مكافحة الإرهاب، قسم تأليل المحكمة العسكرية، المحكمة العسكرية الدائمة، 2017.

- نشأة وعمل المحكمة العسكرية الدائمة، قسم تأليل المحكمة العسكرية، 2016.

- المحكمة العسكرية ودورها في القضاء على التجسس والإرهاب، قسم تأليل المحكمة العسكرية، 2017.

 

معلوماتية

- قسم التأليل في المحكمة العسكرية الدائمة، الجيش اللبناني، المحكمة العسكرية الدائمة، 2018.

 

الأبحاث والمقالات

- إحسان مرتضى: الإرهاب والجهود الدولية والإقليمية لمكافحته، مجلة الجيش، العدد350-351 أيلول2014 .

- أندريا أبي نادر: القضاء العسكري، أي مساواة؟ أي عدالة؟ المجلة الرسمية لطلاب كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في جامعة القديس يوسف، 2013.

- جورج مخايل: الموساد الإسرائيلي وتجنيد العملاء والجواسيس، مجلة الدفاع الوطني، العدد88 نيسان 2014.

- دافيد فيسبورت: دليل المحاكمات العادلة، منظمة العفو الدولية، 1998.

- زياد منصور: الإرهاب بين التأريخ والتشخيص، مجلة الدفاع الوطني، نيسان2017.

- دليل المحاكمة العادلة، منظمة العفو الدولية، 2015.

- بول مرقص: المحكمة العسكرية حصر الاختصاص وضمان المحاكمة العادلة، جريدة النهار، 2016.

- حمود الزيادي: إرهاب الذئاب المنفردة بين داعش والقاعدة، جريدة الحياة، 2015.

- راستي الحاج: القضاء العسكري اللبناني في زمن حقوق الإنسان، مجلة الحقوق والعلوم السياسية، العدد الثاني عشر 2017.

- شهيرة بو لحية: حق المتهم في الدفاع أمام القضاء الجزائي، مجلة المنتدى القانوني، العدد الخامس 2014.

- الجماعات السلفية في لبنان، جريدة الشرق الأوسط، 2007.

- هيثم عبد الرحمن البقلي: جريمة الإرهاب وصورها لدى المحكمة الجنائية الدولية، مجلة أبو ظبي، 2008.

 

المؤلفات

- أحمد فتحي سرور، الشرعية الدستورية وحقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، 1995.

- أحمد المجذوب، خطف الطائرات، معهد البحوث والدراسات العربية، بيروت، الطبعة الأولى 1974.

- إلياس فارس نمور، محكمة الجنايات، منشورات صادر الحقوقية، 2005.

- إلياس أبو عيد، أصول المحاكمات الجزائية، المؤسسة الحديثة للكتاب، 2010.

- أمل اليازجي ومحمد عزيز شكري، الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن، دار الفكر العربي، 2002.

- بدوي مرعب، القضاء العسكري في النظرية والتطبيق، منشورات زين الحقوقية، 2009.

- بشارة خوري، المحاكم الجزائية الاستثنائية إجراءاتها والتداخل في الاختصاص، المنشورات الحقوقية صادر، 2013.

- جهاد عودة، أيمن عبد العظيم الشيمي، أيمن زكي، مدخل لدراسة الإرهاب في مصر والمملكة العربية السعودية، المكتب العربي للمعارف، 2010.

- سمير عاليه، موسوعة الاجتهادات الجزائية لقرارات وأحكام محكمة التمييز، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1970.

- سمير عاليه، شرح قانون العقوبات القسم العام، المؤسسة العالمية للدراسات والنشر، 2002.

- سامي خوري، قانون القضاء العسكري، المنشورات الحقوقية صادر، 2000.

- عادل المشموشي، مكافحة الإرهاب، منشورات زين الحقوقية، 2011.

- عاطف النقيب، أصول المحاكمات الجزائية، المنشورات الحقوقية صادر، 1993.

- فيلومين نصر، أصول المحاكمات الجزائية، المنشورات الحقوقية، 2002.

- محمود نجيب حسني، الدستور والقانون الجنائي، دار النهضة العربية، 1996.

- هيثم سليم زعيتر، زلزال الموساد، الفرات للتوزيع والنشر، 2014.

- W.JEANDIDIERl, Les juridictions d'exeption dans la France .contem-poraine j.c.,1975.

 


[1]-     سمير عاليه، شرح قانون العقوبات، القسم العام- معالمه- نطاق تطبيقه- الجريمة- المسؤولية- الجزاء- دراسة مقارنة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2002، ص45.

[2]-     قانون أصول المحاكمات المدنية الصادر بالقانون رقم 328، تاريخ 2/8/2001 وتعديلاته.

[3]-     بشارة هيكل الخوري، المحاكم الجزائية الاستثنائية، إجراءاتها والتداخل في الاختصاص، الطبعة الأولى، المنشورات الحقوقية صادر، بيروت، 2013، ص 13.

[4]-     المرجع السابق، ص14.

[5]-     بشارة الخوري، المجلس الأعلى لمكافحة الرؤساء والوزراء، مجلة الدفاع الوطني، العدد 84، نيسان 2013، ص 34.

[6]-     سامي خوري، قانون القضاء العسكري، بحث وتحليل، الطبعة الأولى، المنشورات الحقوقية صادر، بيروت، 2000، ص11.

[7]-     قانون القضاء العسكري الصادر بالقانون رقم 24 تاريخ 13 نيسان 1968 وتعديلاته، المادتان 33 و99.

[8]-     قانون القضاء العسكري، المادة 12.

[9]-     المرجع السابق، المادة 13.

[10]-    المرجع السابق، المادة 7.

[11]-    انون القضاء العسكري، المادة 7.

[12]-    قانون القضاء العسكري، المادة 5.

[13]-    عاطف النقيب، أصول المحاكمات الجزائية، الطبعة الأولى، المنشورات الحقوقية صادر، بيروت، 1993، ص 286.

[14]-    تمييز جزائي، الغرفة السادسة، رقم 153، تاريخ 19/10/2000، صادر في التمييز، 2000، ص 686 وتمييز جزائي، الغرفة السادسة، رقم 200، تاريخ 3/9/2000، صادر في التمييز، 2001، ص 963.

[15]-    الياس أبو عيد، أصول المحاكمات الجزائية، الجزء الثالث، الطبعة الأولى، المؤسسة الحديثة للكتاب، بيروت، 2010، ص 22.

[16]-    قانون القضاء العسكري، المادة 23.

[17]-    الخلاف سلبي هو رد كلا المرجعَين الدعوى بحجة عدم صلاحيتهما للنظر بها، أما الخلاف الإيجابي فهو تنازع كلا المرجعَين بضرورة تحويل الدعوى إليه وعدم صلاحية المرجع الآخر.

[18]-    قانون القضاء العسكري، الفقرة 3 من المادة 28.

[19]-    قانون القضاء العسكري، الفقرتان 1 و2 من المادة 28.

[20]-    سمير عاليه، موسوعة الاجتهادات الجزائية لقرارات وأحكام محكمة التمييز، (1950-1970)، ص114.

[21]-    فيلومين نصر، أصول المحاكمات الجزائية، دراسة مقارنة وتحليل، الطبعة الثالثة، المنشورات الحقوقية، صادر، بيروت، 2002، ص32.

[22]-    قانون أصول المحاكمات الجزائية، المادة 291.

[23]-    شهيرة بو لحية، حق المتهم في الدفاع أمام القضاء الجزائي، مجلة المنتدى القانوني، العدد الخامس، 2014، ص 89.

[24]-    شهيرة بو لحية، حق المتهم في الدفاع أمام القضاء الجزائي، مجلة المنتدى القانوني، العدد الخامس، 2014، ص 89.

[25]-    سامي الخوري، مرجع سبق ذكره، ص85.

[26]-    البروتوكول الأول من القانون الدولي، المادة 46.

[27]-    قانون العقوبات اللبناني، المادة 314.

[28]-    Pierre BRICARD:la justice militaire francaise à la lumière des récentes reforms. www.academia.edu/justice_militaire_en_france, internet, accessed: 22/11/2017

[29]-    قانون القضاء العسكري، المادة 25.

[30]-    قانون القضاء العسكري، المادة 57.

[31]-    قانون القضاء العسكري، المادة 21.

[32]-    قانون القضاء العسكري، المادة 55.

[33]-    المحكمة العسكرية والمحاكمة العادلة، إعادة تحديد الصلاحيات، إعداد فريق عمل جوستيسيا، إشراف الدكتور بول مرقص، ص 30.

[34]-    المحكمة العسكرية والمحاكمة العادلة، إعادة تحديد الصلاحيات، إعداد فريق عمل جوستيسيا، إشراف الدكتور بول مرقص، ص 43.

[35]-    أندريا أبي نادر، القضاء العسكري، أي مساواة؟ أي عدالة؟ المجلة الرسمية لطلاب كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، 2013، ص 22.

[36]-    الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 7.

[37]-    تضامنًا مع الصحافي آدم شمس الدين الذي صدر بحقه حكم غيابي بالسجن 3 أشهر عن المحكمة العسكرية المنفردة في جبل لبنان، بسبب مقال نشره واعتُبر مسيئًا لجهاز أمن الدولة اللبناني.

The role of the military judiciary in combating terrorism and esponiage and the danger of harming it

The Military Judiciary Law occupies an important role in the structure of the Lebanese judicial body due to its wide scope of competences and the diversity of persons referred to it because of their functional character or the quality of the acts attributed to them.

This study raised the following questions to inquire the necessity of the military court and the society’s need to it.

• To what extent are the judicial courts able to carry out the counter-terrorism and counter-espionage tasks, and to what extent can these facilities be secured?

• Is it possible to refer soldiers to judicial courts for trial without the risk of exploiting the privacy and secrets of the armed and security forces?

• Can the military court be considered the most convenient solution to counter both terrorism and espionage and thus form an armor to deter these increasing acts?

As these questions were answered, the study concluded the great importance of the Military Court in protecting the Lebanese society from terrorist attacks and espionage. The study also provided response to critics that demand the elimination of this court supplying presenting examples of previous cases and criminals sentenced by the Military Court.

Le rôle de la justice militaire dans la lute contre le terrorisme et l’espionage et la gravité d’y porter atteinte

La loi sur la justice militaire joue un rôle important dans la structure de l'organe judiciaire libanais en raison de son large éventail de compétences et de la diversité des personnes qui lui sont référées en raison de leur caractère fonctionnel ou de la qualité des actes dont ils sont accusés. 

Cette recherche a soulevé de nombreuses questions qui ont été le point de départ pour établir la nécessité du tribunal militaire:

1- Dans quelle mesure le pouvoir judiciaire est-il capable de mener à bien la lutte contre le terrorisme et l’espionnage et la possibilité de lui garantir la protection de sécurité nécessaire?

2- Est-il possible de juger des soldats devant les tribunaux, notamment en raison de cette grande intimité et de la sécurité militaire??

3- Le tribunal militaire est-il la solution la plus appropriée pour lutter contre le terrorisme et l'espionnage, et la formation d'une force de dissuasion suffisante, en particulier avec l'augmentation constante de ces crimes?

Ces questions ont été posées pour déterminer l’importance accordée au tribunal militaire dans la protection de la société libanaise contre les attaques terroristes et l’espionnage, ainsi que pour répondre aux critiques de ceux qui demandent l’abolition du tribunal militaire, tout en donnant de nombreux exemples de scènes réalistes présentées auprès du tribunal.