دور وسائل الاعلام في تتحولات السلطة والسيادة

دور وسائل الاعلام في تتحولات السلطة والسيادة
إعداد: بروفسور نسيم الخوري
باحث واستاذ جامعي

مقدمة

يبدو لبنان، في خطب السياسيين وأنصارهم الكثر، لساناً مشققاً مسلولاً في مختلف الاتجاهات. يبدو، في الليل والنهار، مزروعاً بالسباب والشتائم والتحقير وتهشيم الآخر ورفضه وتبخيسه وجعله موضوع نقد واستهتار. ويتنامى هذا كلّه، منذ جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق  الحريري على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، حافلاً بالكذب والإفتراءات والنميمة Calomnie والشائعات، و''تركيب المقلة'' و''جلسات القفا'' أو ''نتف الفروة'' كما يقال في العامية، تشبيهاً لنا بالهررة والذئاب وبنات آوى وغيرها من الكائنات. تتقاتل الوحوش في الغابات والوعر محكومة بالغريزة ومنقادة للعقول المخصية التي هي ليست سوى علامات الانهيار الكبير في البنيان السياسي والوطني اللبناني . وتعتبر النميمة عملية اتصال سهلة، وقناة غير نظيفة لتمرير الرسائل المختلقة والمركبة، وتحويلها إلى ما يشبه الحقائق على ألسنة الناس، خصوصاً عند نشرها، والتمسك بها حججاً في وسائل الإعلام. إنها غالباً ما تكون كلمة أو كلمات، تثير عداوة بين إثنين وتذكّيها، وتملأ القلوب غيظاً وحقداً وسخطاً، وتشكّل أرضية مناسبة وواسعة لرفض الآخر وقهره، ولربّما لقتله أو إلغائه، ما يشيع الفوضى والفتن والثورات والحروب.

ليس من همٍّ  في الساحة اللبنانية، مؤخراً إذن، سوى البغضاء والتشويش وتعكير الصفاء الوطني، وتعرية السياسي وإرباكه أمام مناصريه وعائلته وأبناء قبيلته الطائفية أو العشائرية أو الحزبية،  إلى درجة بات فيها العديد من اللبنانيين ينفرون من السياسة والسياسيين في حلقاتهم، وقد يلعنونهم لما يخلّفه هؤلاء من شرور مستطيرة ذات اليمين وذات الشمال. ويكاد المراقب يحتار بين أن تكون هذه الظاهرة لعنة في السياسة أصابت هذا البلد وأهله، أو لعنة في وظائف الإعلام ووسائل الإعلام المتشظية وأخلاقيات الإعلاميين، المهرولين فوق زجاج السياسيين المهشم، يبسطون هذا الوطن الصغير بما يفوق مساحته عالماً من قيل وقال وقلنا وحسد وفسد!

أليست النميمة هي الكبيرة الثالثة والأربعون في القرآن (سورة القلم، الآيات 10-13) ؟ وهل  النميمة سوى الوجه الآخر للغيرة كما رآها سيغموند فرويد؟...

وفي الذاكرة كتاب طريف صدر بالفرنسية، عنوانه:'' هؤلاء المرضى الذين يحكموننا''، لعله يضع الإصبع على أكثر من جرح في هذا الوجع.

تأتي هذه التراكمات كلّها من الكلام البذيء الذي مجّه اللبنانيون،  فتجد  من يبرره أو يتحمّس حياله، حيث ''لا دخان من دون نار''، ولا تنعر المسلاّت إلاّ إذا كانت محشورة تحت الإبط. هكذا إذن، وكأن الآخرين المقصودين بالنمائم والإشاعات أكياس من الخيش ملبودة بالفتن وبها تتوشح خطب معظم السياسيين الذين تجرّدت نصوصهم وأقوالهم وتصرفاتهم من الآداب واللياقة وحسن التصرّف والكلام الموزون المنخول من كلّ أذى!

قد لا نغالي، إن قلنا، بأن نسق القيم الذي يتوارثه الآباء والأبناء عن أجدادهم، ينهار إلى درجات سفلية، فتزداد الشروخ بين الأهل وأبنائهم وبناتهم، وتكاد تسقط بشكل كامل صورة الأب أو الأم أو المرجعية في المنزل، وكذلك الأمر في  لبنان الساحة إعلامياً، الذي يبدو يتيماً هجيناً، لا أباً له يحميه، ولا قيماً تؤمن له نموه وتطوره وتكيفه.

 أليست تلك من سمات عصور الإنحطاط والتفكك الإجتماعي والسياسي وانهيار السلطات في مقاماتها العالية المفترضة؟ نعم، الإنحطاط، هنا، بمعناه الشمولي التربوي والغذائي والصحي والإجتماعي والإقتصادي والسياسي والوطني... الخ، من الصفات والمصطلحات التي لا تنتهي في هذا المجال، والتي تجعلنا في لبنان، خارج الأطر والمفاهيم الديمقراطية الراقية، التي لا تقيم وزناً للحرية واحترام الآخر!

فما هي النميمة إن لم تكن وسواس الكلام همساً وجهراً، واستغلال نقاط الضعف لدى الآخرين للوصول إلى المبتغى، ورفع الأحاديث السرية أو المعلنة على نيّة الإفساد والإشاعة، أو أنها تزيين الكلام بالكذب والخديعة، والمنفعة الأحادية والمزدوجة والمثلثة، بهدف التلاعب عن طريق الهمز والغمز واللمز؟

أليست النميمة نوعاً من الوشاية وممارسة السادية التي لا تتوخى سوى النتائج السلبية دائماً، وأبسطها تهشيم صورة أحدهم بالإرتكاز إلى الكذب والإختلاق والنكات، لتطول شخصاً أو زعيماً أو حزباً في كلامه وفي نواياه وأفعاله وحضوره، وتشويه الحقائق عن طريق الكذب بالحذف، أو الكذب بالإضافة إلى درجة تصبح فيها الكلمة قنبلة ؟  نعم تصبح الكلمة قنبلة نووية تخرّب وطناً بين القيل والقال، ويثبت النمّامون القنابل حول خصرها، لأن من نمّ لك تحقيقاً للحظوة وجذب الإنتباه، أو ميلاً منه إلى امتلاك القدرة على التوقّع والإستباق، أو كسباً للمال والمركز والجاه، نمّ في الوقت نفسه عليك تحقيقاً للبهتان والعدوان، وخلق التهم الباطلة، وتلمّس الفاعلية لدى الجماعة، وتوليد ردود الأفعال والندوب النفسية والخلل الإجتماعي؟

الملاحظ، أنّ النمامين من أهل القرار في لبنان من السياسيين والبطانة والمستشارين والإعلاميين، يلجأون إلى هذه الأساليب في اختراع الحيل لاضطراب في تواصلهم وحواراتهم وتشاورهم المباشر، أو لاتصالاتهم القاتلة عبر وسائل الإعلام، وخصوصاً من على الشاشات، أو لضعف في نفوسهم لا يتوازن إلاّ بإفساد العلاقات ما بين أفراد المجموعة الواحدة، وكل هذا مصحوب بالحقد والغيرة والثرثرة والتسلية وتقويض السلطة وتوسيع فكرة المؤامرة وترسيخها. وهم يصلون في حماسهم إلى حدود التخريف Fabulation أي تزوير الوقائع بهدف إثارة الإعجاب وحيازة الثقة ممن هم حولهم ومن ثمّ تصديق كلام أساسه تفريغ شحنات من العدائية يصبح فيها الخصم موضوعاً مستباحاً.

صحيح أن النميمة كعنوان عام لما نحن فيه تكاد تختلط بالشائعة، وصحيح أنّها تنفيس عن المكبوت الذي لا يمكن كتابته فردياً وإجتماعياً، وصحيح أيضاً أنها أداة استقراء للواقع السياسي اللبناني المنحط الذي نشهده ونعيشه بدليل وجودها الفعّال والمؤثر، لكن الصحيح أيضاً وفي موقع الشكوى أن لبنان يكاد ينقسم بين انقسام النمّامين الذين يحمون أنفسهم من النمّامين الآخرين أولاً، وللإستخبار عن أسرار الآخرين ثانياً.

الملاحظ أن ''ثقافة النميمة'' قد زادت في لبنان بفعل وسائل الإعلام والإنترنت التي تكاد تنحصر بالـ ''الشائعات'' أو''اللتلتة'' بعيداً عن أي نوع من أنواع الرقابة والمحاسبة، كما تنامت بفعل إغراء الإعلاميين بالهدايا والرشوة والمال والسلطة الوهمية، الأمر الذي يساهم في تبرير الآثام والفساد العارم وخلفياتهما في لبنان.

لقد غدت هذه الثقافة حاجة لبنانية لا بل متنفساً إسقاطياً يحتضنها المجتمع على الرغم من تذكيتها للتعصب ضد الآخر المختلف دينياً وثقافياً وعلى الرغم من تقسيمها للمناطق وتشجيعها على التناحر والتعصب المناطقي والطائفي، وكأنها وللأسف صارت طريقة للحياة وتأمين الإستمرارية على تحطيم الآخر والعيش على أنقاضه.

لا نقصد من تناول هذه الظاهرة المستجدة والمتفاقمة في لبنان تحديداً سوى الإستهلال لمسألة باتت خطرة وقوامها دور وسائل الإعلام في تحديد مفاهيم ومصطلحات متعددة وفي مقدمها مسائل جوهرية مثل السلطة والسيادة ومسائل التماهيات بالقيم بين الأجيال. وهنا نقع في سلطان الحبر والموت الذي خبره اللبنانيون ويعيشون في مداه وتداعياته الدامية.

 

1- سلطان الحبر والموت:

للحبر مراراته التي لا تهضم ولا يمكن هضمها في لبنان وبلدان العرب المعاصرة. كان يمكن التصوّر بأن اللبنانيين على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم قد  ''أكلوا'' الحروب التي خبروها منذ الـ 1975  حتى فلذات أكبادهم، لكنهم بدوا ويبدون كتلة صغيرة من البشر مفتونة بالحروب والعنف الجهنمي والهمجي أكثر مما هم مفتونون بالحبر والحرية التي يقتضيها كلّ قاصد للكتابة، خصوصاً عندما يعلم بالممارسة وبالعلم، أن الحرية تعني حرية السمكة المطلقة الحركة في المحيطات والبحار والأنهر والسواقي وحتى الجداول مهما ضاقت مساحاتها ومجاريها ومصبّاتها. نحن نعصر السمكة ونصفّي دمها بانتظار أن نستخرج الحبر الأصيل أساساً، وليس هناك،إذن، من حرية تضاهي حرية السمكة في الماء. ووفقاً للمربّع الأرسطي ليس هناك ما هو أكثر حرية من الحبر! فأين هو حبر لبنان والعرب من كلّ هذا ؟ قد يكون اللبنانيون في عشقهم للحرية قد أتاحوا للسمكة أن تعيش وتسبح حتّى ولو ضاق محيط مائها إلى ماء عين الديك، لكن يمكن فلشه على مساحة الكوكب، لأن الحبر يعيش أبدياً، نتناوله من باب العين نقطةً من دمع طريّة توقظ الخجل الأبدي في مثقفي لبنان وسياسييه. 

نسوق هذه الأفكار حول وطن موسوم بالعقل الحر والحبر الحر. ولبنان مساحة يعترف بها المحيط العربي ويراها لافتة لأنّها كانت سبّاقةً إلى العقل الحر في ثقافة العرب المعاصرة. له رهبة إذ تضعنا أمام الأفق بصيغة الكثرة في بلاد تتّجه كلّها إلى الكثرة بمعانيها وأبعادها السلبية، وحيث توصد الأبواب والآفاق في وجه كلّ عقل حر.

وترشدنا النظرة إلى الآفاق في أعقاب مجازر الحبر في لبنان، إلى عقد مقارنة بين أثلام الفلاحة التي يتنافس فيها الفلاحون، وأسطر هذه الدراسة أو أية دراسة أخرى تتوخى الإستقامة والموضوعية، ولو في الشكل الذي ينسكب فيه الحبر والذي قد لا يضيف أحياناً أدنى تغيير في واقعنا اليومي، ليسلّم الأمور إلى انتظام أمامنا فوق الشاشات المتقدمة كأفضل سلطة وأخطرها، بحثاً عن المشاهدين وترسيخاً للوعي العربي. وفي هذا بالطبع، كما في العالم كلّه، قفزة من ثقافة الإبداع والبصيرة إلى ثقافة العين التي تكتسح بذكوريتها أسس العصر الشاملة.

وقد نجد من عاد يتدرّب في بيت الكتابة الحيوانية، بالإذن من الجاحظ عمرو بن بحر أبو عثمان، في  ''البيان والتبيين'' أو في ''كتاب الحيوان''  هرباً من بطش السلطان بمعانيه وعدده التقليدية.

تقفل آفاق العقل أمام أحداث شديدة السخونة ويأتي آخرها غضباً يخيّم على العالم العربي الإسلامي المتطلّع إلى مثلث الدم في العراق ولبنان وفلسطين. وقد يمكن للقارىء أن يتصّور مليار وخمسمئة مليون عين تنظر شزراً نحو الغرب!

تبدو العيون، وهي حواس الشعر والإبداع والمشاهد التي لا تنتهي، بغيضة لا بل مخيفة ترتجف أمامها مصانع الأسلحة في الغرب.

أهي الصورة باتت أقوى من العين، أم أن العين هي الحاسة البصرية المتقدّمة في عالم الإعلام والشاشات اليوم؟.. إذ أننا نشمّ بأعيننا، وبها بتنا نسمع ونأكل. وحاسة البصر في تقدّمها المستجد إعلامياً تعوّض عن تاريخ تأخرها البيولوجي بالنسبة إلى الحواس الأربع الباقية، على أعتبار أنّ يقظة العين تأتي في المرتبة الأخيرة بعد الأذن واللمس فالشم، وصولاً إلى الذوق أي البقاء بمعنى الحياة، وعندما يموت الإنسان يبقى بصره حيّاً إلى حين، ويأتي المشهد المر الطازج هجوماً ماحقاً على أدوات التعبير.

 

2- كيف يجمع الحبر بين البياض والأبحاث؟

لا تعتبر الأحداث الساخنة من شيم الأبحاث الباردة غالباً والعقلانية دائماً، بقدر ما هي من شروط ولادة النصوص الصحافية السريعة الموت، إن لم نقل سريعة الذوبان. وخلافاً لهذه المقولة المتعارف عليها، كان لا يمكن ألاّ أستهلّ محاولتي هذه في البحث عن قوّة الحبر متأرجحاً في لبنان بين الحبر والحرب، من دون دمغه بدم جبران تويني، وبتفجير تلميذتي الجامعية لأربع سنوات، الإعلامية مي شدياق، المذيعة من على شاشة ''المؤسسة اللبنانية للإرسال''، وهو الحدث الذي شغل الشاشات المحلية والإقليمية، وسحب الألسنة الدولية للإدانة والإستنكار على مستوى رؤساء الدول العظمى وممثليها، كما على مستوى المنظمات والهيئات  الدولية، بما فيها مجلس الأمن الدولي مستنكراً الحدث، خلافاً لتاريخه البروتوكولي.

ليس المقصود بتوثيق هذه المسألة، في هذا المجال، إبرازها في أبعادها ونتائجها الدرامية التي أفقدت وجهاً إعلامياً مألوفاً على مستويات جماهيرية دائرية واسعة، طرفيها بتراً من ناحية اليسار، وهزّت الشاشة من جذورها. فالتفجير بات متواتراً في لبنان كي لا نقول مألوفاً، وهو مصطلح قاسٍ لاستعماله في هذا المناخ، لكن هذا هو الواقع المر والقاسي الذي يتخبط فيه لبنان كبلد عربي منذ اغتيال رئيس وزرائه رفيق الحريري، ولا مجال للإشاحة عنه. يمكن القول مثلاً أننا انتقلنا من ''تفجير الحبر'' إلى مرحلة ''تفجير الضوء'' أو التفجير الأول للشاشة في العالم، وهنا وجه الخطورة .

كانت الشاشة حتى طعنها بالتفجير الأخير، مرآة تنقل الواقع المتفجّر إلى المشاهدين في لبنان والعالم كلّه إلى حدٍّ كبير. طبعاً، لا يمكن التغاضي هنا، بالمعنى الأكاديمي، عن الأجوبة والمواقف الكثيرة التي كانت تتضمنها أسئلة الصحافيين والمذيعين الذين يعكسون أو ينقلون مواقف أصحاب  المؤسسات ومسؤوليها والذين يعملون فيها. تلك مسألة لازمت تاريخ الإعلام في لبنان، ومختصرها السؤال الآتي: هل هناك إعلام عربي أم أنّ هناك دوماً إعلاماً أو وسائل إعلامية فـي بلاد العرب؟ يكشف حرف الجرّ ''في'' المفارقة بين شقّي السؤال، كما يكشف مدى الحضور العالمي في الإعلام اللبناني والعربي والذي يدفعنا إلى  اختصار كلّ تاريخ الإعلام العربي في ارتكازه إلى السلطات، إلى أربعة عناوين لن نفصّلها فيها في هذا المقام، ونعني بها: إعلام الحروب ثمّ حروب الأعلام وصولاً إلى سلام الإعلام فإعلام السلام الذي يختلف اللبنانيون والعرب حوله، فمنهم من يراه إعلام تسوية ومنهم من يضعه بين قوسين، بينما يراه البعض الآخر سلاماً بكلّ معنى الكلمة من تهيؤ للتطبيع المنتشر في الشرق الأوسط الجديد.

وبصرف النظر عن التفصيلات والأحداث الكثيرة المؤلمة التي عرفها العرب في خلال العقدين الأخيرين، فإنّ المقصود من هذه المقدّمة الإشارة إلى ردّة فعل الشاشة وحجمها وسلطاتها الملموسة، بعدما تمّت محاولة تهشيمها عبر تفجير الإعلام. وكان لا بدّ من ردّة فعل هي بيت القصد في الإشارة إلى سلطة الشاشة المجروحة. تكاد تكون هي المرّة الأولى التي يشهد فيها اللبنانيون بالعين والأذن مدى اتساع السلطة والعلاقات التي حققتها هذه الشاشة في عقدين من البث بالتمام والكمال. وقد لا يبالغ المراقب في القول أنّ الشاشة، على الرغم من أنها تمكنت من وضع جرحها على طاولة السلطة المرتجفة بمعانيها وأبعادها المتعددة، فقد وضعتنا أمام مقولة سلطات الحبر بالمعنى الواسع للكلمة، أي بمعنى الفعل وردود الفعل، وفي هذا يقظة هائلة في لبّ إشكالية العلاقة بين السلطة والمعرفة. ويصبح البحث في شاشات العرب ودورهم في عصر الأعلام وآثار الإعلام على شعوبهم، مسألة لا تستقيم بالمعنى العلمي ، ولا يمكن عزلها بالكامل عن مؤثرات الشاشة في العالم كلّه، حيث نجد أنفسنا أمام ملامح عصر العولمة الذي أسقط معه الكثير من المصطلحات الإستراتيجية، وخصوصاً التبعية، ورخاء الدول والشعوب والسلطة بالتصاقها بمفهوم القوة. ويحصل هذا كلّه والغرب يقرع أبوابنا أو هو في عقر الديار يعبث بنا ويمعن.

يبدو العالم يخرج بسرعة قياسية من ظواهر التبعية ومشتقاتها وما رافقها من أفكار وحروب وصراعات قسّمته إلى شرق وغرب وشمال وجنوب أو غني وفقير ومرسل ومتلق. وتنسحب الإستراتيجيا الخاصة بالعولمة المحكومة بوسائل الإتصال، إلى طبع الدنيا بعالمين:  الأول أميركي التوجه والفلسفة والخطة، والثاني يضم كلّ ما تبقى من المعمورة بما فيها أوروبا. وهنا يلحظ سقوط مصطلح العالم الثالث أو تراجعه الكبير من نصوصنا التي ألفته منذ عصور. أين هو العالم الثالث الآن؟

 

ما هو موقع السلطة في اللسان؟

4 - تحوّلات السلطة بين الحبر والضوء

ليس أقدم من إشكاليات العلاقة بين الجسد وقوة العقل في محورية صراعية أساسها الحرية والمسؤولية. فقد كان تدفّق  المعلومات  من أهل السلطان إلى الناس في بلورة أفكارهم وتطوراتهم، من المسائل الجوهرية التي شغلت الأنظمة، وغيّرت من أشكالها ومعالمها، كما حدّدت ثقافات الشعوب وحضاراتها ومواقعها بين الأمم.

واحتلّ الإعلام بوسائله المتنوعة الفائقة التطور الموقع الرابع في تراتبية السلطة بالمفهوم الديمقراطي، وظهر كسلطة غير مباشرة، لا يشبه السلطات التقليدية الثلاث المتكررة المعروفة بالمفهوم الديمقراطي، بل يتجاوزها في أحيان كثيرة، ويؤرّقها في مراحل متعددة محفوفة بالمخاطر والتفجير أحيانا، وهو أقصى حدود التخلّص من سطوة الكلمة.

ويكشف تفاعل هذه السلطات الثلاث مع الصحافة عن مسائل جوهرية معلنة أو خفيّة عبر التاريخ، وخصوصاً في بلدان العالم العربي والدول المماثلة، أقلّها ولاء الصحافة لها أو استعداؤها. وهذان الموقفان محكومان بالنظرة إلى وسائل الإعلام من حيث كونها  وسائل  إقناع  وتعبئة  للرأي العام  وتوجيهه، أو  وسائل ترويج ودعاية لمواقع السلطة والمسؤولين، أو وسائل تغيير ومبعث تحولات مختلفة مفيدة للناس. وترتفع أحجام هذه التحولات مع خروج الإعلام من ''قفص'' الصحافة المكتوبة أو خروجهما معاً من  قفص السلطة الرابعة إلى تجليات خارقة تتحكم بكيان الإنسان الرقمي المعاصر.

لقد تعاظمت قوة الحبر إلى درجة بات فيه هذا الحبر في وظائفه اللامتناهية قادراً على نقل الأفكار والأشخاص حول العالم وترسيخهم بسرعة الضوء في الأذهان، فتجعل من مسألة عابرة مثلاً قاعدة ثابتة، ومن نجم رياضي أسطورة، تتخطّى في ذلك قوتها ومداخيلها المتأتية من اللعب بالأفكار والعقول وبمجمل التصورات القديمة، ونظهر وكأننا في قرن تبادل الأدوار والوظائف السلطوية بين وسائل الإعلام ومعاقل السلطات التقليدية عبر التاريخ.

يرافق هذه السطوة للحبر/الضوء تفتيت السلطات وانهياراتها، وتراجع ملحوظ في السياسة وإعراض الناس عنها. ولكم نسمع أناساً يتحلقون حول مذيع أو يشيرون إلى أحدهم وقد ظهر على الشاشة على أنه صاحب حظوة اجتماعية معاصرة، وهو ما نشهده يومياً في لبنان مثلاً أو في أي بلد عربي آخر أصابته ''جرثومة'' الإعلام. فالشاشة بهذا المعنى هي الوجه المغري للنجومية واعتراف الآخرين المعلن بنا. إننا أمام ظاهرة حلول الشاشة إلى حدٍّ كبير مكان الكنيسة أو المؤسسات الأخرى المعروفة التي كانت تنقل المعرفة والقيم. هذه المؤسسات العائلية والإجتماعية والدينية والتعليمية هي المربع الأساسي الذي كانت تكتمل في داخله سلطات الأفراد وتكوينهم العام. إنه مربع حشر في دائرة تأثيرات وسائل الإعلام تحوقه من كلّ الجوانب،الأمر الذي نسمعه في الدعوات اليومية إلى انتقاد الشاشات وتفاهاتها من على الشاشات، وانتاج النصوص والصور والبرامج والأفلام التي تدعو بحماس إلى تحطيم التقنيات، وتخليص الإنسان المعاصر من ''الأسطورية'' الخيالية التي تحققها هذه الشاشات في ملء الخواء الفكري الواسع الدائم التوسع، ممّا يولّد الهلع والأمراض النفسية والفردية والإجتماعية الكثيرة، أقلّها التشظيات الحاصلة في الأفكار والعقول، والرخاوة الظاهرة في الألسنة والسلوك، وكلها مخاطر في تعاظم ملحوظ في بلاد العرب!

إنّ أقلّ ما يمكن ملاحظته في هذا الميدان هو ما يمكن اختصاره بـ ''بازيلية''العصر الإعلامي، وهو مصطلح نشتقه من الكلمة المعرّبة ''بازل'' التي تعني اللعبة البسيطة الميسرة والميسورة والتي بموجبها يصبح كلّ أمر جاهز بسهولة لفلسفة التركيب والتفكيك السريع ومن ثمّ إعادة التركيب، وكلّ ذلك عن طريق اللعبة. الأساس هو تركيب الصورة وتحقيق سلطاتها عن طريق قفزة السلطة الرابعة في تطورها بالكلمة إلى تحقيق الصورة، أي منبع ظهور الأبجديات، سواء أكانت في الكتابة الهيروغليفية أو المسمارية، وكليهما في الرقعة العربية المعروفة بكنوزها الحضارية والثقافية. ولكي نفهم موقع العرب في الصورة لا بدّ من وضع السبابة فوق النقطتين اللتين يتركّز فيهما التهشيم منذ ربع قرن، ونعني بهما مصر وبغداد وما بينهما من تواريخ لا تنضب على الأقل في الكتابة، والإشارة إلى عواصم عربية أخرى منتظرة!

السؤال هو: هل خرجنا من الصورة لنعود اليها، أم أن الغرب لم يساعدنا على الخروج منها بعد فما زلنا في عصر الصور نحمي الأبجديات أو نتوهم حمايتها، ولم نتعرّف بعد على تلك الذرى التي بلغتها حضارات أخرى عن طريق السلطة الرابعة. وما هي أساساً السلطة الرابعة، والسلطات الإعلامية بشكل عام؟

 

5- السجل التاريخي المقدّس لقوة الحبر

نحت القداسة كلمة العرب سلطة مطلقة إذ ربطت بقوة الخلق، وكانت تنعكس في أشكال متنوعة للسلطة والإبداع في الكتابة، المسألة التي شغلت مفسّري الأساطير القديمة التقليدية في مجالي الفلسفة والدين. وقد عانت الكتابات الصحفية عبر التاريخ من اعتبار هذه الحلل مظاهر انحدارات لهذه السلطة أو تجلّيات لها.

لّما توغّل الباحثون في التنقيب عن أصل اللغة، كلّما تكثف الغموض، ووجدوا أنفسهم أسرى الأساطير والتفسيرات الدينية للخروج من مآزق الجواب. المهم أن الكلمة الصحافية واصلت نضالها فاعتبرت سلطة رابعة في ترتيبها، وراحت تستعيد قوّتها وتحققها لتغدو صاحبة الجلالة. وإذا ما تراجعت أمام تقنيات الصورة، فإنها ''ما زالت تفعل الكثير في حكم الدولة أكثر من البيت الأبيض في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يحكم الرئيس أربع سنوات، بينما تحكم الصحافة إلى الأبد''.

لنا في هذا المجال الإضاءات الضرورية التالية والتي في قراءتنا لها كتجارب تاريخية غريبة غربية نتقرّب أكثر من فهم مستقبل الشاشة والصحافة في بلاد العرب:

أ- خاض الصحافيون في الشرق والغرب على السواء معارك كبرى، وتنكبوا المشقات والتضحيات الجسام قبل أن ينتقل حبر الصحافي في جريانه من الإحتقار إلى الإنتصار. وبدت السلطة الصحافية الإعلامية ناشئة في الأساس مقابل سلطات الحكام. يدل جذرها اللاتيني Press  على جمهور من الناس يتحلقّون وهم على عجلة من أمرهم في مكان محدّد لسماع شاعر أو خطيب أي للتلذذ بلسان ناقد الأمة، والنقد جذاب للآذان والعيون والعقول. ومن هذا الجذر جاء مصطلح Presse  بالفرنسية بمعنى   Presser  أي أسرع وضغط. والخبر السريع هو بذرة الصحافة بمعنى الإستعجال في تغطيته وإيصاله إلى الناس فيقال Dépécher  أو Dépèche بمعنى أسرع بصيغة الفعل والخبر السريع. وليس أدلّ على هذا المعنى من السرعة في الصحافة التي تسابق الضوء لأنها مهنة قول وجرأة ومخاطرة وعجلة وجدل ومصدر سلطان.

وقد تكون الصحافة في اللغة الإنكليزية أبلغ دلالة مما هي في الفرنسية، حيث طغت صفة الجلالة على الإسم Majesty ومعناها الكبر والعظمة وصاحب العرش له القوة والسلطان وواجب الإحترام والإجلال، ويشتق من اللاتينية مصطلح Majestas وتعني الأنبياء والقديسين والملوك أيضاً.

ب- قد تصادفنا هذه المعاني نفسها في اللغة العربية أيضاً في شروحات مادتيّ صَحَفَ وسَجَّلَ، حيث يعني صفح الشيء جعله عريضاً، والصفح بالسيف هو الضرب بعرضه لا بحدّه فيؤلمه من دون أن يشطره أو يجرحه، وتلك من صفات الإعلام الراقي. ومن يصفح الناس يرى صفحات وجوههم وهو ما يقودنا بالتوارد إلى ذكر علم الفراسة عند العرب في معرفة الآخر، وهو بات من علوم الإعلام الأساسية في جامعات الغرب. وصافح صفاحاً ومصافحةً أي وضع كفّه كلّه في كفّ غيره، وشدّ تدليلاً على المودة في الملاقاة، وهذه من شروط الإتصال الأولى حيث لحاسة اللمس وحرارة الجلد موقعهما في الإتصال في ما بين الشعوب، لأنّ المصافحة هي المفتاح الأبرز في علوم التواصل، خصوصاً وأنّ اللمس هو الحاسة الفقيرة العمياء التي لم يتمكن بنو البشر من تطويرها وتطويلها بوسائل إعلامية واتّصالية.والصفحة من الشيء وجهه ومن الكتاب ورقه، والصفيحة هي الحجر العريض وهو ما يذكّرنا بالرواسم أي الكليشيهات الحجرية المنقوشة لبدايات الطباعة، والتي ما زال استعمالها سارياً في طباعة اللوحات الفنيّة حتى اليوم.

وتصفّح الورق معناه عرضه ورقةً ورقةً. وتجمع الصحيفة في صحف وفي صحائف، أي القرطاس المكتوب الذي يسمّى مصحفاً، إذ يجمع بين دفّتي كتاب. والمصحف الشريف، أي القرآن الكريم يطوي بين دفّتيه الآيات المنزلة.

ويقال للصحافة صاحبة الجلالة، والجلالة من جلّ إجلالاً، أي تقدّم في السن وهو رجل جلي جمع أجلاّء. وتعني جلال الحجم الكبير والكبر في العين والموقع حيث العظمة والمهابة. وقد ابتكرنا  فكرة  هنا  نربط  فيها  بين  صورة أثلام  الفلاحة  تحت  القوائم وشبّهناها بخطوط الحبر المكتوب فوق صفحة القرطاس، ميّالين إلى حسن الربط بين الزراعة والثقافة. وأصلاً لولا الزراعة لما كان قرطاس هناك أو دوام في المكتوب تحقيقاً لسلطان الحبر على الزمان.

ويقال جلّ جلالاً، أي ثبّت الجلّ فوقه أو جلله الجلال، وكان الملوك والسلاطين يزهون فوق ظهر ما دبّ تحتهم في وسائط النقل والعرض البدائية، ويتفننون في زينة جلال الفرس في رقعة العرب كعدّة باقية لإظهار مظاهر السلطان وتحقيقها.

ج- لم تتحقق هذه الإشتقاقات والمصطلحات في مضامينها المتمحورة في سلطان الكلمة إلاّ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حيث كان الكتاب الوسيلة المميزة في حفظ الأفكار والتعبير عنها.

 

6- الحبر الساقط والمرفوض

بقيت الصحافة محتقرة وهي دون الأدب وموضع الإنتقاد، لا قيمة لها ولا صيت. وقد رأى فيها مثلاً جان جاك روسو ''منشوراً رديئاً غير جدير بالإحترام...ولا نفع منه...وقراءته مهملة ومحتقرة من  المتعلمين، وهو لا  يستخدم  إلاّ  ليقدّم إلى  النساء والبلهاء الباطلين الذين لا لغة لهم ولا ثقافة''. واعتبرها ديدرو أوراقاً تؤلف عجينة الجاهلين، ومنبع سلطات أولئك الذين يرسلون الكلام والأحكام على هواهم من دون تمعّن أو قراءة... والصحافة آفة وعدوّ أولئك الذين يجهدون في تحصيل الثقافة. لم ينتج الصحافيون يوماً سطراً واحداً جيّداً يصلح لفكر جيّد، كما أنهم لم يحولوا دون إنتاج كاتب رديء لمؤلف رديء، واعتبر فولتير بدوره أنّ ''الصحافة قصّ للتفاهات''.

وجاءت المراحل الثورية والمتغيرات الكبرى في العالم لتجذب انتباه الجمهور في أحداثها اليومية وتفاصيل نتائجها، فكانت الصحافة الوسيلة التي وسّعت حدقة البشرية في تطلّعها نحو المستجدات في العالم، وراحت تنتشر بموادها السريعة فتقوى وتعمم.

وإذا كانت الصحافة محتقرة من أهل الفلسفة والأدب، فإنها بدت محطّ استفزاز من أهل السلطان حيث راحت تعزّز تعريتهم. وكانت الصحافة البريطانية فوضوية وعاصفة وواكبت صورة بريطانيا التي كانت تنافس الشمس في امتداد أراضيها وتجبرها على عدم المغيب عنها. هكذا انخرطت في النضال ولمعت في تسميتها بالسلطة الرابعة في العام 1787 في كتاب الصحافي والكاتب والخطيب الإنكليزي إدمون بورك(1729-1797) بعنوان: ''تأملات في الثورة في فرنسا''. كان بورك عدواً شرساً للثورة الفرنسية، وناهض السياسة البريطانية في الهند بمقالاته التي كان لها الوقع الكبير لدى القراء، والتراجع الكبير لدى السلطات البريطانية الثلاث. وبدافع من المنافسة، وفي ظلّ مناخ نسبي من الحرية، راحت الصحافة البريطانية تشهد تنوّعاً وغنى في المضمون، بالمقارنة مع زميلتها  الفرنسية، ساندها  في  ذلك الإهتمام  الكبير والذي حظيت به من القراء في متابعتهم للمناظرات البرلمانية بعد قرن ونصف من النضال والصراع بين الصحافة والسلطة في بريطانيا.

وحملت المادة 11 من إعلان حقوق الإنسان الخاص بالثورة الفرنسية (26 آب/أغسطس 1789) والذي منه استوحيت نصوص حقوق الإنسان وأقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة (10 كانون الأوّل/ديسمبر 1948)، دلالةً رائعة في مسائل العلاقة بين السلطات الثلاث والكلمة، وبرزت الحرية في تبادل الأفكار والآراء حقّاً من الحقوق الأكثر أهمية للإنسان ، إذ يسمح لأيٍّ كان أن يتكلّم وينشر ويطبع بحرية وبما يتجاوب مع الأغراض الإنسانية المنصوص عنها في القانون.

كان نابليون بونابرت(1769-1821) شديد الحذر والحساسية والوعي لسلطات الصحافة، وكان يثير غضبه أي خبر نقدي صغير. فقد طلب في رسالة إلى جوزف فوشيه، وكان وزيراً للبوليس الإداري في فرنسا : ''إقمع الصحف أكثر وأجعلها تنشر عنا مقالات جيّدة، وإلاّ فإنني سأوقفها كلّها ولن أترك سوى واحدة. لقد انتهى زمن الثورة ولم يبق في فرنسا إلاّ حزب واحد، ولا شيء يؤلمني ويثير خوفي يا جوزف أكثر مما تنشره الصحف، فتعيق فيه مصالحنا''.

وليس أبلغ مما نقله كليمانس مترنيخ سفير النمسا في فرنسا(1806-1809) عن نابليون ، وغدا  مضرب  الأمثال  في  الإعتراف  بالسلطات  التي  تتمتع  بها  الصحافة والصحافيون: ''إنّ مقالةً صحافية تساوي جيشاً من 300 ألف رجل...وهؤلاء لا يراقبون الداخل كما لايخيفون الخارج أفضل من دزّينتين من حثالات الصحافيين''. وكان نابليون ينظر إلى صحيفته Le moniteur  التي أرادها الوحيدة الناطقة باسمه على أنها ''روح الحكومة وسلطاتها وقوتها، ووسيلتها إلى الرأي العام في الداخل والخارج...إنّها أمر اليوم بالنسبة إلى أعمال الحكومة''.

 

8- قوة النقاط الضوئية المتجمّعة

لقد بلغ رينيه دو شاتوبريان( 1768-1848) حدّ التنبؤ وهو يصف الصحافة المكتوبة بأنها ''الكهرباء الإجتماعية'' في رسالته في العام 1830 إلى ملك فرنسا شارل العاشر، يحضّه فيها على الإقرار بسلطات الإعلام، وهو لم يكن يتصوّر في تسميته تلك أنه يؤسس لكلام يتوسط فيه بين الكلمة المكتوبة اللامعة والتماعة الشاشة التلفزيونية. فقد رأى بأن ''الصحافة كانت عنصراً مجهولاً في الماضي وسلطة هائلة أدخلت الآن في تقرير المساهمة في مصير العالم. إنها الكلام في حلّته السريعة. إنها الكهرباء الإجتماعية، فهل يمكنك تجاهل وجودها؟ كلّما زعمت أنك ملم بها وتفهمها، ازدادت حدّة انتشارها وانفجارها وأضحت أكثر عنفاً. عليك أن تتصالح معها اذن، كما فعلت في الماضي مع آلات البخار. ويجب عليك التمرّس بها اتّقاءً لمخاطرها، وهكذا تنحسر هذه السلطة شيئاً  فشيئا  فتسقط  وتتلاشى في الإستعمال اليومي، فتدجنها أو تعيد بناء عاداتك وقوانينك وفق مبادئها التي ستحرّك البشرية من الآن وصاعداً.

لقد حقق التلفزيون في الواقع، وقبله المذياع أشكالاً أسطورية في وقعهما السحري والسلطوي على الناس، تفوق بكثير ما تحمله الكهرباء من طاقة وسرعة غذّتا وسائل إيصال المعلومة، وأصبحت الشاشة أي الصورة المصدر الجديد لسلطات الإعلام العصرية المتنامية.

ولا يمكن التنكر للحظوة والسلطة اللتين كان يملكهما إلى وقت ليس بعيداً صاحب مذياع أو تلفزيون في ريف من الأرياف العربية او غيرها مثلاً. كان توافر وسائل الإتصال وما زال مصدر وجاهة اجتماعية وثقافية. لم يكن أهالي الأرياف يعرفون السلطات إلاّ عبر الجباة أو رجال الأمن يتعقبونهم، وهم بواسطة الأجهزة الإعلامية راحوا يسمعون ويشاهدون ممثلي سلطات بلادهم يدعونهم إلى الإسهام في إدارة البلاد ونهضتها، وكان لهذا الوقع الكبير لديهم، الأمر الذي تطّور إلى مقارعة المسؤولين ولومهم وطرح الأسئلة عليهم وربّما شتمهم من على شاشات التلفزة عن طريق برامج ''التوك شو'' الأميركية النشأة، والتي تركتها الشاشات العالمية بعدما منحتها حيزاً واسعاً في برامجها، مع فارق أساسي وبسيط قوامه أنّ المقابلة التلفزيونية في الـ إم. تي .في. الأميركية مثلاً لا يفترض أن تتجاوز  18 إلى 20 ثانية ، بينما قد يكون نصيبها في الشاشة العربية أربع ساعات أو أكثر... تلك هي المفارقة في مفهوم الزمن كمعطى حضاري بين الشعوب والثقافات.

وقد حفلت هذه الأسطورية للشاشة في دفع مستوى الحرية إلى مستوى التقديس لدى الشعوب النائمة، ونشأت معها التجمعات الإعلامية الضخمة والمحطات الإذاعية والتلفزيونية التي صارت تحتكر المواد الإعلامية والثقافية وتبثّها في اتجاه الأفراد والدول، فتكوّن الرأي العام بمعناه العالمي، وباتت الجهود منصبة على هندسة سلوك البشر ورغباتهم وقولبة إعدادهم الإيديولوجي والثقافي والسياسي بما يتناقض مع خصوصياتهم وعاداتهم وجمودهم وربّما ''هنائهم''.

ويمكن التفكير مثلاً بأن الرأسمال العربي بات يتجه أكثر فأكثر إلى الإنخراط في الشاشة ومفاعيلها كباب للتوظيف وتحقيق الأرباح كما إلى التثقيف والتبادل والدخول في العصر وتحقيق القوة الفائقة لأصحاب الفوائض من الأموال. وتكاد الشاشة، بهذا المعنى، تشغل المساحة البشرية المعاصرة التي تحقق هذه الأسطورية في  ''تواصل'' الناس ، أو تحقق السلطة الخفية الفاعلة أكثر بكثير من سلطات الأنظمة المباشرة، بدءاً بالبيت مروراً بالمدرسة والجامعة وصولاً إلى المجتمعات المتنوعة الكثيرة والتي هي في أساس تركيز القيم و ''الأناوات'' - جمع ''أنا''-  العليا لدى الأفراد والجماعات.

 

9- ''البايت'' بطل القرن الحادي والعشرين الأسطوري

لقد حقّقت الشاشة سلطاتها على قاعدتين أساسيتين هما ثورة الحاسوب الأسطورية أو  وعودة السلطة إلى الصورة بقوة أقوى من زمن تفجّرها الأول نحو الكتابة.

أ- سلطات الـ Bits  الأسطورية:

بنيت القاعدة الرياضية لقوة الشاشة بالإستناد إلى ما يعرف بال بايتز المشتقة  من  Binary digits                         التي تعني صفراً وواحداً في منظومة الترقيم الثنائي. و''البايت'' هو أصغر وحدة إعلامية تمكننا من فهم المعلوماتية المرتكزة عليه. ويصبح الإعلام نظرية رياضية مشتقة وخاضعة لقياس كمية المعلومات وتمثيلها بما يسمح بمعالجتها وترميزها ونقلها من ثمّ بواسطة الرموز. وتتضمن هذه الرموز إندماجاً للأصوات والصور تحملها إشارات إلكترو مغنطيسية مرقّمة تسمّى ''البايتز''.

الجديد في هذه الثورة منح الصفر قيمة عددية، وهو وحدة أساسية محسوبة في ألعاب الأطفال واحتساب النتائج العامة والمعلومات.

هكذا تسقط الصفة السلبية عن النصوص في معالجتها سلباً أو إيجاباً. فالسلبي ممثل بالصفر والإيجابي ممثل بالرقم واحد. وإذا قدمنا مرسلة لا تساوي معلوماتها إلاّ صفراً ورتّبناها في رسائل منفصلة أو متداخلة بين السلب( سلب سلب سلب) والإيجاب (إيجاب إيجاب إيجاب) فإننا نصل إلى ثماني حالات متعددة من المعلومات. وتتضاعف البايتز إلى الكيلو بايتز وصولاً إلى الأقراص المدمّجة المتنوعة حتى الـ DVD أو Digital Versatile Disc  حيث يمنح العصر الرقمي المجتمعات الرقمية والإنسان الرقمي والحضارة الرقمية وحيث الإمكانات الهائلة المتضاعفة في التخزين وسرعة الحصول على المعلومات ونقاوة عرضها وتقديمها.

لو ضربنا الصفر بواحد يكون الناتج صفراً. لكن أين اختفى الرقم واحد بعد الضرب؟ الجواب: امتصّه الصفر. من هذا الجواب حصلت الثورة الرياضية الحديثة والمعلوماتية، وعليها بنيت سلطات وسائل الإعلام.

 

ب- نظرية الإيماغوس

تلك نظرية متكاملة لا يتّسع المقام هنا إلاّ لتفسيرها وتقريبها للقارىء كتسمية فقط.

فالإيماغوس Imagos  مصطلح ابتكرناه تعبيراً عن عصر الصورة التي تشغل الحيّز الواسع في الثقافة المعاصرة، وتعَنون وظيفة الشاشة أي الصورة في سلطتها الحالية والمستعادة. والمصطلح مشتق من ال Image أي الصورة ومنها المخيلة  Immaginaion وغيرها من الألفاظ المشتقة. والإنسان هو الصورة التي جاءت على صورة خالقه ومثالاً لها.

لقد عبر الإنسان في تاريخه الطويل للخروج من إطاره صورته المرسومة، فأجهد عقله ويديه لتحقيق استطالات لملامح صورته. اخترع الدولاب امتداداً لرجليه، لا يحدّه حدّ. وكان الهاتف والمذياع واللاسلكي نوعاً من الإستطالة لسمعه أو لأذنه كحاسة أولى في وعي الإنسان الجنين، وكان المنظار المقرّب والتلفزيون وغيرهما امتداداً لبصره أو لعينيه، الحاسة الأخيرة التي تستيقظ بعد ولادة الإنسان والأخيرة التي تموت بعد موته. لم يتمكن بالطبع من تطويل حاسة الذوق ومثلها حاسة الشمّ الحيوانيتين الأساسيتين لديه. بلى، لقد مطّ الشم بعصر الزهور الطبيعية واستخراج رحيقها وروحها، فغدا العطر وسيلة اتصالية وتواصلية راقية، وهو بهذا لم يفترق كثيراً عن الكائنات الأخرى الكثيرة المحكوم تكاثرها واستمرارها بقوة حاسة الشم.

هناك دراسات في المختبرات الأميركية، اليوم، تحاول أن تطوّل حاسة اللمس عن طريق معرفة مشاعر الآخر وملامح من شخصيته بمجرّد لمسه لمفاتيح الكومبيوتر وأزرار المعلومات، وهي لم تكتمل أو تنضج بعد!

وإذا كانت كل التقنيات والإبتكارات تعبّر عن جسد الإنسان وتوقه إلى الإستجابة لطاقاته المتنوعة في السلطة والإتصال، فإن هذه التقنيات لم تأت كزوائد خاصة به، بل ظلالاً لحاجات جديدة وبحثاً عن صورته هو.

جاء اختراع الإنترنت القمة في الإمتداد لجهازه العصبي الذي به ترتبط كلّ الحواس الخمس المستطالة الأخرى.

 

وهنا شروحات للإيماغوس:

 يعتبر مبدأ الحياة والموت ينبوعين متداخلين منهما تتفجّر كل الينابيع الأخرى  والسواقي. ولا ننسى  بأن   مبدأي الحياة/اللذة أو  الإيروس  Eros  والموت/الواقع أو التاناتوس  Thanatos  الأسطوريين قد غرق فيهما الإنسان وانشغل منذ وجوده في المكان. ثم تقدّم يغرق في سلطات الزمان أو ما عرف بالكرونوس في اليونان Chronos  منذ اختراعه للساعات الفلكية في القرون الوسطى تحقيقاً لأبحاثه وكشوفاته في الزمان الذي فتته الإنسان لمصالحه وانتظم به، ووضعه ساعةً أبدية في معاصم البشر كلّ البشر، زمناّ مغلّفاً بقطعة من زجاج!

هكذا لم يخرج الإنسان من سيطرة الزمان الذي عزّزته شبكات الإتصال، فصار موازياً للذهب في قيمته: .

Time is mony لكن عدم التوازن بين الإيقاعات البيولوجية والاجتماعية للإنسان والتي ولّدها بفضل السلطة الزمنية، دفعت المسائل إلى إدخال الزمن بين الحياة والموت بما جعل الحياة مقنّعة في حاجات متكررة واصطناعية ضرورية لتحقيق التوازن. وصار الزمان بمعنى الحاضر الأميركي WON بالخط النافر لأن الناس مرهونين للحاضر، وهو ما يعززه الريموت كونترول محققاً سلطة أصابعهم وعقولهم وأطرافهم، كما هو معروف عنها أساساً بأنها نتوءات فائقة التعبير عن دواخلهم ، لا وقت لديهم ولم يأخذوا أوقاتهم كلّها ويحاصرهم خناق الزمن القصير الذي لم تتبدّل هويته أساساً.

ومن فقد أطرافه مثل مي شدياق لا يفقد داخله بل يتضاعف بإنطوائية إبداعية في علم النفس.

نحن نعيش إذن في الزمان اللاتاريخي الملطّف بالصورة الإعلامية والمشحونة دوماً بالحدث.

هكذا يدخل الإنسان الشاشة/الصورة حاجة كبرى نرجسية قديمة وحديثة. إنها الإيماغوس التي تتقدّم على كلّ شيء في تحقيق الإتّصالية، وتنضم اليها الحاجات السبع الجديدة مثل الإطمئنان العاطفي، والأمان الإجتماعي، والشعور بالقوة، والرضى عن الذات، والإنتماء، والترقي، والجنس، لتؤدي كلها مقتضيات الزمنية الأقرب أي المعاصرة والموضة أو الدرجة edoM aL، وهي لا قيمة لها إن لم تشكّل صوراً عامة جاهزة أي مفروضة، لكنه فرض بين قوسين.

 

10- الزجاج المتشظّي

صحيح أنّ إلفةً ترسخت بين الشاشة والناس إلى حدود عشق الحضارات الزجاجية الخارجة من صلابة الحجر، إلاّ أن التحلق أمام الزجاج في المكاتب والمباني، في الداخل والخارج يحفر الردانية بدلاً من الإجتماعية تماماً مثل سكب الرمل حبةً حبة سهلة التجمع والإفتراق. يبدو لكل فرد برامجه وشاشاته الخاصة. فقد تشظّت الصور مع تشظي الشاشات  هندسياً وتعددها للفرد الواحد( شاشات زجاجية للزمان والتنبيه إليه، شاشات للتلفزيون، وأخرى للكومبيوتر، وثالثة أمام الأبواب إلى الكاميرات الخفية والهواتف الخلوية، عالم ومدن من زجاج مصقول!)

وإذا ما عادت الشاشات تتجمّع في قطعة واحدة من حيث وظائفها بالمعنى التقني، أو أن الشاشة الواحدة راحت تتشظّى في مربعات قد نستقبل فيها إمكانية 4500 محطة في مربعات لا تنتهي، ومن مصادر الدنيا وفي زمن ليس بعيداً كما تنبئنا الإختراعات، فإنّ الصورة العامة التي تمثّل المجتمع المعاصر تحمل تشظيات المجتمعات وتوحيدها أي خضوعها غير المقصود بالمعنى غير المباشر الممتع.

من هذه المساحات المتشظية المصفوفة يمارس الإعلام المتطور سلطات الشاشة الأسطورية في أكثر من إتجاه، فيلف بها الكون هدية أو صورة جميلة عبرها نحقق سلطاتنا الخاصة.

 

أين الشاشة العربية من كلّ هذا ؟

إقرار باعتبار التقنيات، وخصوصاً تقنيات العولمة هي التي تحدد عصريتها وقوتها أو تقليديتها وتخلّفها، وهي تمضي أمام خيارين لا ثالث يوفّق بينهما كما اعتدنا، إما السيطرة عليها والإبحار فيها ودخول أفلاكها، أو القطيعة معها والإنغلاق عنها. ويبدو الخيار الأول متنامياً ويرجحه جيل الشابات والشبّان.

 

11- العرب أطفال العصر الفضائي

كتب لي شاب جامعي كويتي جواباً لافتاً ومعبراً عن سؤال استقصائي أجريته على الإنترنت في العالم العربي( نيسان/أبريل 1999) هو: ما أثر الإنترنت على العرب؟

كتب: ''ما الخسارة العربية إن أصبحت الثقافة أفقية بعدما كانت عمودية لا تحيد؟ وهل يفترض أن تبقى المعرفة تمرّ من الواحد إلى الجميع؟ وماذا يخسر العرب إن انتقلوا من عصر الإنتشار الضيق Narrocasting  إلى عصر الإرسال الواسع Broadcasting  حيث يستطيع كلّ عربي أن يطال المعلومات والصور التي يرغب بها؟''.

صحيح أنّ الغرب قد أدخل البشرية عصر الفضاء محققاً عناصر تكوين الإنسان الأربعة باستثناء عنصر النار الذي يتحقق كلّ يوم. وهو بعدما اجتاز التراب أو اليابسة كعنصر أول في  التكوين  محققاً حضارته الزراعية  والعمرانية وصولاً  إلى  كشوفاته  البيئية، اجتاز المياه والمحيطات والبحار كعنصر ثان في التكوين منجزاً حضارته المائية في التجارة والاتصال وحتى  حضارة زراعاته المائية التي يثمر فيها النبات في الماء المدروس هندسياً وحرارياً، فإن السلطة صارت فضائية من فوق بعدما طار الإنسان متهادياً في الهواء أو العنصر الثالث في التكوين. إننا أمام حضارة معلّقة في الفضاء، والواضح أن العرب إن لم يطيروا بتوازن كامل، إلاّ أنهم يحبون أطفالاً بخطى في الفضاء لا يمكن الإستهانة بها على الإطلاق.

لقد خرج العرب بشاشاتهم الفضائية إلى الفضاء، ويكفي التغاضي عن كلّ الإنتقادات والملاحظات التهديمية والدراسات الإعلامية الكثيرة التي تحطّ من شأنهم، إلى القول أنّ ما حققته هذه الشاشات على مستوى تقريب الشعوب العربية والإسلامية وتقريب وحدتها، على تنافرها واختلافاتها، سواء أكان في اللهجات والعادات والتقاليد أم في السياسة والإجتماع والطموح أم في التعرف إلى بعضها البعض عن طريق الشاشة، يفوق بكثير ما عجزت عن تحقيقه الأنظمة العربية في تاريخها الطويل.

إنّه سلطة الإنتقال من الكلمة المكتوبة إلى الصورة، وإذا كان الغرب مفتوناً بالشكل وربّما يقلقه أو يفتقر إلى المضمون بمعناه القيمي، فإنّ العرب قادرون على اقتناء الأشكال بسهولة عظيمة وملئها بمضامين ليست بالضرورة نافرة يشوّهها الغرب ويوصمها بالعداء والأصولية، بل بحضارة قوامها الإتصال في عالم تيبس فيه الطاقة التواصلية وتحفل بها أرض الشرق!

 

اللسان والسلطة

يجد الباحث في ''اللسان'' أو في  ''الكلام'' أن المصطلحين كيفما تقلّبا فهما يحملان معنى السلطة. فقد جاء في ''الخصائص'' لابن جنّي أنّ : ''ك.ل.م.'' هذه حالها تدل على القوة والشدّة... ومن ذلك الأصل الأول لها اَلكَلْم بمعنى الجرح وذلك للشدّة التي فيه. وقالوا الكُلام: ما غلظ من الأرض، وذلك لشدّته وقوّته(1). فالكلمة، إذاً، ليست سلطة وحسب بل إنّها مثل السيف تدمي وتجرح وتقاتل.

وقد أورد ''لسان العرب'' تحت مادة ''سلطة'' انّها السلاطة أي القهر، وقد سلّطه الله فتسلّط عليهم، والإسم سُلطة بالضم، وفي هذا إحكام للربط بين مفهوم السلطة والخالق. والسَّلْط والسّليط هو الطويل اللسان. ورجل سليط أي فصيح حديد اللسان بين السلاطة والسلوطة. والانثى سليطة وسَلْطانة وسِلطانة، وقد سلط سلاطة وسلوطةً.

والسليط عند عامة العرب هو الزيت. واشتقاق السلطان من السليط. قال: والسليط ما يُضاء به، ومن هذا قيل للزيت سليط. والسلطان بمعنى الحجة، ولذلك قيل للأمراء سلاطين لأنّهم الذين تقام بهم الحجة والحقوق(2). وقوله تعالى: ''وما كان لي عليكم من سلطان''(3) أي ما كان له عليهم من حجة.

ولم يخرج مجمل المعاجم عن هذا الربط اللغوي المحكم بين اللسان والسلطة(4). فاللسان هو الفصاحة في حدّتها ووضوحها، وتضمر قهر الآخر ودحره ودحضه. والفصاحة فعل تنوير أو إضاءة المبهم وإيضاحه حيث العلم والمعرفة سلطان أي حجة ونور. ويصبح الكلام، إذاً، شفوياً أو مكتوباً فعل تنوير يقهر الظلام ويدحض الجهل الكامل أو عدم المعرفة.

وتختزن الفصاحة، بهذا المعنى، سلطات الانسان اللغوية في استعمالات الحروف والمفردات، فتظهر صلابتها وقوتها في أصواتها وبُناها ومعانيها وأشكال علاقاتها ومقامها. واللسان هو الذي يفصح عن سلطة المتكلم في فصاحته، وسلطانه مضمر في حجته وبرهانه، به يقوى وبه يضعف.

وإذا كان هذا الأمر يمنح اللغات سلطات عامة، فإن لغاتٍ أخرى مثل اليونانية واللاتينية والعربية، تبدو سلطاتها ماثلةً إذ تستمد من الله، فتوازي السيادة التي منها تنبثق السلطات كلُّها وعبرها يتجلى الانسان في مستويات مختلفة. وهذا ما يمنح تلك اللغات سلطات خاصة.

غير أننا، قبل التطرق إلى المفاهيم العامة والخاصة للسلطات اللغوية، نباشر في الأسئلة عن السلطة ومفاهيمها وتجلّياتها. فما هي السلطة وما هي مصادرها وكيف تتحقق؟

 

1 - نشأة السلطة

 يمكن القول إنّ السلطة ظاهرة طبيعية تلازم الإنسان في أي مجتمع. ويبدو البقاء من دونها نوعاً من الخيال، وهي تحضر أساساً كضرورة في الوهم. والسلطة أقدم بكثير من الدولة حيث جاءت السيطرة الطبيعية للأفراد بعضهم على بعض أساساً للعلاقات والبُنى الاجتماعيّة والانسانيّة في التطوّر البشري نحو ميادين التنظيم وتكوين المنظومات، وكلُّها مستقاة من الطبيعة.

 وترافق هذه الظاهرة الأفراد في طفولتهم منذ الأساس، فينشأ تقبل الطاعة والخضوع لأوامر الأهل، ليأتي بعد ذلك دَور المدرسة بكل ما تحمله من تعليمات وتطويعات شاملة تتخذ أبعادَها في الحياة الاجتماعيّة، فيشعر المرء بوجود السلطات في كل الفئات الاجتماعيّة صغيرةً كانت أم كبيرة، سياسيّةً دينيّة، أم اجتماعيّة اقتصادية.. وكأن الحياة في نسيج اتصالاتها هي نوع من تبادل سلطات ومواقع وحضور وحيث تبدو السلطة ضرورةً اجتماعيّة وانسانيّة.

''السلطة، على هذا المستوى، ملاط الوجود الاجتماعي من سلطة الموروث الجيني الصبغي إلى سلطة الوعي فسلطة اللاوعي ثم سلطات المجتمع. من الأسرة إلى الدولة ومن المقدّس إلى النزوات الفائرة''، الـ ''نحن'' الجمعيّة أو القبيلة(5) أو الكوكبية بمعنى العولمة مروراً بسلطات العلم والتكنولوجيا ووسائلها المحكية والمسموعة أو المقروءة المرئيّة والتي تكاد تبدو بديلاً عن مجمل السلطات حيث لا استمرارية لأية سلطة من دون رعاية الاعلام وحضوره.

 

2 - السلطة والقوة

 تفترض السلطة في حضورها قوةً ما هي في اللغة العربية قوة اللسان وفصاحته. وقد يكون ميشال فوكو (Michel Foucault(6 منح السلطة بُعداً اتصالياً فرآها ''علاقة قوة''(7)، بمعنى أنها كامنة في حال السلطة وممارستها وارتباطاتها بالآخرة. وعندما تقوم القوة مع الآخر، تصبح سلطة، وعنها ينتج الرفض والخضوع والإخضاع بمعنى السيطرة. وتتجلّى قوة السلطة مصدراً للإحساس والتقويم منذ أن تنكوّن أو تظهر، وهي إذ تلتمس الاتصال بالآخر يتولّد منه  عالم من اللغة والمؤسّسات(8).

ليست القوة، إذاً، في معناها الفج، بقدر ما هي قدرة التأثير فعلياً على الأشخاص والأمور، بالتماس مجموعة من الوسائل التي تتحرك بين الإكراه والاقناع، وتتحول فتغدو إمكانيّةً متاحةً لأحدهم داخل علاقة ما، تسمح له بتوجيه الأمور حسب مشيئته(9).

ويخفّف هذا الرأي من حدّة القوة، باعتماد قوة الاقناع والتماس الحيلة أو ''الديبلوماسيّة'' في إدارة العلاقات مع الآخرين. وستصبح السلطة فناً كاملاً وعلوماً وممارسةً(10) بعدما رآها نيتشه(11) تحقيقاً لإرادة ''القوة الطبيعية'' أو ''إرادة المعرفة'' لدى فوكو. وقد فصّل فيها جيل دولوز Gilles Deleuze(12)، وقارن  بينها لتفسير معنى السلطة حيث دعا إلى الكتابة كغريب عن اللغة الخاصة حتى التمكن من الكتابة - السلطة(13).

 

3 - حق السلطة

 ليس أكثر من كلمة الحق على علاقة مباشرة بالسلطة. يبدو الحق مصطلحاً  ''استراتيجياً'' تدور في فلكه السلطات كلُّها في أشكالها المختلفة الدينية والانسانية والسياسية، القانونية، أو الأسطورية الموروثة في تبريرها لمفاهيم الشرعية ومنطق السلطة أو الحكم. والكلام على الحق هو الكلام  بمعنى ما على الحقيقة التي انقسم البشر بشأنها، حيث لا تبدو ''الحقيقة خارج السلطة ولا هي من دون سلطة. إنّها من هذا العالم، وفيه أنتجت بفضل العديد من الأفكار والضغوطات''(14).

و''الحق على ارتباط تاريخي بالمقدس الخفي أو الظاهر الحاضر دوماً داخل السلطة، حتى اعتبار السياسة علماً تابعاً لتاريخ الأديان المقارن''(15)، حيث السلطة السياسية تفرض تبريراتها بينابيعها وأصولها المقدسة، وتتشبث بأمور الناس والأحداث موثقة شكلها ''وظيفة دينية ثابتة، وحقاً إلهياً دائماً لا يتغيّر ووظيفةً أبدية''(16) في الحكم.

 

أ  -  الحق الإلهي

 ترتبط السلطة، بالمعنى الديني، بالمطلق في مجال البحث عن الحق حيث الدولة دولة الله ومدنه، والحق هو الله ومن أسمائه وهو الكلمة. وقد وردت كلمة حق مع مشتقاتها في الأناجيل /24/ مرة، حق، وحقيقة وحقيقي وحقاً ومحق ومستحق واستحقاق ويتحقق... الخ(17).

أما في القرآن الكريم فقد وردت(18) كلمة الحق /227/ مرة وحق /11/ مرة، بينما وردت مشتقاتها حقّت، يحقّ، استحق، يتحققّ /57/ مرة، مع الإشارة إلى عدم ذكر مفردتَي حقيقة أو الحقيقة. وقد جاءت دلالةً على الله والقرآن والاسلام والعدل والتوحيد والصدق والحظ والحاجة. ويمكننا قراءة العلاقات القوية بين الإلهي والتاريخ في مجال الكلام عن الحق في مستويات الوعي كلّها لا في المسيحية والاسلام وإنما في اليهودية أيضاً وغيرها من الديانات. والحق، وفق هذا التوجه، يعود إلى الله الذي يحكم الانسان والكون والمجتمعات. وكل سلطة باطلة إن لم ترتكز على السلطة المطلقة التي غالباً ما ترتكز إلى النصوص والكتب المقدسة، بالإضافة إلى التفسيرات الخاصة بالنصوص. وما علماء الدين سوى الناس الأوفر وعياً للنصوص الإلهيّة حيث يُمنحون الأهلية لحكم المجتمع. وقد عرفت المجتمعات هذه الأنواع من السلطات التي حُصرت برجال الدين الذين قد يتحوّلون إلى حكّام.

وتظهر سلطة الله، مثلاً، في المجتمعات الإسلامية متجسّدةً في النصّ القرآني المنزل حيث يتوحد التاريخي بالطبيعي، والنسبي بالمطلق، وحكمها طاعة الله والرسول وأولي الأمر: ''يَا أيُّها الّذينَ آمَنوا أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُم، فإنْ تنازعْتُم في شيءٍ فرُدُّوه إلى اللهِ والرسولِ إنْ كُنتمْ تؤمنون باللهِ واليومِ الآخرِ ذلك خيرٌ وأحسن عملاً''(19).

وقد صيغت الأسئلة الحاملة للوعي التأمّلي العربي في بحثها عن السلطة، صياغات متنوعةً من إشكاليّة خلق القرآن أو ''محنة خلق القرآن'' إلى إشكاليّات التنزيل والتأويل، إلى إشكاليّة خلق الوجود من عدم، إلى إشكاليّة المعرفة العقلانية الفلسفية والسلطات الفقهية الشرعية... إلى المعتزلة والزندقة والمطلقة والإلحاد إلى التصوّف(20) وغيرها.

 

 ب - الحق الطبيعي

 وفق هذه الرؤية الإلهيّة للحق، قامت الدول على أسس ثلاثة: الدين حيث انتظارات الإنسان لتجليات هذا الحق، والقوانين المستمدّة من الشرائع حيث فرض الاحترام المتبادل بين الناس، والحاكم الذي يخرج رجل دين أو منه إلى أمير أو حاكم أمير. ويُصاغ في مبادئ ملكيّة، أو امبراطوريّة، أو جمهوريّة، أو كل أشكال الحكم وأنظمته، بحيث يتحوّل رجل الدين إلى فقيه ملحق بالحاكم، ولكنّه غالباً ما يشكّل مرجعيّته - السلطويّة.

 يعبر الحاكم إلى رجل دين بالزّي المدني عندما يتحوّل الحق الإلهي إلى قرارات صادرة عن وصايا ''الزعامة السماوية''، حافلةً بالتقاليد والأنماط المشابهة للمبادئ العقلانيّة. ومع هذا العبور يدخل الحق في أطره النسبيّة فيخبو أو يقوى بمقاييس الانسان، وتجاربه الموضوعيّة والذاتية، ومن هذه المقاييس تستلّ النزعات السياسيّة المعقّدة في أصول أنظمة الحكم.

وإذا كانت صيغة السلطة المرتكزة على مبدأ الحق الإلهي تقود إلى الأحادية في النظرة إلى الحقيقة، بسبب مركزية هذه السلطة التي تضم تحت ''ثوبها'' سلطات ''العرق''، والزمان، والمكان، والاجتماع، والمدن ووسائل الاعلام وغيرها، فإن سلطة الحقوق الطبيعية قد آلت في العديد من المجتمعات إلى تشظيات المركز، وانهياراته لصالح مبادئ حرية الانسان في نظرة جديدة مختلفة إلى السلطة. وهنا يرتفع العقل مقام انهاء مطلقية السلطة، والسلطان يزيح الانسان الذي هو مقياس كل شيء. ويفرض الحق النسبي على الانسانية أن نقدم برهاناً مستمراً في تأكيد جدارة الضمان الانساني في السلطة مكان الضمان الالهي في الحق المطلق حيث التأكيد الدائم المعاصر أبداً لمفاهيم الدولة الانسانية(21).

وتتجسد السلطة، على هذا المستوى الانساني والديني المطلق والنسبي في مؤسسات تختلف باختلاف المجتمعات، فنجد بالاضافة إلى المؤسسات العائليّة، والتربوية، والدينية، التي تأتي مترافقة أو تابعةً للعائلة والمدرسة والوزارات والهيئات والأجهزة التي تمثّل الناس، إلى جانب مؤسّسات التشريع، والقانون، والاتحادات، والنقابات، والمنظمات المهنيّة، والجامعات، والهيئات الأكاديميّة، ومؤسّسات الأبحاث، والمؤسسات العسكرية.. وكل ما له علاقة بشؤون تنظيم المجتمع.

ولا تعود السلطة وفق هذه المقولة الحرّة في انفلاش مفاهيمها وممارساتها على المؤسسات موضع ''بحث تحت قبعة رجل السلطة أو صولجانه بل في حقول الدلالات المعرفية في أثناء التعبير عنها''(22). أي أنّ السلطة تبدو مرتبطة بالقول كقوة تحكم الكون، وتحافظ على الحياة فيه، أي النصوص، والاجتهادات، والممارسات، التي تربط بين نظام العالم الحرّ، وكيفية التعبير عنه؛ وتصبح اللغة قوة خلق لا تضاهيها أية قوة أخرى.

 

4 - السيادة والسلطة

 هكذا تبدو البشريّة وخصوصاً المجتمعات الدينيّة، و ''التوتاليتاريّة''، في نظمها، منقادة في تأرجحها بين المطلق والنسبي في مفاهيم السلطة والشرعية والحق في الحكم وأنظمة الحكم إلى ضرورة التفريق بين السيادة والسلطة.

نضيف هذا الكلام لأننا في بلد مثل لبنان نعاني تداخل السلطات الدينية والتقليدية والدستورية في مختلف أشكالها وممارساتها حيث الطائفيّة والزعامات التقليديّة الموروثة تجعل الإنسان العربي عموماً، واللبناني خصوصاً، لا ينتمي إلى مفاهيم مثل الوطن بقدر انتمائه إلى الدين والمذهب والمؤسّسات الدينيّة. هذا الانتماء ''الديمقراطي'' هو الذي يدفع بنا إلى التمييز بين السيادة والسلطات. ما زالت المقدّسات ماثلة كسلطات في المجتمعات الشرقيّة، ولم تتمكن الشعوب من أن تتخلّص من ترسّبات مفاهيم السلطة في معانيها المطلقة القديمة أي السيادة.

تعتبر السيادة العليا Autorité نوعاً من انتساب عفوي لشخص ما إلى جملة من العقائد، والرموز، والأفكار، حيث يكرّس نفسه في خدمة هذه السيادة، بينما السلطة Le pouvoir أو السلطات بالجمع Les pouvoirs هي مسائل ما زالت خارجيّة بالقياس لمن تمارَس عليه مستندةً إلى السيادة العليا في منح الشرعية. فالإجبار، والقسر، والخضوع، في اندماج مع الحرية، والرفض، والخيار، تولِّد الانتساب الحرّ العفوي، أو الخضوع الإجباري المكره، الذي يقود غالباً إلى التمرّد والثورات في عدّة مجتمعات (23).

وقد تفترض علاقة جدليّة بين السيادة والسلطة، فما أن تضعف السيادة العليا، أو تنهار، حتى تزداد سلطة الدولة، وتنتشر وتقوى. وما إن تضعف سلطة الدولة، وتنهار حتى تقوى السيادة العليا، وتأتي تعويضاً عن هشاشة هذا الضعف أو حفاظاً على الأساس: ''السيادة عاطفة من الاتفاق العميق الذي يربط بين أعضاء جماعة بشريّة ما، أو قوميّة، أو أمّة دينية، أو هي الدفاع عن هوية معيّنة تحفظ تراثاً بأكمله، وتفتح أبواب المستقبل. إنّها قوة لإثارة الحياة، وبهدف التجاوز غير المتوقع والتجديد الذي تقوم به الروح العاملة لتحرير الوضع البشري ودوام تفتحه.

''أما السلطة فتمتلك، وتحفظ، وتدير الأوضاع، وتحافظ على النظام. السيادة خالدة، والسلطة تؤخذ، وتضيع، وتؤدي أزمة أحدهما إلى الأخر''(24).

يفرّق هذا التوجه مجدداً بين اللغة العربية في سيادتها، والكلام العربي كسلطة متنوعة، متعددة، وهو ما يدفعنا إلى السؤال: ما هو مستقبل السيادة اللغوية، إذ ينهار الكلام أو حين تنهار اللغة في المحكيّات؟

وهنا نجد أنفسنا أمام نمطَين من السلطات اللغوية:

أ   -   العامّة التي يمكن أن نشهدها في مجمل اللغات.

ب -   الخاصة التي تربط هذه السلطة بصيغة معيّنة، هي الفصحى مثلاً، في اللغة العربيّة أو لغة القرآن.

وإذ تنبغي الملاحظة أنّ عدداً من المجتمعات المعاصرة تعاني فراغاً نظرياً كبيراً حيال مسائل السيادة والسلطان، ''فإنّ الغرب، تحديداً، قد أعرض عن السيادة العليا كذروة للتشريع. وحطّ بذلك من القيمة القديمة لأهميّة القوانين الإلهيّة والعقل الأعلى، مقابل الشرق العربي أو الإسلام، حيث يبدو التفكير في مشاكل هذه العلاقة صعباً جداً؛ خصوصاً بالنسبة إلى أولئك الذين يرفضون من دون أي نقد، الأفكار العامّة المشتركة للفكر الاسلامي التقليدي، ومن دون أيّ اعتراف كبير بتنشيط المناقشة، ولو النظرية، بالفكر الاسلامي المعاصر''(25).

يُستنتج، إذاً، أنّ علاقة السلطة بالسيادة مسألة ثقافية تختلف باختلاف المجتمعات، ويبدو اختلافها، في الوقت الحاضر، نظرياً أكثر منه عملياً. فما هو المقصود بالسلطات اللغويّة العامّة؟

 

سادساً: السلطات اللغوية العامّة

 يفضي بنا الإلحاح في الكلام على اللغة لأنّه وجهها المتحرّك، أو هو المعبِّر عن الذات، إلى اعتماد ربط الوجود بالكلام حيث لا يتحقق الانسان إلاّ في اتصاله الكلامي. وهذا يعني مظاهر متعدّدة للسلطات الكلاميّة التي تبرز معها اللغة مشحونةً بطاقات تمثل الوجود في قوّته.

 وتعني السلطات اللغوية العامة سلسلةً من العناوين المرتبطة بقوة الحركة في اللغة و ''سلطاتها'' العرقيّة، والجنس، والرأسمال اللغوي، والسلطة في الصوت، والموقع، والصورة، بالاضافة إلى السلطات المتمثلة بالقراءة والكتابة.

فكيف تتبدّى تلك المظاهر لمحاً سلطويّة؟ وكيف يكون الكلام سلطة؟

 

1 - للغة سلطة الماء

ترتبط اللغة أساساً بالقوة في حركة الكلام، وهي قوة أو طاقة ليّنة، تبدأ بالأصوات والإشارات، ولهذا السبب لا يعرف لها بُعد ثابت. وتشبَّه، في هذا المجال، بالماء من حيث كونُها  ''مجرى لا يعرف الجمود، وكلّما بعُد المجرى عن نقطة الانطلاق، تشعّب إلى مجارٍ صغيرة... ترتفع على ممرّ الأجيال إلى مقام اللغات الأدبيّة القوميّة، فمن يصدِّق، مثلاً، أن الأرمنيّة والإيرانيّة، والروسيّة، والألمانيّة، والإيرلنديّة، واليونانيّة، والانكليزية، على ما بينها من تبايُن واختلاف ظاهر في المفردات، والصرف، والنحو، والأصوات، وأساليب التعبير، هي من أصلٍ واحد وتمثّل مجاري متعدّدةً جاءت من مجرى واحد بدأ في الهند؟.. ومَن لا يعرف أن العربيّة، والعبريّة، والبابليّة، والفينيقيّة، والسريانيّة، والحبشيّة، تمثّل مجاري متعدّدة، متشعّبة، جاءت من اللغة الأم أي الساميّة؟..''(26).

لا تستوقفنا، في مجال هذا الكلام لأنيس فريحة، مسألة نشوء اللغات، بقدر مسألة طبيعتها المائيّة، أي ربطها باللغة المجرى. وهو في ذلك، ربّما، بنى قوله على نظرية جوزف فندريس Joseph Vendryes (27) في اللغة عندما شبَّه اللغات بتكوّن طبقة من الجليد على سطح نهر: ''فالجليد يستعير مادته من النهر، بل بعبارة أوضح، ليس الجليد إلاّ ماءَ النهر نفسِه، ومع ذلك فليس هو النهر. وإذا رأى الجليدَ أحدُ الأطفال ظنَّ أن النهر غير موجود، وأنّ تيّاره قد توقف عن المسير. وهذا خداع! فالماء تحت طبقة الجليد لا يزال يجري منحدراً في طريقه نحو السهل. وإذا تكسّر الجليد، رأينا الماء ينبثق فجأة.. هذه صورة من تيّار اللغة. فاللغة المكتوبة هي طبقة الجليد التي فوق النهر، والماء الذي يتابع جريانه تحت الجليد الذي يحبسه هو اللغة الشعبيّة والطبيعة، والبرودة التي تنتج الجليد، وتبغي احتجاز النهر، هي مجهود النحويين والمربّين، وأشعة الشمس التي تعيد إلى اللغة حريّتها هي قوة الحياة التي لا تُقهر، تتغلّب على القواعد وتحطم قيود التقاليد''(28).

ويرسخ هذا التشبيه معاملة الكلمات والألفاظ والأصوات أجساماً حيّة تنمو وتهرم وتموت وتتجمّد ثم تعود. وكأنّ ضبطها في حيّز من القواعد والأحكام يقيّدها كلَّها ويقف في سبيل مجراها. فإنّ للغة الناس قوة وسلطة ''تجعلانها تسير سيرها المحتّم، فتتجاوز القوانين والأحكام النحويّة، وتبتعد كثيراً عن اللغة''(29). وهذا مؤشّر على اللهجات التي يمكن اعتبارها ''لغات خاصة مختلفة عن اللغة العادية المشتركة أو لغات عاميّة يوجد منها بقدر ما يوجد جماعات''(30).

إذا كنا لا نستغرق في معرفة المنبع الأساسي للّغة، فإنّنا نعتقد أنّ استقراء فندريس أو أنيس فريحة للماء بشكل واعٍ أو لا واعٍ وربطه باللغة، إنّما هو استدعاء لسلطات الماء بوصفها عنصراً أو مادةً من مواد الخلق الكبرى، ومنها انبثقت الدنيا، وهي في ليونتها موصوفة بقوة لا حدود لها في صيرورتها.

إنّنا، إذ نركّز على هذا البُعد المائيّ في تفسير سلطات اللغة، نميل إلى القول إنّ فرقاً كبيراً يقوم بين اللغة، التي هي مجموعة الاجراءات الفيزيولوجيّة والنفسية التي يتمكن بها الانسان من الكلام بمعنى النطق، والألسن التي هي استعمال لهذه الاجراءات عملياً، ما يجعل منها لغةً مكتسبة غير بيولوجية.

 

2 - ''سلطات اللغة العرقيّة''

 قد يفضي الكلام على المجاري اللغوية واختزانها لقوة الماء، ربما، إلى تفسيرات لغويّة قديمة ربطت بين اللغة والاعراق، وكأن اللغة لسان مميّز، ويوصف بمثالية مطلقة تفرض نفسها على جميع الأفراد في مجموعة واحدة. قد لا يوجد شخص واحد يتكلّم اللغة كلّها بمعناها المثالي لأنّ اللغة المثالية الكاملة فكرةٌ نظريّة غير موجودة حتى ولو بحثنا عنها لدى العرب المثاليّين أو حتى في القرآن الكريم.

فماذا نعني بسلطات اللغة العرقيّة، إذاً؟

يجد الباحث إشارات قديمة، تربط بين اللغة والجنس تدليلاً على سلطات اللغة العرقيّة، إذ تختلف اللغة باختلاف الناطقين بها، وفقاً لأعراقهم وصفاتهم البيولوجيّة. فلغات مجعَّدي الشعر تختلف عن لغات مالسيه، ويختلف مستطيلو الرؤوس في لغاتهم عن مستديريها. ولقد استفاد من هذه الإشارات السياسيون الدوليون، ففرقوا بين اللغات الهندية - الأوروبية واللغات الساميّة والحاميّة. وقسمت الشعوب إلى أصحاب لغات راقية، أو متخلّفة، قاصرة عن المعاصرة أو غير قابلة للتطور. وقد نجد دعائم لهذه النظرية في أدبيّات وأفكار بعض اللغويين في ألمانيا(31).

وقد نجد مدى تأثيرات هذه النظرية عبر الأحكام التي توصَم اللغات بها، ومنها اللغة العربيّة، بأوصاف وتهم تجعلها عاجزةً وضعيفة، مثلاً، عن مجاراة العصر، أو تعاني الشح في مصادرها أو طرائق تحصليها. وتخضع لرواسب، وتصنيفات وأفكار عرقية من هذا النوع لا تستقيم علمياً. تُعتبر هذه النظرة مرفوضة لأنّ فرداً ينمو لدى شعب غير شعبه الأصلي يكتسب لغته، وإذا احتاج تعلّم لغة شعبه، فتجربة من المراس الشاق والطويل تنتظره. وقد نجد لغات في التاريخ، فرضت نفسها على الشعوب الأخرى، مثل الإنكليزية، والفرنسيّة، والعربيّة، وأجاد ناطقوها  مثل أهلها دون أيّ اعتبار لمسائل مثل الجنس، أو اللون، أو العقلية لدى هذه الشعوب المختلفة(32). وإذا ما قصّرت لغة في صهر المفاهيم والمصطلحات، فليس لقصور فيها، بل في سلطاتها، ومواقعها، وقدرات أهلها، وقصورهم يأتي مصحوباً بتحدّيات لغويّة أخرى تعكس سلطات وقوى شعوب أخرى في التاريخ.

 

3 - سلطة الكلام

يُعتبر الكلام شكلاً عظيماً من أشكال تجليات السلطة في حدّ ذاتها. وتؤكد ''الكلمة'' من كَلِمَ ما ينطق به الانسان وتتضمّن معنى الوعاء الذي يحوي الفكر. وإذ نجد الجذر الثلاثي ''كَلَم'' بمعنى جرح أي الشق أو نتيجة ما تشطره الشفرة في شيء جامد أو حي، فتؤثر فيه تأثيراً بارزاً كجرح أو شق. والكلوم مرادف للجراح، والكلمة لا تكون كلمةً إنْ لم تكن قاطعةً قطع الشيء الحاد، فاصلةً، فاعلةً، نافذة.. (33)، وكلُّها من صفات السلطة.

يعيدنا هذا التلميح بقوة الكلمة مجدداً إلى سلطة فن الكلام أمام الناس، أي فنّ الخطاب الشفاهي، بهدف الإقناع، والمجادلة، والتصويب، أو لتقديم الأفكار، وعرض المعلومات، بهدف تأكيد البلاغة الاستعراضيّة. وإذا كان الكلام الارتجالي قد تراجع في قوّته الشفاهيّة لمصلحة المكتوب، فإنّه بالمعنى المعاصر يبدو أسير الوسائل الإعلاميّة المعاصرة التي أودت بالخطبة ذات الشكل القديم المحقّقة لسلطات الشفاهيّة أو الكتابة.

''إنّ كثيراً من النصوص كان يُقصد منها أن تلقى أمام جمهور على لسان المؤلّف نفسه في الأساس، حتى عندما يكون قد أنشأها كتابةً.. كذلك كانت القراءة [تتمّ] بصوت عالٍ أمام العائلة ومجموعات صغيرة أخرى ما تزال شائعة إلى أن جعلت الثقافة الالكترونية مثل هذه المجموعات تلتف حول أجهزة الراديو والتلفاز، بدلاً من الالتفاف حول أحد أعضاء الجماعة''(34).

وبعدما كانت اللغة تركز على حمل الأفكار والمفاهيم وطرائق التعبير، فإنّها تكاد تنحصر في الاتصال وظيفةً محوريّة لها(35) مستخدمين الكلام المباشر الوسيلة الأهم، نستخدمها لنشارك الغير ومن دون أن نسقط من الاهتمام الفروقات في الاستخدام بين شخص وآخر أو بين ذكر وأنثى.

لقد أوجد الكلام كجسد مقروء محور اهتمام علم النفس التحليلي. فالانسان لا بدّ أن يكبت أو يتسامى كي يصل إلى الثقافة واللغة والتحقق، كما أن الكلام يتّسع ليشمل الجسد المتحرك الحر، فلا يعود الاتصال محدوداً وحسب بالكلام بل بالجسد في كلّيته. وبهذا ''توازي الطبقة العاملة اللاوعي حيث نجد الأخلاق واللغة مسائل غير قمعية مقابل الطبقة ''الراقية ''ويوازيها الأنا والأنا الأعلى، ولهما لغتهما أو سلطتهما المستمدة من انضباطيّتهما وتاريخهما...''(36).

وتصبح العلاقة بين الكلمة وما ترمز إليه تشابه العلاقة بين الأب والطفل في انتقال لأسطوريّة اللغة التقليديّة حيث الشروع بالكلام هو توارث التحقيق الاجتماعي للمتكلم. ''وتقوى سلطة الكلام بالحرية الخاصة بالأطفال أو بالمحرومين من الكلام اجتماعياً الذين يكتسبون سلطة خاصة لدى التعبير... ليوصم كلامهم أحياناً بأنه كلام مجانين. ويتخذ كلام المجانين صفة رمزية تشغل محور اللاوعي إلى درجة أن سلطة الكلمات بلغت حدودها القصوى حين اعتبرها لاكان حاضنةً للأشياء''(37).

نستنتج أن ممارسة علم النفس التحليلي، مهما تشعّب، ''تؤكد سلطة الكلمات في التحليل حقيقة لأن الطرائق التي يتمّ فيها الكلام من حيث حلحلة العقد، وانتفاء الشلل، ووضع حدود للأمراض تجعل كلّها من سلطة الكلام حقيقةً باهرة''(38)... وتصبح اللغة شرطاً من شروط اللاوعي  ''تحدد سلطات الكلمات في الوقت نفسه الذي تُحدد فيه جدواها أي الذاكرة وذاتية المتكلم والعلاقات الناتجة عنها..'' (39).

لقد شغلت المسائل اللغوية تاريخ التحليل، لكنّها انفتحت على قراءات السلوك والتقلصات العضلية المصاحبة للكلام. لذا نحن نخرج مثلاً من اللغة التي تتحول إلى دواءٍ في تجسّدها الكلامي لندخل عصراً حافلاً بالتحليلات والمعالجات العصرية القائمة على إزالة التوتّرات عن طريق الاتصالية المبسطة، فتزول المشاعر والأوهام والتصورات القديمة لمصلحة الحرية في الكلام وقبوله والحركات الحرّة، وكل ذلك بهدف إعادة اكتشاف الطاقة الاتصاليّة أو اللغويّة خارج دوائر العلاج النفسي.

وهكذا توغل اللغة في قيمتها، مهما كان شكلها، لأنّها مرآة قوة الشخصية في تحليلها. وإذا كان التحليل النفسي، في هذا المجال، قد أهمل مستويات اللسان في التعبير أو الكلام، واكتفى بما يقدّمه المحلَّل(40)، فإنه تغافل هنا عن مسألة مهمة نقترح تسميتَها بالرأسمال اللغوي أو المستوى اللغوي الذي يفرّق بين أحدٍ وآخر، ويكون وجهاً من وجوه متغيِّرات التعرف إلى الشخصيّة في قوتها وحدودها وسلطاتها الثقافية.

 

4 - سلطة ''رأسمال'' اللغة

 تبدو اللغة تكراراً، إنساناً في حالات اتصاله الشفوي أو الكتابي، ويأتي الخلاف في تقييمها عند ربطها باللغة القومية أو اللغة الأم أو بغيرها من اللغات، فتختلط الألسنة والكلمات وتتنافر في وظائفها واستعمالاتها، تضعف أو تقوى وفقاً للإزدواجيات التي لها دورها في تحقيق مظاهر السلطة أو عدمه.

وإذ لا تكاد تسلم لغة من موروثات الازدواجية، فإن معنى الكلام قد اتّسع في إطاره الألسني حتى بات يشمل كل تعبير لغوي صادر عن منشئ أو متكلِّم واحد أو أكثر في موضوع واحد أو أكثر. هكذا نفهم معنى التسميات: كلام السياسيّين، كلام المعلّم والصحيفة أو التلفزيون والناس والشعراء والأطفال والمجانين سواء كان التعبير المقصود شفهياً أم كتابياً، وسواء كان عادياً أم فنياً.

وغدت اللغة سلطة تستعمل قوة اجتماعية أساسها مستوى التعلم. وتظهر واضحةً مستمدة من بنية الحقل اللغوي الخاضع لعلاقات القوة اللغوية في توزيع غير عادل للرأسمال اللغوي. وهذا ما يتجلّى في بنية أساليب التعبير التي تعيد إنتاج الكلمات بما يفصل موضوعياً بين شروط وجود المتكلمين. و ''يجب التمييز، في هذا المجال، بين الحصيلة اللازمة للإنتاج اللغوي العادي أي الكلام القريب من الشرعي والقانوني، وبين الحصيلة التعبيرية المحصّنة بكل الينابيع الموجودة في الكتب الأدبية والنحوية والمعاجم اللغوية.. وهي ضرورية للمساعدة في إنتاج خطاب يستحق النشر كي يصبح رسمياً.

يؤلّف هذا الانتاج مثل الصور والكلمات والأنواع والأساليب اللغوية سلطةً، ويُشار إلى كاتبها أو قائلها صاحب سلطة على اللغة وعلى مستعملي اللغة من العاديين، كما على حصيلتهم اللغوية الضعيفة''(41).
وهنا لا بدّ من التمييز، أيضاً، بين واحد وآخر، وبين ذكر وأنثى في النظرة إلى هذه السلطة.

 

5 - سلطات الصوت والمكان والجنس

من المفيد الربط بين طريقة التلفظ أو الصوت في التفريق بين الأنوثة والذكورة. وقد يكمن بعض الرجولة أو سلطتها في قوة النبرة، ويظهر الكلام دليل قوة وإفصاح فنفرّق ''بين الفم المغلق الحاد المشدود والموضوع دائماً تحت المراقبة كالفم الأنثوي مقابل الحنك(42) الحرّ المنبسط منبع العنف الكلامي وقوة التشدّق، ومعه يتحوّل الشدق، إلى محور الشخصية أو الهوية الاجتماعية للشخص، ولهذا كلّه علاقة بالجنس والقوى الجسدية وصورة المرء عن نفسه''(43).

يمكننا اعتبار الصوت ملكة ذكوريّة، لأن الأنثى ما خضعت عموماً بالمعنى التاريخي للتدريب البلاغي القائم على الشفاهية الذي كان الأولاد يتلقونه في المدرسة، ومع أن أسلوب الأنثى كان أقلّ شفاهيّةً من الناحية الشكلية من أسلوب الرجال، فإن نتائج لا بدّ أن تترتب على هذه الظاهرة التي تثير أفكاراً ودراسات جديدة كبيرة الأهمية. وإذا ما افترضنا بأن الأسلوب الذكوري، عربياً، يميل إلى المحادثة الموشّاة بالجهر أو الخطبة التي أرست بفصاحتها مؤسّسات وأحزاباً ودولاً، فإن الأسلوب الأنثوي يبدو أسير المحادثة أو الهمس أو الصمت... البليغ.

قد يورث هذا الافتراض فجوات عملية كبيرة في ما نذهب إليه من سلطات اللغة على مستوى الجنس، تفترض في المقابل العناية بدقة بتحولات اللغة من الشفاهية إلى الكتابة النسخيّة إلى الطباعة، فعودة إلى الشفاهية في عصرنا الحاضر، ولأننا قد نجد نتائج مناقضة لما نحن فيه. قد تنتفي سلطة الصوت ولو  ''أظهرت الحواسيب المزوَّدة أصوات ذكوريّة تقديراً وهيبةً يفوق تلك المزودة أصوات أنثوية، بحيث حكم على الأولى بعلاقات الكفاءة والقوة في مجال التقنيات، وحكم على الثانية الأرجحية في العلاقات الإنسانية والحب''(44). ويمكننا الافتراض أن سرعة في التعبير، أو هدوءاً في الأصوات تفرضها الأجيال الاعلامية في لبنان والعالم، ترسّخ أسلوب ''الحنك'' المرتخي في طرائق التلفظ، ما يؤلف طبقة اعلامية جديدة، تنزاح معها سلطة الصوت إلى مسائل وسلطات اعلامية أخرى.

ويعني انتفاء سلطة الصوت بمعناه الفيزيولوجي(45)، بطلان الكلام، أن يصبح انتاج صوت أو علامة جاهزة للانتقال أو للاستقبال، بل يصبح ''فضلة القلب''(46) تتأرجح سلطته في مستويات متعدّدة تنبئ بالوجود، وتعتبر دليلاً ثقافياً يختلف بين الأفراد والجماعات. ومهما اختفى الصوت فإنّه لا يصل إلى الدرجة التي لا يعود فيها تعبيراً جسدياً يظهر قدرات تتجلّى في النبرة الجريئة والحازمة والعميقة أو الضعيفة إلى جانب موقع المتكلم الذي يوحي بالتوصيل والتأثير أي السلطة التي تؤمن نجاحه''(47).

يعتبر الصوت تحقيقاً شكلياً لتقنيّات الجسد في تحويل اللغة إلى كلام. وإذا كان الكلام يفترض قدرةً لغوية ليست مؤكدة دائماً، فإنّ الصوت قد يغلّف في حضوره وسلطته أية رطانة أو ركاكة في التعبير. ولربما يفوق هذا الغلاف المضمون في ممارسة حضوره إلى حد بعيد.

وتعتبر القدرة الصوتية البُعد الجسدي الخاص الذي يعبِّر فيه المرء عن شخصيته الاجتماعية، وهي قدرة قد يمكن ربطها بطبيعة اللغات التي تفترق بين خشنة أو ''مدلوكة'' من حيث إنتاجها في حيّز جغرافي محدّد. وليس جديداً القول بالفروقات بين أصوات الناس من حيث طرائقهم في التعبير ولهجاتهم التي تختلف بين الأصوات العالية أو المنخفضة. ويمكن القول إنّ ارتفاع نبرة الصوت أو انخفاضها هي سلطة في كلتي الحالتين للمتكلم، تختلف باختلاف الجمهور. إنّها ثقافة متحوّلة دائمة التحوّل.

للمكان أثره في اللغة وفي الكلام على السواء، إذ يقوى الصوت وينخفض وفقاً للمساحة؛ والمقام يحدد علو الألفاظ أو انحدارها. وتختلف لغة الصحراء عن لغات سكان المناطق الزراعية أو الصناعية أو السياحيّة أو الإلكترونية. فالعربي مثلاً في الصحاري مثل غيره من الشعوب يبدو غليظ الأصوات خشن الألفاظ ويتطلب كلامه قدرة عضلية - ما زالت تفترضها أسس الخطابة - حتى يتضح صوته في المدى إلى ما يريد ومَن يريد.

أليس مجمل مؤلَّفات السياسيّين ورجال السلطة في لبنان والعالم العربيّ مجموعات من الخطب والأقوال الحرّة والتصريحات المختلفة، أي ثقافة شفاهيّة محكومة بقوّة الصوت؟

لقد انزعج النبي العربي من نبرات أصوات العرب العالية حين أتوا إليه إلى المدينة، فطالبهم القرآن الكريم بخفض الصوت احتراماً للهيبة: ''يا أيُّها الذينَ آمنُوا لا تَرْفَعوا أصواتَكم فوقَ صوت النبي، ولا تجهَروا له بالقول، ليجهر بعضكم لبعض''(48).

للعاصمة أو المدن سلطات لغويّة تكمن، إذاً، في انخفاض الأصوات، وحين تتجاور اللهجات الخاصة في المدن الكبرى والقرى المجاورة لها، تزيد درجات التأثر والتأثير وتختلط اللهجات، ويحاول سكان القرى التخلّي عن خصائص لهجاتهم وتقليد لهجات المدينة، لأنّ حضارة أهل المدن وثقافتهم ونفوذهم وسلطانهم تدفع الريفيّين إلى رغبة ملحّة في تقليدهم، وغالباً ما تصهرهم وتذيب لهجاتهم وأصواتهم. وغالباً ما تتخذ لهجة المدينة بروزاً يجعلها تسيطر على باقي اللهجات الوافدة.

وقد لا تنتهي الأمثلة التاريخيّة والمعاصرة في صراع اللهجات المكانيّة: نجد أن محكيّة بيروت قد خرجت من حليتها الأساسيّة بحيث لم تعد، مثلاً لهجة ''البيارتة''(49)، بل أمست محكيّة المدينة وأدواتها التواصليّة... مطبوعة بانفتاح تعبيري وليونة صوتية بفعل الاحتكاكات اللغوية اليومية التي كانت بيروت مسرحاً لها حيث أدى الاختلاط اللهجي إلى تقاربات لغوية... قامت على حساب الخصوصيّات المحلية الضيقة... وأفسحت المجال أمام منطوق ذي سمات بيروتية مخففة متقاطعة مع سمات جبليّة وجنوبيّة ملطفة... ولفيروز والرحابنة دور ملحوظ في تحوّل الأذن البيروتية إلى اللون الجبلي المهذب.. إذ استخدموا منطوقاً لا يغرق في المحلية، يفهمه سواد الناس، ويقبله البيروتيّون... فاللغة التي أنتجوها هي لغة متصالحة مع المدينة... مركز التفاعل اللهجي وتشكّل الفضاء الثقافي الاجتماعي للمدينة(50).

وإذا كنا لا نعرف ما الذي تفضي إليه هذه اللهجة البيروتية من سلطات حتى الآن تتوزع بين قوة اللهجة الخاصة بجبل لبنان أو كسروان الطاغية في وسائل الاعلام أو لهجة الشيعة في الجنوب رمز القوة في الصراع العربي - الإسرائيلي، والذي لم ينعكس حتى الآن على قوة لهجتهم، فإنّ أمثلةً أخرى مغرقة في التاريخ تشير إلى القرشيّة التي برزت لغةً عامة بين العرب انطمس معها معظم لهجات القبائل العربية قبل الإسلام لتحقق النفوذ السياسي والاقتصادي والديني لها.


6 - القوة السياسية اللغوية

يقودنا هذا إلى ذكر اللاتينية التي غدت لغة إيطاليا المشتركة والغرب بأسره، وكانت محصورة في روما أولاً. وكذلك لهجة فلورنسا في إيطاليا التي صارت لغة إيطاليا. وقد أصبحت الباريسية، كذلك، لغة فرنسا والفرنسيين، خرجت من العاصمة ومن طبقة راقية معيّنة، واستقرّت في القرن التاسع عشر وسلّم بها القصر ثم الأقاليم وكبار الكتّاب وكأنّ ليس فيها أثر للهجات... وإن عدم خضوع الدولة لنظام سياسي واحد يضع الصعوبات في طريق التوحد اللغوي مثل ألمانيا التي ظلّت قروناً ولايات مستقلةً سياسياً، ومن دون عاصمة، ما عرقل ظهور لغة المانيّة عامة... وتدين الألمانية المشتركة في نجاحها إلى مارتن لوثر وترجمة الكتاب المقدس وتبدو آثار اللهجات المحلية فيها ظاهرة(51).

لقد ناقش سوسور علاقة اللغة بالمساحة والمدى، ورأى أن اللغة لا تحدّدها المساحة، بينما تحدّد اللغة مساحتها. وتصبح اللغات واللهجات خارج الحدود الطبيعية للدول والشعوب. تجعل هذه الفلسفة من الدينامية الداخلية للغة المبدأ الوحيد لتحديد انتشارها، وذلك بفضل الوحدة السياسيّة بحيث أن المتكلّمين يجدون أنفسهم قابلين للغة الرسمية(52).

وتصبح اللغة الرسمية، المعترف بها والمعروفة من قبل السلطات السياسية، أمراً يساهم في الواقع، بتقوية هذه السلطة التي تؤسس لسيطرة اللغة. السبب أنها توفّر بين أعضاء المجموعة اللغوية علاقات تدخلهم في المنظومة نفسها من إشارات وعدة اللغة بما يحقق لهم شروط الانتاج الاقتصادي والسياسي والسيطرة الرمزية. لا تكتفي اللغة بقوتها المباشرة بل بقوة قومها السياسية التي تضم المساحة المتنامية، تنطلق من الموقع الخاص لتطال مواقع الأمّة والدولة.

ترتبط اللغة الرسمية بالدولة في تكوينها أكثر مما هو في استعمالاتها المجتمعيّة، لأنّ في تكوّن الدولة تولد الظروف المكونة للغة الموحّدة التي تشرف وتسيطر عليها اللغة الرسميّة. إنّها لغة اجبارية، مبدئياً، في المناسبات الرسمية والمؤسسات والمساحات الرسمية. تصبح هذه اللغة لغة الدولة أو المعيار النظري الذي تُقاس بموجبه كل أشكال اللغة واستعمالاتها. ولا يستطيع أحد الادّعاء بأنه يجهل ''القانون'' اللغوي الذي له مواده في الدساتير، ومحاموه، والمدافعون عنه، وله أيضاً لغويّوه، ومؤسّساتهم اللغويّة المراقبة، ومعلِّموه المزوَّدون سلطة عالية لخضوع المتعلّمين للامتحانات أو المرافعة القضائية، وغيرهم.

ويُعتبر الانخراط في مجموعة لغوية واحدة، أنتجتها سيطرة سياسية أو غيرها، الطريق إلى فرض الاعتراف العالمي باللغة السائدة، والشرط الأساسي لإقامة علاقات السيطرة اللغوية.

تحمل اللغة إذاً سمات المجتمع الذي تكون عليه الدولة في السياسة والاقتصاد والتعليم والدين أيضاً. فالسلطة اللغوية في الأنظمة الديمقراطية هي غيرها في الاقطاعية أو الاشتراكية، واختلاف السلطة، يتبع اختلاف النظرة إلى الفرد في مجتمع ثوريّ أو غير ثوريّ، وينعكس الأمر على المعاهدات والمعاملات بين الناس والدول.

وقد يجرد الحكام والسياسيّون أحاديثهم العامة في مختلف المناطق من المظاهر الصوتيّة والمعجميّة وغيرها مما يخص اللهجات المحليّة أو العرقية أو المناطقية، حتى ولو كانوا من أبنائها ليكون ما يوجه إلى الشعب مفهوماً لدى الطبقات الاجتماعيّة كلّها. هكذا تكون اللغة العامة خلواً إلى حدّ كبير من خصائص اللغة الرسمية.

 

7 - أهميّة الموقع

يمكن اعتبار المرسل والمتلقي والمرسلة عناصر ثلاثة أو مؤشرات نسيج من السلطات الاتصالية اللامحدودة. ولا يتمّ هذا الأمر إلا بالنظر إليها وقائع لا تنتهي متغيّراتها وتأثيراتها التفاعلية حتى في تحرير المعلومات المجردة أو المنزّهة عن أي جارف ذاتي (وهي مسألة نادرة).

ولقد صنفت وسائل الاتصال وفقاً لدرجة انتباه الأفراد إلى مجموعة من المستويات(53)، لنبدأ بأشدّها تأثيراً:

أ  -  الحوار أو الحوار المباشر وجهاً لوجه بين شخصين.

ب - المناقشة أو الحديث المباشر وجهاً لوجه بين مجموعة يلتقي أفرادها بشكل رسمي.

ج - المناقشة والحديث المباشر وجهاً لوجه بين مجموعة يلتقي أفرادها بشكل ودّي.

د - الاتصال الهاتفي.

هـ - السينما الناطقة.

و - التلفاز.

ز - المذياع.

ح - التلغراف.

ط - الرسائل والخطابات الشخصية.

ي - الرسائل والخطابات الرسمية.

ك - الصحف.

ل - الاعلانات.

م - المجلات والكراريس.

ن - الكتب.

ص- الإنترنت

 

لقد تغيّرت، بالطبع، تراتبية هذا التصنيف من حيث استمرارية صحته، بفضل ما تفرضه مقتضيات الإعلام المعاصر، والتقنيات السريعة، لكننا نثبتها للتأكيد على سلطات المواقع في الاتصال، وعلاقات السيطرة التي تحكمه وتمنحه بنيته. لا تكمن القوة في صفات المتكلم وقدراته أو في الكلام وحسب، بل أيضاً من الموقع الاجتماعي والمؤسساتي الذي يعزز سلطة القائل. ''تُستمد سلطة الكلام من المواقع التي تمنحه قدرةً تنفيذيّة (القضاة) وتقوى هذه السلطة بقوة المؤسّسة، فتصل في اللغة العربية مثلاً إلى الله وتتدرج إلى الملك والحاكم نزولاً فالناطق الرسمي أو الحكيم أو رجل الدين والشيخ والحزب والطبيب...'' (54). والموقع هو الحق بالكلام الذي يصبح الكلام الحق... لذا فإن غياب الموقع يجعل اللغة تلوذ في كلامها بالشكل والأدب والفنون الخطابية... ''والموقع هو منبر أو مساحة ليست لكل الناس وقد لا يرتادها العاديون... والمنبر مساحة سلطة'' (55)، تفصل بين حقلين اتصاليين تحددهما مساحة مشتركة وفروقات، تجعل من اللغة لغةً أخرى في عمليات الاتصال. ويعني الموقع من جانب المرسلة المعرفة إذ يتكلم رجال الدين باسم الله يمثلونه على الأرض، بينما يتكلّم رجل السياسة في مخاطبة الجماهير باسم الدولة أو الطبقة الاجتماعية الحاكمة أو الحزب، والمعلم يحاضر باسم الجامعة والمدرسة أو المؤسّسة التربوية. وتختلف نظرة المتلقين إلى المواقع المتعددة باختلاف الثقافات والقدرات الشخصية التي تفرز علاقات مساواة أو دونية وخضوع أو علاقات تشاوف واحتقار.

كان يكفي امتلاك المعرفة للحظوة بالموقع والوجاهة التي هي محصلة السلطة(56). ولأن الكلام هو صورة المتكلم لا يدركها ولا يتلمس سلطاتها السحرية في خلق الصور إلا من امتلك الكلام، كانت المقولة التي تساوي الكلام بالسلطة منذ تحلق الأطفال حول مائدة الطعام لا يتكلمون بسبب سلطة الأهل، وصولاً إلى طاقات المحادثة التي هي صراع قوى تحتمل النصر والهزيمة بالمعنى الاجتماعي، لأنّ من لا يعرف استعمال الكلام يبقى مشلولاً اجتماعياً(57).

 

8 - سلطة السر

تكمن قيمة المعرفة، إذاً، قبل كل شيء في السيادة التي يمنحها إياها مَن يملكها. ويلجأ مالك المعرفة إلى تحقيق سلطته بالإبقاء على نفسه مليكها الأوحد مقابل مَن لا يملكها والذي يسعى جاهداً في الحصول عليها (58).

تكمن قوة السر في كونه عدم اتصال وهو أمر ضروري في نظريات الاتصال ونجاحه حيث ضرورة حجب المعلومات الإرادي أو نشر المعلومات الكاذبة (الدعاية) الملفتة والمحركة للرأي العام. ويحفظ المعرفة والمعلومات من يملكها وفقاً لاستراتيجيات سلطوية متعددة، أبسطها ألاّ يفصح عمّا يعرفه، أو يعلن أن سرّاً لديه لن يعلنه قاصداً بذلك استثارة حشرية ورغبات الآخر، أو أن يكون هذا الآخر متلقياً معدماً جاهلاً أو مجانباً كلياً وجود سر إلى درجة الجهل أو التجاهل.

في ضوء هذه الإشارة إلى علاقات المرسل بالمرسل الآخر الذي كان متلقياً نرى أن العملية الاتصالية تأتي محاصرة دوماً بالأسئلة الثلاثة التقليدية التي تركز على أبعاد المكان والزمان والانسان أي الأسئلة المحصورة بـ: مَن؟ أين؟ متى؟

وتكاد سلطات السر تتمحور في السؤالين اللذين ينبثقان من الثلاثة الأول كي تكتمل العملية الاتصالية وهما ماذا وكيف؟ أي قص الأحداث والآثار التي أحدثتها.

وتبرز وفقاً لهذه الأسئلة علاقات التقارب بين السلطة والاتصال والاعلام سواء أكانت السلطات سياسيّة اقتصاديّة أم دينية، فتقطع البشرية مسافة كبرى من حصرية المكتوب، وربط الكلام بالوجود، وفرض القناعات والخطاب والانتشار حيث انحصرت السلطات قديماً في الكنيسة (ورجال الدين عموماً والمحاربين) كواسطة لجمهور عريض من المؤمنين يوصل إلى الرأي العام ما يحبذه بشكل عام(59).

''وباتت السلطة، إذاً، محصورة في الكلام على هبة اللغة ... إنّها جسد طيفي لكنّها جسد... يطبع شخصية المتكلم والكاتب.. وتؤخذ الكلمات في مجمل الصورة الحسية التي تلتقط الموضوع فتشحن أصحابها بقدرات وسلطات مميزة.. كانت أساساً للأنبياء والمفكرين''(60).

قد يصل السر في قوته وسلطته إلى مستوى الإبهام الذي هو سلطة أخرى تهدد الخطاب بالفشل إن لم يصدر عن صاحب السلطة أو من له سلطة الخطاب. فالكلام المصاحب بمظاهر السلطة مثل اللباس والديكور الخاص والوقت هي لغات شكلية في حدّ ذاتها تسعف السلطة الخاصة باللغة الرسمية. وقد يظهر الآخر معرضاً عن الفهم أو الاستيعاب. وإذ ينزل الكهنة ورجال الدين من الهياكل والجوامع، مثلاً، بلباس سلطوي متميز أو يحصّن الموقع بمظاهر الأبّهة والعلوّ، فكلّها من تقنيات اكتساب السلطة تجاه الآخرين، وتصب بكثافةٍ في سلطة الكلام الذي يسمعه الآخرون من دون أن يفهموه ومن دون فقدان السلطة بسبب الابهام. قد تبلغ هذه المظاهر أقوى تجلّيها في النصوص الدينية، صاحبة السلطة المطلقة التي تفرض الاعتراف بها سواء أكانت مصحوبة بالفهم، أم غير مصحوبة به، شرط قولها في مكان وظرف شرعيّين، يسهل الاعتراف بها من المؤمنين في العراء، الشاخصين إلى رجل الدين أو السياسة أو غيرهما.

والواقع أنه ''منذ الأساس، كان هناك تناغم بين مصطلحَي السر Mysterium، والوزارة (كسلطة) Ministerium، حيث الكلام الحق هو قوة الكلام، ولا سلطة رمزية دون رمزية السلطة. ولا توجد اللغة - السلطة إلا في بلاغتها ونموّها وتركيبها وأسرار قائلها والثقة به وفي لباسها أيضاً''(61).

تقوى الكلمات باللباس، إذاً، يُمنح صاحبها هيبةً ووقاراً، فيلبس القاضي ثوباً خاصاً به، مثلاً، ومثله المحامي، ورجل الأمن، وإذ ذاك تقوى السلطة وتتكامل، من خلال ما هو ظاهر في التعبير عن الهوية، والحضور أمام الاخرين: وحينما ينزع رجل الأمن لباسه الرسمي يفقد هويته الاجتماعية وسلطته المتكلمة باللباس أي انه يفقد جزءاً كبيراً من هيبته(62).

 

9 - سلطات ''المتلقّي''

نكاد نخرج من هذه المفاهيم التقليدية للسلطات الاتصاليّة، وتفاعلية عناصرها، وذلك بفضل تقنيّات الاعلام المعاصرة، حيث انقلبت الآية وبات العالم أسير علاقات جديدة بين الإرسال والتلقي وتجليات السلطة المعرفية واللغوية.

ونلحظ من ناحية نمواً ملحوظاً للتفاعل بين المرسل والمتلقي إلى حدود، قد تسمح لنا، بالتعديل من مصطلح المتلقّي وتسميته بالمرسل الثاني. كما ان مجموعات المتلقّين الذين كانوا مرتبطين بمرسل وحيد يبث عبر وسائل متعددة في اتجاه واحد، غدوا وكأنهم متلقّ واحد تتمحور حوله المعلومات، وتتكدس، تمدّه بها المصادر، بالطبع، وهو صاحب السلطة ''الوهميّة'' في التلقي. إنّه المرسِل والمتلقي في آن أو هو طالب معلومات أكثر منه منتظراً لها(63).

لقد بدت هذه التفاعلية ضرورة للعصر الذي يسقط مجمل الصفات السلطوية والنظريات التقليدية التي تقسم العالم معرفياً، في تقدم ملحوظ يقرب المسافات كثيراً بين المرسل والمرسل إليه. ولم يعد السؤال: بماذا تؤثر وسائل الاعلام على الناس بقدر ما هو عمّا يفعله الناس في تعاملهم مع هذه الوسائل.

وإذا كانت الإجابة الاعلامية عن سؤال مطروح من هذا النوع قد استشرفت تشابهاً وأحادية، بفضل تقنيات الاتصال، بين ثقافات الشعوب وهذا يعني سقوط الامتيازات الثقافية وتعميم الفكر والمعارف والانقياد لثقافة الشعب الذي يزاحم الثقافات الأكاديمية والنخبوية والمميزين وكلهم يمثلون السلطات المختلفة(64)، فإنّ الإجابة الأساسية عن هذه المسألة قد أخذت أسسها، قبل الاعلام، في الآداب والفنون، من حيث أنّها شدّدت على الإيصال بصرف النظر عن الوسيلة أو الفكرة.

لقد شغلت مسألة الاتصال في الأدب والفن والفكر الجميع، وكان الأساس فيها أن الاتصال لا قيمة له من دون إيصال، حتى أن الإيصال ما عاد هدفاً للغة أو وظيفة وحيدة لها لأنّ ''النص لغة وهو انتقال محدَّد ومقصود، في الوقت نفسه، يجعل من الأسلوب لغة ثانية داخل اللغة العامة... ولو كان الايصال هو المعيار، فإن لغة الحياة اليوميّة تصبح خارقة للمألوف، وتنافس اللغات الابداعية..''(65)، وفي هذا الأمر فصل ''بارت'' بين عفوية اللغة وإبداعيتها. وهو يرى أنّ  ''لذة النص هي تلك اللحظة التي يتبع فيها جسدي ذات أفكارهن وذلك لأنّ ليس لجسدي الأفكار نفسها التي لي..''(66)، أي أن تبادليةً تقوم بيني كقارئ وبيني كمبدع.

وساعد هذا الانزياح Déplacement أو الانتقال في تأسيس وظائف الأدب والنصوص على الفهم والإفهام، أو علاقات الكاتب بالقارئ. وعمّم هذا الانزياح بأشكاله المختلفة ليطول مسائل الاتصال بأشكالها المختلفة أيضاً، بحيث ''انتهى دور الكاتب مرسلاً، كما انتهى دور الأخبار، وتحوّل المتلقي إلى قارئ منتج للنص في الوقت نفسه، به ''تنتهك اللغة وتتفجر لتبوح عن مكنوناتها بما يضفيه عليها هو من إمكانات تأويلية''(67).

وندخل هنا في ما هو أهمّ بكثير من عناصر الاتصال أي التداخل في ما ينتج عن الإتصال حيث ضرورة أن تكون المواد المرسلة قابلة لحل الترميز، أي أن تكون هناك لغة مشتركة بين الاثنين لا لغة وحسب.

 

10 - سلطة الصورة

ولا يخرج البحث في علاقة المتكلّم بالمستمع، والكاتب بالقارئ، عن مسألة تبادل الصور الذهنيّة كعمليّة أساسيّة في الإيصال. وإذا كان للفكر واللسان والكلام والحصيلة اللغوية والصوت من مواقع تمنح اللغة بعض مظاهر سلطاتها العامة، فإنّها سلطات تصبّ في مجموعها، من التأثير في الآخر عبر الاتصال به. وهذا التأثير هو في حد ذاته اختصارات لوقع الصور المتبادلة بين إثنين، واضحة أو مبهمة.

يمكن اعتبار الصورة سلطة أساسية في التعبير خرج منها الشكل اللغوي المتنوّع والمتعدّد في سلم التجريد، وهي تكاد تجذب الأشكال كلَّها مجدداً ناحيتها، في عودة إلى الاتصالات الأولى.

لقد منح باشلار(68) اهتماماً فائقاً لمسألة الصورة وأبعادها وارتباطاتها بالكلام فرأى، مثلاً، أنّ الكلمات تكتسب في استعمالاتها نطقاً وكتابةً، مع الزمن وتحت تأثير المعاش الفردي والجماعي، صوراً ومعاني مختلفةً. وبها نسترجع مجموعات من الصور الذهنيّة والمشاعر الماضية والآنيّة، والآمال، والمخاوف، وهي تصل إلى أعماقنا حيث كمون الأساطير والرموز الإنسانيّة. وقد صوَّر هذه السلطة اللغوية في قدرتها على إيقاظنا، معتبراً أن الكلمة هي التماعةُ الصورة حاملة الماضي والحافلة بأصدائه، وإذ نتكلم أو نكتب، فلا نعود نعرف في أية أعماق تتخذ هذه الأصداء وهجها أو انطفاءَها. فالصورة الكامنة، إذاً، في الكلمة، هي التي تمنح اللغة سلطتها التأثيريّة الفعليّة(69).

لقد فصّل باشلار في كشفه عن الدور القوي الذي تؤديه اللغة رفضاً في أثناء تكوين العلوم إلى حدّ اعتباره  ''رفضاً مساوياً لها في قوّتها، يخرجها من وظائفها وأغراضها المختصرة بإنتاج الكلمات والأصوات أي الاتصال، إلى ما هو أعمق بكثير. إنها منظومة شديدة التعقيد تفترض معرفة الخارج والعلاقات بين الأشياء والناس، لكنّها تعكس ظلال الداخل، الأمر الذي يجعلها طاقةً داخليّة قويّة''(70) أكثر بكثير مما هي ''لعبة إشارات''(71).

يدخلنا هذا التحليل إلى العبارة التي تساوي بين الصورة الواحدة والألف كلمة، في المثل الصيني، حيث يتخطّى الأمر مسألة التواصل، فيرتبط الفكر بالصوت على نحو خاص، وبطرائق التواصل غير الشفاهية الأخرى كالتعبيرات الجسدية، ونجد أن مئات اللغات المستخدمة اليوم، ما زالت صوراً، لم تُكتب أبداً. وذلك يعني أن التعبير الشفاهي وجد، في معظم الأحيان، دون أية كتابة على الاطلاق. أمّا الكتابة فلم توجد قط من دون شفاهية. وبهذا نفهم أن توسع الكتابة حصر الكلمة بالمكان، وحوّل بعضاً من اللهجات إلى لهجات مكتوبة، واللهجة المكتوبة لغةً تتجاوز اللغة المحكيّة، تكوّنت من خلال وجودها الكامل في الكتابة(72).

وهنا تبرز سلطات الكتابة حيث صعوبة التفريق، أيضاً، بين الصورة والكتابة في اشتقاقهما التاريخي. فما هي سلطات الكتابة؟

 

11 - سلطات الكتابة

 تُلحظ علاقات تاريخيّة تكاد لا تنفصل بين الكتابة والخالق في معتقدات بعض الشعوب ومنهم المسلمون الذين أدركوا السلطات المطلقة في الكتابة. وتربط الدراسات أصل الكتابة بالسحر أو بالوحي الإلهي، فيعزوها المصريّون إلى الإله توت، ويعتقد العبرانيّون أن موسى نقلها عن الله، وربطها الإغريقيّون باكتشاف النار، وكان العلم معناها المخيف كونه مظهراً من مظاهر القوة(73).

وتستمرّ الكتابة، وخصوصاً كتابة الإسم، تعني تسلطاً ما على صاحبه يسوق إلى القسريّة والتقييد، وإمكان رفع المكتوب له أو خفضه، بما يفوق بكثير سحر اللغة أو الكلمات المتلفظ بها. وما ''سلطان'' قارئ الرسائل في المجتمعات القديمة، وأصناف ''الرُّقى والتعاويذ''، وكتابة الحجاب الذي ''يرصد'' الآخر أو يسيطر عليه ثم ''فك المكتوب'' وتحرير مَن كُتب لهم لعتقهم من حالاتهم الصعبة، سوى ملامح فعليّة لسلطات الكتابة.

وغالباً ما يدخل ''المكتوب'' حجةً في النقاش، تدعم آراء المتكلِّمين وحضورهم الفكري والاجتماعي بما لا يحتمل الجدل. ويبدو الكتّاب، وخصوصاً في المجتمعات الشرقيّة، مفتونين بكتاباتهم ينتشون بمشاعر السلطة أو القوة اللغويّة التي تمنحهم إياها الفصحى أو الكتابة أي الفصاحة اللغوية بشكل عام بالنسبة إلى فئات باتت، ربما، محدودةً من اللبنانيين.

لا نقول إن صفات اللغة السحرية مستمرّة في فعل الكتّاب، بل إن مقولات سلطوية، وحالات من الاحترام والخوف ما زالت تفرضها اللغة. وتفترض الكتابة افتراقاً ما عن الكلام المنطوق لأنّنا أعجز من أن نكتب كما نتكلّم احتراماً لظلّ السلطة الكامنة في الكتابة في أذهاننا. وتلك مقولة قد تحتاج إلى نقاش يعطّلها، وهو ما نشهده في سياق البحث. وتفترض الكتابة، أيضاً، تميّزاً عن ''الغير'' في الوقت نفسه الذي نشارك فيه هذا  ''الغير'' ما يحقِّق اللغة المشتركة.

وبسبب من ثبات المكتوب وديمومته مقابل لزاجة المحكي وتغيُّره، فإن السلطات الكتابيّة تبدو ماثلةً مع الكتابة التي تحميها مجموعات من الأصول والتقاليد والقواعد والمؤسّسات.

وقد يكون أفضل الإشارات ''القديمة'' إلى سلطات النص تلك الأنماط الثلاثيّة من العلاقات التي تقوم بين النص وقارئه، والتي رأى أحد المستشرقين أنّها خاضعة للدونيّة والخشوع أو للفوقيّة والتشاوف على النص أو لعلاقة مساوية متبادلة بينهما يُفترض بناؤها على الفهم والتفاعل(74).

ولو ألصقنا بهذه الإشارات صفة القدم، لأدركنا أن هذه الأنماط العلائقيّة بين القارئ والكاتب، مسألة ثقافيّة، مختلفة باختلاف الشعوب، وهي تكاد تنحصر، بفضل تقنيات الإعلام في علاقات مباشرة متصالحة. وتكاد تغيب شكلاً  العلاقة الفوقية والدونية دون انتفاء نهائي للسلطات الدينية للكتابة، كما هو حاصل، مثلاً، في اللغة العربيّة.

 

12 - السلطات في القراءة والكتابة

 تتداخل العلاقة إذاً بين القارئ والكتابة، فلا يعود متلقياً بل متحولاً ومحوِّلاً في النص. ولا يعود النص سجلاً مكتوباً مغلقاً بل ''جسداً'' متحركاً أو لساناً منفتحاً على نصوص دائمة الحركة. لذا فالكتابة نظام يستدعي القراءة، ويتجلى بها. ولا يفصح الإبهام فيه ويتحقق وجوده إلا بالقارئ الذي يحدّد بدوره مصير النص وفقاً لتلقيه له. القارئ، إذاً، دليل يُستدلّ به على النص الذي يكتسب هويتَه بالقارئ، فيظهر في النص واعياً لذاته إذ  ''اجتمع للإنسان أن كان دليلاً مستدلاً. ثم جعل للمستدلّ سبب يدل به على وجوه استدلاله ووجوه ما نتج عنه الاستدلال وسموا ذلك بياناً..''(75).

 تصبح، بهذا المعنى، علاقة القارئ بالنص  ''علاقة ثقافة وتحوّل، ومنافسة واشتراك، واتفاق وتضاد تبعث الجسد وتولِّد اللذة''(76) وتحقق السلطة والموقع.

وتصبح اللغة، على هذا المستوى، نشاطاً خلاّقاً قائماً على أنظمة ثابتة لكنّها مولدة لجمل وصيغ غير محدودة، وبهذا تبدو الكتابة بنياناً لغوياً يتطلب مرجعيات وسلطات تشهد على سياقاتها وملابساتها... إنّها استراتيجيات اللغة وأنظمتها وسلطاتها بما فيها سلطة الكاتب وسلطة السلطة وسلطة الإيديولوجيا وسلطة العلم. لكنّها سلطات نابعة من الحرية أساساً.

وتلازم حرية الكاتب في إنتاج نصّه، حرية القارئ في قراءاته له، وإعادة إنتاجه وإدراكه بما يعدّد التجربة ويغنيها. ذلك لأنّ النص يختزن في بنائه طاقةً تجعله شاسعاً متسعاً للجميع، وهي السمة التي تخرجه من كونه نصاً فردياً واحداً في أساسه إلى نصّ جماعيّ متعدّد.

وتمنح الكتابة في تحرّرها الظاهر من السلطات ما يميّزها بخصوصيّة تجعلها إبداعاً متكرراً خارجاً عن الأحادية، والأجناس الأدبية، أو المعايير اللغوية الأبدية، وهذا ما صوّره رولان بارت Roland Barthes مشيراً في بحثه عن اللغة الإبداعيّة، إلى  ''الروائي من دون رواية، والشاعر من دون قصيدة، والدراسة من غير بحث، والانتاج من غير منتوج، والتركيب من غير بناء''(77). وهو يقصد بالطبع أن النص هو نص ''بتأثيره وليس بمعناه، بما يخرجنا من الرسالة المعنى إلى التأثير والتلقي الفاعل''(78).

هكذا، تدور عملية القراءة في فلك الكتابة، بل هي كتابة بطريقة أخرى، كما الكتابة لا تنفكّ بدورها تدور في فلك القراءة وبطريقة مختلفة أيضاً، وهنا تكمن فعاليّة القراءة - الكتابة، والكتابة - القراءة. تصبح ''قرأ مثل كتب وكل مكتوب هو كتابة ثانية بحدوث القراءة فيها، وكل مقروء هو قراءة ثانية بحدوث الكتابة فيه''(79). ولا نتصوّر أن معنى الكتابة الثانية يتخطّى، هنا،مفهوم النقد أو الكتابة حول الكتابة. لا يتخطّاه، إلا لدى البحث في مظاهر السلطات اللغوية أو السيادة الدينية للّغة العربية في هذه الدراسة أو غيرها، فتبدو الكتابة الثانية تضمّ مجمل الكتابات والنصوص المقروءة والمكتوبة، أو المقالة، والتي هي ظلّ الكتابة الأولى، أي نص القرآن الكريم.

قد تخرج الكتابة الأولى عن إطارها التاريخي المحدَّد لتضم، إذاً، الكتابات السابقة أو اللاحقة بها، ما يعني تجلياً في سلطاتها، فتصبح الكتابة واحدةً والقراءة متعدّدة، ويبطل التصنيف الحديث، مثلاً، الذي يرى ''فوق كل كتابة كتابة، وقبل كل كتابة كتابة، وبعد كل كتابة كتابة''(80)، إلاّ إذا كانت الكتابة المتكرّرة تعني القراءة في تكرارها،وحسب، لأن النص السماوي أو اللغة المقدسة تتمثل في سلاسل غير منتهية أو محدّدة لتجلّيات كتابيّة مقروءة تتعدد في أجناسها وأساليبها وممارساتها، لكنها لا تضاهيها كلها، وبهذا تقوّي الكتابة الأولى في سيادتها وتعززها أكثر.

إننا، بهذا المعنى، أمام إشكاليّة كبرى في النظرة إلى اللغة العربيّة في سيادتها القرآنية التي تفوق ما قبلها ومابعدها على السواء، الأمر الذي أنجز سلطاتها الخاصة والتي تفترق فيه عن العديد من اللغات الأخرى.

لا تعود الكتابة والقراءة سوى انعكاس للشكل اللغوي الفصيح، وتتراجع قيمة الكلام عند الممارسة إذا ما ابتعد في رصيده عن اللغة أي النظام. وتبدو الكتابة تعبيراً بالأشكال لا بالمعاني، لا تستهلك اللغة بشكل متنامٍ، ولا تخرجها عن المألوف، ومثلها الكلام لا ''يغزوها'' بشكل مستمرّ أو يطوّرها ويغيِّرها، لأنها مزوّدة بما أسميناه بالسلطات الدينيّة الخاصة. فما هو المقصود بالسلطات الدينيّة الخاصّة باللغة العربيّة؟

 

سابعاً - سلطات اللغة العربيّة الخاصّة

يمكن القول إن اللغة العربية مزودة، كما مجمل اللغات، هذه الطائفة من اللمح والإشارات السلطوية التي أثرناها، حتى الآن، على سبيل المثال لا الحصر، لتشكّل مظاهر السلطة اللغويّة العامة.

نقول مجمل اللغات، لا كلّها، ليس خوفاً منهجياً من التعميم، بل لما للكتابة من دَور لما نحن فيه، وخصوصاً أن شعوباً في العالم ما عرفت لغاتُها طريقاً إلى الثبات بالكتابة. ''وليس هناك بين الـ3 آلاف لغة المتكلَّم بها اليوم سوى ما يقرب من 78 لغةً فقط لها أدبٌ مكتوب... وليس ثمة طريقة إلى الآن لإحصاء عدد اللغات التي اختفت، أو تحوّلت إلى لغات أخرى قبل أن تُعرف الكتابة. كذلك، فإنّ مئات اللغات المستخدمة اليوم، لم تُكتب أبداً، إذ لم ينجح أحد في التوصّل إلى طريقة فعّالة لكتابتها...''(81).

 

1 - سلطة أم سلطات؟

قد تفترق اللغة العربية عن اللغات في مجال هذه الصفات التي وصفناها بالعامة فور التطرّق إلى سلطة اللغة العربية المركزية، وخصوصاً الدينيّة الإسلاميّة، حيث يتداخل العام بالخاص، وتصبح الحضارة العربية كلُّها مبنيّةً على حضور الخطاب والشهادة على النص الكريم، منبعِ مظاهرِ السلطات اللغويّة العربيّة، ونعني القرآن.


ولا يعني هذا الاعتراف بالأصل الشفاهي للغة كصفة لا قيمة له، إلاّ من حيث كونه مبشِّراً بها. تخرج منه أو بصيغته، تنزل من الغيب، فتصبح هي السلطة الأصل، أي السيادة الكليّة، ومنها تتفرّع السلطات فروعاً وأشكالاً.

ونثير ملاحظتين حول اللغة العربية:

أ  - باعتبار اللغة لغةً لها تعريفها الخاص، إلى جانب دخولها في التعريف العام للّغات، وهو تحديد يكشف مصدرها ويمنحها من الخصائص، وما تطوّرت إليه من علوم ونظم للكلام أو للتعبير الفصيح والبليغ ما يظهر مكانتها في ثقافات العرب والمسلمين.

ب -   باعتبارها وعاءً لثقافة عالميّة، وإفصاحاً عن حضارة وأداةَ تبليغٍ لرسالة خاتمة عامة، ووسيلةً لأداء الشعائر والطقوس والقوانين التشريعيّة، أي لغة مقدّسة، لها تأثيرها ومكانتها في الثقافات العالميّة، وغدت لغةً من لغات المنظمات الدوليّة الرسميّة العام .1982

 

2 - سلطة العربيّة الإلهيّة

وإذا ما اجتمعت هاتان الملاحظتان في رسم إطار سلطة اللغة العربية، يبدو أنها لغة ما حفظ أساساً من كلام العرب قبل الإسلام والأساليب والموازين والضوابط، وعلى رأس كل هذا القرآن الكريم المنزل الذي منح ''اللغة العربية سلطةً مكتوبةً وصفةً مقدسة قائمة على إلهامٍ آتٍ من السماء...، بينما يُقال إنّها ثابتة موحى بها، أنزلها الله على عبيده لكي يتفاهموا ويتعارفوا. واتخذت صفة القداسة سلطة أقوى بفضل تحوّل اللغة إلى لغة الطقوس الدينيّة''(82).

لقد أنزل الله القرآن بلسان العرب وبنظام كلامهم معرباً:

''إنّا جعلناهُ قرآناً عربياً''(83)، أو قوله:  ''قرآناً عربياً غيرَ ذي عوج'' (84)، وقوله: ''وهذا كتابٌ مصدقٌ لساناً عربياً''(85). ويؤكد القرآن حقيقة عروبته في آيات كثيرة، وينفي أن يكون فيه لسانٌ غيرُ عربي: ''ولقد نعلم أنهم يقولون إنّما يعلمه بشرٌ لسانُ الذين يلحدون إليه أعجميٌ وهذا لسانٌ عربيٌّ مبين''(86)، وقوله: ''ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي''(87).

ولأنّ القرآن قد نزل في قوم نشأوا على الفصاحة، فقد منحها ذلك سلطةً أبديّةً في الزمن، لساناً وتدويناً: ''وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه''(88)، وفيه ترسيخٌ لما كان فيه اللسان بأبعاده المتكلّمة أي صفاته الشفويّة.

تكمن القوة، إذاً، في اللسان، يتحدّى فيه القرآن العرب، وبالتحديد، ببيانه المعجزة داعياً إلى الإتيان بمثله: ''وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا، فآتوا بسورةٍ من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله، إنْ كنتم صادقين''(89). ولقد عجزوا عن ذلك وفقاً للآية: ''قُلْ لَئنِ اجتمعتِ الأنسُ والجنُّ على أنْ يأتوا بمثل هذا القرآنِ، لا يأتونَ بمثله ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً''(90). فالعجز أمرٌ حتميّ أمام الاعجاز، والصمت يضاهي البلاغة الأبدية،ولقد ختم الله الرسالات السمايّة، كلَّها، بالقرآن، على ما جاء فيه: ''قُلْ يا أيُّها الناس، إنّي رسولُ اللهِ إليكُمْ جميعاً الذي له ملكُ السموات والأرض، لا إله إلا هو، يحيي ويُميت، فآمِنوا بالله ورسولِهِ النبيّ الأمّي الذي يؤمنُ بالله، وكلمتِه، واتّبعوه لعلَّكم تهتَدون''(91).

وتُعتبر هذه اللغة العربية التي وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً، وحملت نصَّه المعجز، محفوظةً بحفظ القرآن وباقيةً ببقائه: ''إنّا نحنُ نزّلْنا الذكرَ وإنّا لهُ لَحافظون''(92).

كثيرةٌ هي الأبحاث والنصوص النقدية والمؤلفات التي تناولت معنى انتقال اللغة العربيّة من الخطاب الشفوي بوصفه حدثاً زمنياً تحكمه قوانين زواله إلى النص المكتوب، وبوصفه الحدث الذي يخترق الزمن، إذ يعلو عليه، وتحكمه قوانين بقائه، وسلطاته في كلّ العصور. والملاحظ في هذا التحوّل أو الانتقال أنّ تداخلاً كبيراً حصل بين اللغة والخالق. وسار الخطاب من لحظته الزمنيّة التي تحدّدها أسباب النزول في طريقين: الأول سابق على النزول حيث كان الخطاب، ولم يكن معه زمن فبدا متحرّراً من كل بداية وفوق التاريخ... وأما الثاني، فقد كان لاحقاً النزول، فأصبح الزمن معه زمن الخطاب الذي شكّل قطيعةً مع زمن الواقع. فبدلاً من أن يقع فيه تجاوزه. فكان بقاءً ودواماً لا تدركه نهاية ولا تعود الكتابة متمّمةً للمنطوق من الكلمات، بل أداء مختلف عنها تماماً تحققه لكنها لا تضاهيه ولا تتجاوزه بالطبع.

وإذا ''كان الكتاب هو الناتئ، وربّما كان هو الحفر، إذا كان تاريخاً لأمر جسيم، أو عهداً لأمر عظيم، أو موعظةً يُرتجى نفعها، أو إحياءً لشرف يريدون تخليد ذكره''(93)، فإنّ العربي يصبح كائناً كتابياً، لا يقول كلامه، ولكن تقوله النصوص التي اخترعته بالنص الكريم، إذ أخرجته زمن جاهلية الشعر إلى حضارة القداسة، وحكمت اللغة هكذا أسماء الله الحسنى ... ولم يبقَ للعبد إلا التصويت. فهو لسان يتحرك بحروف... طغت عليها الأدعيّة، والتراتيل وسلاسل البسملات، والحوقلات، ومتغيّراتها اللامتناهية... بحيث فقدت لغة المخاطبة والمحادثة علاقاتها الطبيعية بركائزها من الأشياء، والوقائع، والاحداث، والتحقت بالصياغة الطقسيّة...''(94).

مقابل هذا التوجه في النظرة إلى سلطان الكتابة، يرى آخرون أن  ''الكتابة صارت وعياً حاضراً وذاتاً فاعلة ولغات متعددة... وصار يرسمها صراعها مع السلطات كسلطة الكاتب والناقد وسلطة السلطة، وكفّ كل مركز من مراكز هذه السلطات عن أن يستطيع ادّعاءها، بل كفّ مفهوم المركز بوصفه السلطة العليا عن أن يكون''...(95).

لن نقحم البحث في النصوص الكثيرة التي تتوخى الدائريّة في القول والابهام المقصود لتغطية النقد في الموروث، والسلطة الدينية، لكننا نشير إلى نص جاء في قضايا اللغة العربية المعاصرة، نثبته نموذجاً في مجال ما نحن فيه من السلطات الدينية التي تتمتع بها اللغة العربية بالقرآن:

القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي احتفظ بلغته الأصيلة، وحفظها على قيد الحياة وسيحفظها على مرّ الدهور، وستموت اللغات المنتشرة اليوم في العالم كما ماتت لغات حيّة في سالف العصور، إلاّ العربيّة، فستبقى بمنجاة من الموت، وستبقى سلطةً حيّة قائمةً في كل زمان، مخالفةً النواميس الطبيعيّة التي تسير على سائر لغات البشر، ولا غرو فهي متصلة بالسلطات السماوية والمعجزة القرآنيّة، فالكتاب العربيّ المقدّس هو الحصن الذي تحتمي به اللغة العربية، وتقاوم أعاصير الزمن وعواصف السياسة المعادية. إنّها لغة القرآن بكلّ الاعتبارات والمقاييس والمعاني وظواهر الحياة والتاريخ»(96).

وما دام كل انقلاب اجتماعي فينا لا يأتي على  الأصل وهو القرآن، فهو لن يأتي على تلك اللغة في سلطاتها الدهرية، وإذا كان الحيّ لا يبنى إلا من داخله فهو لا يهدم إلا من داخله(97). تدفعنا هذه الأفكار والرؤى حول سلطات اللغة العربية إلى مجموعة من الخلاصات التاريخيّة:

أ - بدت الخطابة مظهر السلطات اللغوية في جذور العرب الجاهليّة تعني السليقة والفصاحة والموهبة الشعرية والإلهام و ''ارتفاع قريش في الفصاحة''(98). وما سجع الكهّان إلا سلطة ''ونفوذ واسع للكاهن على مجموعة من القبائل بكهانته.. وقد تتخطى شهرته اقليمه فتقصده العرب من أقاليم نائية''(99). ويعني القول بالسليقة كون العرب كانوا أهل خطابة وفصاحة  ''تأتيهم المعاني إرسالاً، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالاً. كانوا أمّيين لا يكتبون. وكان الكلام الجيّد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر... وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم سهل''(100).

ب - لقد تجلّت الفضائل الخاصة باللسان العربي في الوحي والنزول. فقد أغنى النبيّ الخطابة، ورفع من سلطتها، وبه اقتدى الخلفاء الراشدون في وصاياهم وخطبهم ومن بعدهم رجال الدين وأئمة الاسلام حتى اليوم. ''وإذا كان الخطباء قد عنوا بإحكام خطابتهم عن طريق البيان التام، والحجة البليغة، والألفاظ المونقة... فإن القصّاص هبطوا بأساليبهم قليلاً عن مستوى الخطابة السياسيّة... لم يخرجوا إلى كلام السوقة، بل وازنوا موازنة دقيقة بين كلامهم ومستوى الفصاحة''(101).

ج - برزت الكتابة حيث للنص المنزل سلطان في الدنيا والآخرة، لكنه بروز لا يسقط الشفاه أمامها. فقد ساوى الاسلام بين الكاتب والناسخ. فالكتابة ثانوية ولو كانت سلطة وشرفاً لكان الله أوصى بها للنبيّ الأمّي(102). ولقد جاءت الكتابة مهنةً بعد القراءة حيث قال: ''إقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق. إقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الانسان ما لم يعلم''(103).

كيف يقرأ وهو أمي؟ هنا المعجزة حيث الأمية هي الأصل، الفصاحة الأولى والأخيرة. إنّها مصطنعة لدى مجمل الشعوب، لكنها عفوية وقوية في صلب تاريخ اللسان العربي. لا تعتبر هذه الأمية نقصاً أو عجزاً بل سلطة تضاعف سلطات النص المقدس إلى ما لا نهاية، كما تضاعف، بالنتيجة، سلطات الموحى إليه والقائلين أو الناطقين به من بعده إلى ما لا نهاية أيضاً.

وإذا كانت الكتابة ضرورة، فقد اتخذت شكلها الأرقى في النص الكريم لفظاً ومعنى، وإليه تعود الألسنة في فصاحتها والنصوص في بيانها.

د - ومع تراجع الشعر في اللسان حيث ''ضعف أمره في القرن الثالث... وبلغ النثر أشدّه''(104)، تراجعت السلطات اللغوية، بالطبع في موجات من ''التصنيع اللفظي... حيث فقدت المعاني قيمتها ولم يعد لها أهمية إنما الأهمية للألفاظ''..(105).

هكذا غرقت العربية، التي كانت مرجعاً عالمياً في الطب والفلك والعلوم، في انحطاط مع أواخر القرن الرابع عشر، أعقبه تاريخ طويل من التتريك امتدت من السادس عشر حتى العشرين لم يدخل فيها العربية مصطلحات تذكر.

هـ - جاءت محطة دخول نابليون إلى مصر مع بدايات القرن التاسع عشر تأريخاً للتدخلات الغربية التي طبعت المجتمعات العربية بلغاتها الفرنسية أو الانكليزية في ما بعد. وقد اعتمدت اللغة الانكليزية في كلية الطب في مصر لغة تدريس، وكانت الفرنسية لغة الإدارة الرسمية في أثناء الانتداب الفرنسي في لبنان(106).

وإذا كنّا لن نتطرق إلى مفهوم النهضة الذي هو مثار خلافات عقائدية بين أن تكون النهضة من داخل أو من خارج، فإنّنا لا نوجز هذا التاريخ الطويل إلا بدافع القول بسلطة الفصاحة العربية ولو أن اتساعاً بات واضحاً في الفصل بين الفصحى والعامية.

الخلاصة، أن دخول الاسلام بات يعني، من وجهة نظر دينيّة، تعلّم العربية الفصحى والانتماء إلى العرب. ويعتبر هذا الربط بين مفهوم الأمة في سلطاتها المتنوعة والشكل الفصيح من أغنى المسائل وأعقدها، حيث برز مفهوم الأمة العربية مستنداً إلى رابطة اللسان الفصيح والثقافة والطباع والشيم. ''وبدت الأمة بمعنى الملّة والعصبة اللغوية الفضلى''(107). وتلك مسائل شائكة ومعقّدة حافلة بالتجاذبات والصراعات، وقد أخذت حيّزها الواسع في صراعات الفصحى والعاميّة، وخصوصاً في لبنان.

وإذا كانت اللغة العربية قد أفادت مع اللسان العربي من مجمل الأفكار والنظريات التي عرفتها المجتمعات العربية القومية والليبيرالية والقطرية والاسلامية حيث كانت حاضرةً فيها، فإنّ ربطها بالأمة أوقع هذه الأفكار في جدليات طويلة من التناقض في الهوية والانتماء(108).

نجد، بهذا المعنى، مقابل الدمج بين الأمة واللغة، أفكاراً ترى اللغة تتقدم على الدين بين مقومات الأمة العربية، وتفصل بين لغة التعامل الثقافي والعملي والتنزيل بما هو نص ثابت، فيما لغة الناس تتطور وفقاً لمتطلبات الحياة الناشطة. فلا يجوز توقيف اللغة في منجزات الماضي مهما كانت جيّدة لأنّها صالحة لزمانها، ولا تلبي حاجات الزمان كلّه. هكذا تتداخل المفاهيم المرتبطة بالعروبة والاسلام والقومية والعلمانية، وتورث سلسلة من الصراعات الفكرية التي آلت إلى انعكاسات سلبية في المجتمعات العربية وما انفكّت تجاذباتها حتى اليوم. إنّنا، بهذا المعنى، نجد عرباً، وهم كثر، ما تخلصوا من المقولة التي طبعت الأعاجم في التاريخ الاسلامي، والتي ترى بأن مَن دخل الاسلام صار عربياً.

يلاحظ الباحث في أدبيات هذا الصراع الغني والطويل والمستمر ملامح الفكر التوفيقي التصالحي بشكل عام للتخفيف من حدّة موروثاته. فقد آثر عدد كبير من العرب المسيحيين عدم إثارة مسائل وإشكاليات التمييز بين القومية العربية والاسلام، فكتبوا في تداخلهما توخياً لعدم تنفير المسلمين وإثارتهم، أو دفعهم إلى مواقف إسلامية خالصة. وآثر، أيضاً، عدد كبير من العرب المسلمين ترك الحدود مبهمة وغائمة بين الفكرتين في اعتبار العروبة جسماً روحه الاسلام وهي لا تقوم إذا ما جُرِّدت منه، وهو تصور كفيل، ربّما، بحلّ أو تلطيف مشاكل الأقليات المسيحية في المجتمعات الإسلامية ومنها المجتمع اللبناني(109). وبدت القضية البارزة في الصراع بين اللغة والدين محصورة في التجاذبات النظرية بين العربية الفصحى، والعامية كانت تتلطّى بها لإخفاء أبعاد الصراع الفعلي السياسي والاجتماعي، أو إظهاره في الممارسات اللغوية  ''سلطة'' تتعزّز وتتأرجح في الكلام والكتابة بين مستويات متعددة.

 

هوامش و مراجع

(1)    ابن جني: الخصائص، ج,1 ص .13

(2)    ابن منظور: لسان العرب، المجلد الثالث، مادة ''سلط''، ص 182-.183

(3)    سورة ابراهيم / .22

(4)    لقد أورد ''القاموس المحيط''، و''محيط المحيط'' لبطرس البستاني، المعاني نفسها التي يبدو أنّها كلّها اعتمدت ما جاء وأوردناه في ''لسان العرب'' لإبن منظور. راجع الموقع: WWW.SAKHR.Com

(5)    محمد الزايد: ''الفلسفة وماهية السلطة''، مجلة الفكر العربي، العدد 33-,34 السنة الخامسة، أيار/مايو - آب/أغسطس 1983 بيروت، ص 7-.8

(6)    ميشال فوكو (1926-1984)، فيلسوف ومؤرّخ فرنسي، عظم تأثيره في الفكر الفرنسي والعالمي منذ الستينيات. حاضر في جامعة باريس الثامنة (Vincennes) وجامعة تونس، وشغل كرسي ''تاريخ منظومات الفكر'' في الكوليج دو فرانس العام .1970 وقد جاءت مؤلّفاته على ارتباط في ظهورها مع الفكر البنيوي. ويعتبر فوكو من الفلاسفة المعاصرين الذين تمحورت أفكارهم حول مقولتَي السلطة والقوة وارتباطهما بالمعرفة حيث ألحّ على كيفية وحدود التفكير الممكن المختلف والمغاير للآخرين بدلاً من التنظير في ما نعرفه أساساً. ومن أهمّ هذه المؤلّفات: (1961) Silence imposé aux foux ، أي الصمت المفروض على المجانين،  (1970) Naissance de la prison ، ولادة السجن، حيث يتلاقى مفهوم السجن  مع الجيش والمستشفيات والمدارس والمعاهد في القمع،  (1966) Les mots et les choses أو الكلمات والأشياء، و Archéologie du savoir(1969) أو علم آثار المعرفة. راجع: WWW.Yahoo.Com. more Yahoo FRANCE

(7)    M. Foucault: L'Archéologie du Savoir, Gallimard, Paris, 1969, p. 225.

 (8) H. Dreyfus, P. Rabinov: Foucault, un parcours phylosophique,  ed Gallimard, Paris 1974 pp 313-314

(9) جورج بالاندييه: الأنتروبولوجيا السياسيّة، ترجمة جورج أبي صالح، ط ,1 منشورات مركز الانماء القومي، بيروت، ,1986 ص .37

(10)   المرجع نفسه، ص .38

(11)   فريدريك نيتشه F. Nietzsche(1844-1900)، فيلسوف الماني، ولد في روكن Rokken. أقام فلسفته على مبدأ  ''إرادة القوة'' التي ترفع الإنسان إلى مستوى الخالق. راجع كتابه: هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة ويلكس فارس، المكتبة الأهلية، بيروت، .1938

(12)   جيل دولوز (1925-1995) فيلسوف فرنسي. اهتمّ باللغة. حاضر في جامعة باريس الثامنة، وكان زميلاً لـِ فوكو. من مؤلفاته: Différence et répétition (1968) أي ''التغاير والتكرار''، L'image mouvement (1938)) أو ''الصورة الحركة'' و «L'image temps» ''الصورة الزمن'' في العام 1983، Mille plâteaux ''ألف منبر''(1980)،(Le pli (1988 ''الطيّة'':

(13) Gilles Deleuze: Foucault, Minuit, Paris. 1982, pp 131-141.

(14) Michel Foucault: L'Archéologie du savoir, op. cit., p. 225.

(15) L. de Heush: Pour une dialectique de la sacralité du pouvoir, le pouvoir et le sacré,  Annales du Centre d'études des religions, Paris  1962, Préface p 5.

(16)ibld, p 84

(17)   غسان خلف: الفهرس العربي لكلمات العهد الجديد، دار النشر المعمدانية، بيروت، .1979

(18)   محمّد فؤاد عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار إحياء التراث، بيروت، لا ت. وأيضاً: الحسين بن محمد الدامغاني: قاموس القرآن أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، ص .139

(19)   النساء، آية .58

(20)   الزايد: ''الفلسفة وماهيّة السلطة''، ص .14

(21)   عبدالله العروي: مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، التنوير، بيروت، ,1981 ص 20-.31

(22)   Gilles Deleuze: Foucault, op. cit., p. 141.

(23)   محمد أركون: تاريخيّة الفكر العربي الاسلامي، ط ,1 مركز الانماء القومي، بيروت، ,1986 ص .191

(24)   محمد أركون: تاريخيّة الفكر العربي الاسلامي، ص .191

(25)   محمد أركون: تاريخيّة الفكر العربي الاسلامي، ص 166

(26)   أنيس فريحة: في اللغة العربيّة وبعض مشكلاتها، ص 57-.58

(27)   جوزيف فندريس (1875-1960)، عالم لغويّ فرنسي، شغل منصب عميد كليّة الآداب في باريس، وعضو المعهد الفرنسي للغات، ورئيس الجمعيّة اللغويّة في باريس. اعتبر اللغة مهنته، وقضى حياته باحثاً فيها. ترك كتاباً قيِّماً بعنوان: Le Langage ''اللغة'' (1914 ولم يُنشر إلا في العام 1920). راجع موقع: WWW.Yahoo.Com.more yahoo, vendryes، ومقدمة الكتاب (مترجماً): اللغة، ترجمة الدواخلي والقصاص.

(28)   ج. فندريس: اللغة، ص 343-.344

(29)   ج. فندريس: اللغة، ص .59

(30)   المرجع نفسه، ص .315

(31)   لقد فصل جوزف فندريس في هذه المسألة في كلامه عن تكوّن اللغات: اللغة، ص 297-.298

(32)   المرجع نفسه، ص 298-.299

(33)   عبدالله العلايلي: من مقابلة في جريدة النهار، أجراها عصام محفوظ ونشرت في 4/8/.1992

(34)   والترج أونج: الشفاهية والكتابيّة، ترجمة حسن البنا عز الدين، عالم المعرفة ,182 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ,1994 ص .275

(35)   André Martinet: Eléments de linguistique générale, A. Colin, Paris, 1970, p. 9.

(36)   M. Guttier: Ce que Reich a vraiment dit, op. cit., p. 60.

(37) Cathérine E.Clément: Le pouvoir des mots: Symbolique et idéologique, Mame, Paris, 1973, p.18

(38)   المرجع نفسه، ص .43

(39)   المرجع نفسه، ص .19

(40)   لقد أثرنا هذه المسألة في أثناء المحاضرة التي ألقاها مصطفى صفوان حول ''اللغة والكلام في التحليل النفسي'' في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، وسبقت الإشارة أليها. وقد أقرّ صفوان أن المحلّلين النفسيين يفترضون أن لغة التحليل تكون بالعامية دائماً، وهم لم يعيروا انتباهاً كبيراً إلى هذه المسألة المهمة التي تفترض مستويات بليغة الأبعاد والتعبير في كلام المتكلمين أو المعبِّرين عن مآزمهم.

(41)   Pierre Bourdieu: Ce que parler veut dire, op. cit., pp. 46-47.

(42)   الفم بمعنى La bouche والحنك La gueule بالفرنسية أو الحلق.

(43) Pierre Bourdieu: Ce que parler veut dire, op. cit., p. 90.

(44) Emile Servan-Schreiber: »Mon ordinateur m'a souri«, Psychologie, N 180, Nov. 1999, Paris,p 38

(45)   لقد حدّده فندريس بـ منفاخ، وقناة، وأوتار أو فتحة حنجرة يُضاف إليها تجاويف الحلق والحفر الانفية وتجويفة الفم، من دون نسيان اللسان والشفتين: ج. فندريس: اللغة، ص .44

(46)   الكتاب المقدس: إنجيل متى 12/,34 ص .23

(47)  J. Fast: Le Langage du corps, les éditions de l'Homme, Paris, 1993, p. 53.

(48)   سورة الحجرات، آية .2

(49)   تعيدنا لهجة البيارتة إلى الرمزية النطقية المتمثلة بأبي عبد البيروتي والقصص والنوادر الفولكلوريّة لمحمد مرعي وتراث عمر الزعني الشعبي العامي. راجع: فاروق الجمّال: عمر الزعني حياة شعب، ط ,2 دار الآفاق الجديدة، بيروت، ,1983 ص 157-.413

(50)   نادر سرّاج: ''سمات الانفتاح والتطور في المحكيّة العربيّة المدينية، نموذج بيروت''، مؤتمر العربية في لبنان، منشورات جامعة البلمند، بيروت، ,1998 ص 315-.325

        لا تندرج هذه الأمثلة إلاّ حوافز للتأمّل والتفكير في تفاعل اللهجات والمناطق اللبنانية التي يغالي فيها الاعلاميون أحياناً، إلى درجة يبرز فيها لبنان مشابهاً للعبة «البازل» Puzzle، حيث الأفعال وردود الأفعال في تبادل استعمال اللهجات بين الفئات المتنوّعة تجعل من اللغة قطعاً سهلة التركيب والتفكيك.

(51)   ج. فندريس: اللغة، ص 330-.334

(52)   Ferdinand de Saussure: Cours de linguistique générale, op. cit., pp. 275-280.

(53)   التصنيف هو لِهادلي كانترل، نقلناه عن: عبد الرحمن عيسوي: الآثار النفسيّة والاجتماعية للتلفزيون، دار النهضة العربية، بيروت، ,1984 ص .11

(54)Pierre Bourdieu: Ce que parler veut dire, op. cit., pp. 69-70.

(55) Philippe Guillaume: Les mots et les hommes, op. cit., p.120.

(56)   Michel Souchon: Diffusion de l'information et rapports d'autorités, op. cit., pp. 386-387.

(57)   Colette Bizouard: Vivre la communication, op. cit., p. 155.

(58)   Jacques Durant: Les formes de la communication, Bordas, Paris, 1981, p. 134.

(59)   Marc Paillet: Le journalisme, Quatrième pouvoir, Dénoël, Paris, 1974, pp. 119-138.

(60)   Catherine B. Clément: Le pouvoir des mots, op. cit., p. 169.

(61)   Pierre Bourdieu: Ce que parler veut dire, pp. 70-74.

(62)   فاروق المجذوب: لغات التعبير، دار منيمنة للطباعة والنشر، بيروت، ,1994 ص 55-.59

(63)     égis Debray: Cours de médiologie générale, op. cit., pp. 521-523.

(64)   Francis Balle: Médias et société, op. cit., p. 563.

(65)   Jean Cohen: Structure du langage poétique, éd. Flammarion, Paris, 1966, p. 20.

(66)    Roland Barthes: Le plaisir du text, Seuil, Paris 1973 p 30.

(67)   منذر العياشي: الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، ص .125

(68)   غاستون باشلار 1884-1926 ، فيلسوف فرنسي، إهتمّ بمسائل متعلقة بعلم النفس التحليلي والحركة السرياليّة، وتكوين العلوم. له مجموعة من المؤلّفات، منها ''تكوين الفكر العلمي'' «La formation de l'esprit scientifique». راجع موقع: www.yahoo.com   وأيضاً: Régis Debray: Vie et mort de l'image, éd. Gallimard, Paris, 1992

(69)    Gaston Bachelard: Poétique de l'Espace, P.U.F., Paris, 1957, p. 97.

(70) Frav(ois Flahault: La parole intermédiaire, op, cit p 9.

(71) jackobson: Essaia de linguistique génrale, Minuit, Paris 1964, p 213.

(72)   والتر ج. أونج: الشفاهية والكتابيّة، ص 35-55.

(73)   وردت هذه الدراسات والأفكار في الكتاب الموسوعي الصادر بالفرنسيّة عن وزارة الثقافة الفرنسية، وفيه سجل غنيّ بالمراجع والمصادر المتنوعة اللغات التي تطرّقت إلى تاريخ الكتابة:

Ministère de la Culture: Naissance de l'écriture, Cunéiformes et hiéroglyptes, 4ème édition, éd. de la Réunion des Musées nationaux, Paris, 1982.

وأيضاً: »Ecritures«: Actes du Colloque international de l'Université Paris VII, Le e,:    Régis Debray: Cours de médiologie générale,op. cit., p. 523.

(74)   من محاضرة للأب بولس نويا بعنوان ''الكتابة بين ديانة الأب وديانة الإبن''، جامعة القديس يوسف، بيروت، 5 أيار .1972

(75)   عمرو بن بحر أبو عثمان الجاحظ: الحيوان، ج,1 تحقيق عبد السلام هارون، ط ,2 دار إحياء التراث العربي، بيروت، ,1985 ص .73

(76)   ابن رشيق القيرواني: العمدة، ج,1 دار الكتب العلمية،بيروت، ,1983 ص .145

(77)   Roland Barthes: S / Z, éd. Seuil, Paris, 1970, p. 11.

(78)   Iser Wolfgang: L'Acte de la lecture, Théorie de l'effet esthétique, trad. Evelyne Sznycer, éd.       Margada,Bruxelles, 1985, p. 8.

(79)   منذر العياشي: الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، ص .5

(80)   المرجع نفسه، ص .15

(81)   والتر أونج: الشفاهيّة والكتابيّة، ص .54

(82)   القول لابراهيم مدكور، ورد في:

Roland Meynet: L'écriture Arabe en question, les projets de l'Académie de Langue Arabe,  Dar Al-Machreq, Centre Culturel Universitaire, Beyrouth, 1971, p. 103.

(83)   الزخرف / .2

(84)   الزمر / .28

(85)   الأحقاف / .12

(86)   النحل / .103

(87)   فصلت / .44

(88)   سورة ابراهيم / .4

(89)   سورة البقرة / .23

(90)   سورة الإسراء / .88

(91)   الأعراف / .158

(92)   الحجر / .9

(93)   أبو عثمان الجاحظ: الحيوان، الجزء الأول، ص 70-.71

(94)   مطاع صفدي: استراتيجيّة التسمية، مركز الإنماء القومي، بيروت، ,1986 ص .174

(95)   منذر العياشي: الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، ص .24

(96)   ابراهيم رفيدة: ''الفصحى لغة القرآن أو اللغة العربية لغة القرآن والعلم والمسلمين''، مؤتمر من قضايا اللغة العربيّة المعاصرة، منشورات المطبعة العربية للتربية والثقافة والتعليم، تونس، ,1990 ص .93

(97)   مصطفى صادق الرافعي: ''مستقبل اللغة العربية في العالم العربي''، الهلال 1 ,5 شباط ,1920 السنة ,28 ص .400

(98)   ابن جنّي: الخصائص، ج,2 ص .11 وهو اتجاه يضم مجمل الباحثين القائلين بقريش أفصح العرب. وقد غاير هذا الاتجاه طه حسين إذ لم يربط سيادة اللهجة القريشيّة بالإسلام، بل بقوة قريش وسلطانها قبل الاسلام، فانعكست في شعرها ونثرها وأخضعت العرب لها. راجع: طه حسين: في الأدب الجاهلي، دار المعارف بمصر، ,1952 ص 133-.136

(99)   شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في النثر العربي، دار المعارف بمصر، ,1965 ص .38

(100) الجاحظ: البيان والتبيين، ص .7

(101) شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص 80 و.91

(102) سورة الاعراف / 158: ''الذين يتّبعون الرسول النبي الأمي'' أي الذي لا يقرأ ولا يكتب.

(103) سورة العلق / 1-.5

(104) طه حسين: من حيث الشعر والنثر، ط ,10 دار المعارف بمصر، ,1969 ص .53

(105) شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص .229

(106) مجلة اللسان العربي: ''اللغة العربية''، من مقدمة العدد 14 (خاص)، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، ,1976 ص .5

(107) عبد العزيز الدوري: تعقيب على محاضرة محمد أحمد خلف الله حول ''التكوين التاريخي لمفاهيم الأمة، القومية الوطنية، الدولة''...، وكذلك محاضرة له حول ''الإسلام وانتشار اللغة العربيّة والتعريب''، من بحوث ومناقشات الندوة الكبيرة التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية حول: القوميّة العربية والاسلام، ونشر وقائعها، بيروت، ,1981 ص .31

(108) رضوان السيّد: ''اللغة العربيّة في مهبّ نزعات الهويّة'' (2)، جريدة السفير، بيروت، 8 كانون الثاني، يناير ,1999 ص .15

(109) راجع وقائع ندوة القوميّة العربيّة والاسلام، المرجع نفسه.

The role of the media in the changes of power and sovereignty

The culture of tale bearing has increased in Lebanon due to the media and the internet and this culture also grew by reason of seducing the media personnel with gifts, bribes, money and illusionary power the thing that justifies the offenses and intense corruption and their backgrounds in Lebanon.

This culture became a Lebanese need and rather a projective outlet embraced by the community in spite of blazing fanaticism against the “other” who is culturally and religiously different in spite of dividing the regions and encouraging fighting and regional fanaticism and sectarianism as if this became unfortunately a way of living and ensuring subsistence by destroying the “other” and living on his ruins.

The media assumed with its various high tech means the fourth position in the hierarchy of the authority in the democratic concept.

The media also appeared as an indirect authority unlike the three conventional authorities which are known in the democratic concept and rather the media surpasses these authorities in many cases and disturbs them in different dangerous stages and constitutes the limit of the power of the word.

The questions which present themselves are: did we draw away from the picture era to come back to it or the west did not help us to draw away and we are still living in the picture era protecting the alphabet or dare we under the illusion of protecting it and did not recognize yet the importance of other cultures via the fourth authority. What is basically the fourth authority and what are generally the authorities of the media?

Le rôle des médias dans les changements de l’autorité et de la souveraineté

 L’éducation de la calomnie a augmenté au Liban grâce aux médias et à l’Internet, tout comme grâce aux hommes médiatiques tentés par les cadeaux, l’argent et l’autorité fictive, ce qui a contribué à justifier la corruption au Liban.

Cette culture est devenue un besoin libanais, plutôt un échappatoire projectif, couvée par la société malgré lefait qu’elle renforce le fanatisme envers l’autre dont la culture et la religion sont différentes, et elle encourage la division des régions, le fanatisme régional et confessionnel. Malheureusement, cette culture est devenue un mode de vie qui assure la continuité pour détruire l’autre et vivre sur ses décombres.

L’information avec ses moyens diversifiés et ultra sophistiqués, a occupé la 4ème position dans l’hiérarchie du pouvoir dans le concept de la démocratie: l’information apparaît comme étant indirectement une autorité ne ressemblant pas aux autres trois autorités traditionnelles, connues dans le concept de la démocratie.

La question qui se pose est la suivante: est-ce qu’on est sorti de l’image pour y retourner, ou alors l’Ouest ne nous a pas aidé à en sortir ; nous sommes encore dans l’ère de l’image protégeant les alphabets. On n’a pas encore fait la connaissance des bénéfices que les civilisations ont atteints à travers le 4ème pouvoir. Après tout, quelle est la nature du 4ème pouvoir et celle des pouvoirs médiatiques en général ?