دراسات وأبحاث

دولة جنوب السودان موسم الهجرة من الشمال
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

وفق إحدى الدراسات الصادرة حديثًا، سيؤثر انفصال الجنوب على كل دول الجوار السوداني، إلا أن الخاسر الأكبر هو شمال السودان. لذلك فإنه من الضروري حسب الدراسة نفسها «حشد جهود المجتمع الدولي للعمل على محورين، الأول: بناء قدرات دولة جنوب السودان الجديدة، وبناء جيش نظامي لهـا، وتسريـع عجلـة التنمية فيها، وتقديـم الخدمـات الضروريـة لمواطنيها، فضلاً عن بسـط الأمـن، والعمـل على عدم إثارة الصراعات القبلية. والثاني: تنمية الشمال وتطويره عن طريق تقديم الاستشارات الفنية له أسوة بالجنوب. فالشمال الضعيف عامل تهديد قوي لاستقرار الجنوب، وبالتالي فإن تقوية الدولة الأم وتنميتها هما ضمانة لبقاء الدولة الوليدة واستقرارها».


مقدمات جيوبوليتيكية
حتى الامس القريب كانت دولة السودان من حيث المساحة (2،5 مليون كلم2) اكبر دولة عربية وافريقية والعاشرة عالمياً، ويزيد عدد سكانها عن الـ40 مليون انسان. كذلك فإن حجم الموارد الطبيعية في السودان وتنوع مناطقه المناخية وطبيعة السكان (ينتمون الى حوالى 600 قبيلة ويتحدثون اكثر من 400 لغة ولهجة ويدينون بالإسلام والمسيحية، والمعتقدات الافريقية المختلفة)، عوامل جعلت منه صورة مصغّرة عن أفريقيا (microcosm of Africa)، كما يرى بعض الباحثين.
يعتبر السودان مهدًا لأقدم الحضارات، استوطنه الإنسان منذ حوالى 5000 سنة قبل الميلاد. ولشعب السودان تاريخ طويل يعود إلى العصور القديمة، وقد تداخل مع تاريخ مصر الفرعونية التي كان السودان جزءًا سياسيًا منها على مدى فترات طويلة.

 

السودان في التاريخ المعاصر
 شهد السودان الحديث حرباً أهلية طويلة ومتقطعة بدأت قبيل العام 1956، وذلك على خلفية تأسيس هوية وطنية تقوم على العروبة والإسلام، وقد ظهرت مقدمات هذه السياسات الثقافية خلال مرحلة التحرر الوطني والمطالبة بالاستقلال،  مما ادى الى تمرد القوات الجنوبية في مدينة «توريت» العام 1955.
قادت التمرد حركة «أنيانيا» (سمّ الثعبان) انطلاقاً من اوغندا، وهكذا برزت الملامح الاولى لحركة الانفصال بالظهور والتطور، وعلى الرغم من الانشقاقات داخل هذه الحركة فإنها استطاعت التوحد والتجمع عسكريًا - تحت قيادة جوزيف لاجو العام 1970 حيث بدأت تطالب بالاستقلال عن الشمال.
رفضت الحكومات السودانية المتعاقبة منح الجنوب الإستقلال او الحكم الذاتي. والعام 1972 تم توقيع اتفاقية اديس ابابا  التي منح الجنوب بموجبها حكماً اقليميًا واسعًا، والعام 1983حاول الرئيس جعفر النميري اقامة نظام اسلامي جديد في السودان، وهذا ما دفع الامور الى التدهور من جديد مع الجنوب، الذي كان قد اصبح تحت سيطرة «انيانيا2» (الجيش الشعبي لتحرير السودان) بقيادة العقيد جون غارانغ (قرنق)، والذي بدأ يطالب بسودان جديد يقوم على أسس راسخة من الديمقراطية العلمانية، وهكذا اندلع الصراع من جديد مع ما يختزنه من تراكم صراعات قبلية ودينية واقتصادية وسياسية بين الحكومة المركزية في الشمال وحركات التمرد  في الجنوب، الأمر الذي أدى إلى اشتعال حرب أهلية ثانية العام 1983.
العام 1989 قاد العميد عمر البشير انقلابًا عسكريًا أطاح حكومة مدنية برئاسة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، ومنذ ذلك الوقت يقود البشير السودان بفعل ضغوط دولية كبيرة وتزايد في وتيرة الصراعات التي تداخلت فيها عوامل داخلية بأخرى خارجية. فإضافة إلى الحرب مع الجنوب، اندلعت أزمة دارفور العام 2003 على خلفية التدخل الخارجي والصراع الدولي على الموارد والطاقة، وتأجيج الصراعات والتناقضات الاتنية والدينية والقومية داخل المجتمع السوداني نفسه. يضاف إلى ذلك الفساد وسوء في ادارة الموارد وتوزيعها بين المركز والأطراف، وتمييز في توزيع المناصب الحكومية بين ابناء الشعب وفق منظور عرقي او ديني او قومي، مما سمح للتدخل الخارجي بان يتمظهر بأشكال وشعارات مختلفة ما زالت فصولها تتوالى حتى اليوم.

 

اتفاقية السلام الشامل!
العام 2005 ، إثر ابرام اتفاقية السلام الشامل بين حكومة عمر البشير ورئيس الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان د.جون قرنق في نيفاشا (كينيا)، والتي وضعت حدًا للحرب الأهلية، أصبح إقليم جنوب السودان يتمتع بـحكم ذاتي، على أن يعقبه استفتاء عام في مطلع العام 2011 حول بقاء السودان موحدًا أو استقلال الجنوب عنه. وفي التاسع من كانون الثاني 2005 انتهت اطول حرب شهدتها القارة الافريقية بتوقيع جون قرنق اتفاق سلام مع الخرطوم، ودخل المتمردون الجنوبيون السابقون من الجيش الشعبي لتحرير السودان في شراكة مع خصوم الأمس في الخرطوم لتشكيل حكومة وحدة وطنية تدير البلاد وفق دستور جديد، ومددت الانتخابات التي جرت في نيسان 2010 التفويض الممنوح لسلفا كير الذي خلف قرنق في رئاسة حكومة الجنوب وفي منصب نائب لرئيس الجمهورية السودانية بعد مقتل قرنق في حادث مروحية في تموز 2005، كما تم انشاء برلمان منفصل للجنوب يرأسه كير، أعفي بمقتضاه الجنوب من الشريعة الاسلامية التي فرضت على سكانه، واتيحت له فترة ست سنوات من الحكم الذاتي تمهيداً لاستفتاء يصوت فيه الجنوبيون على حق تقرير المصير والإختيار بين البقاء ضمن سودان موحد او الانفصال عن الخرطوم، وفي 9 كانون الثاني 2011 صوّت جنوب السودان بأغلبية 98،83 في المائة لمصلحة الاستقلال والانفصال عن الشمال.
وهكذا أصبح جنوب السودان «دولة جنوب السودان» وهي الدولة الرقم 193 في الامم المتحدة، والرقم 45 في افريقيا.

 

معطيات وأرقام
• الموقع والحدود:
تقع الدولة الجديدة في أقصى جنوب السودان الحالي، وتضم عشر ولايات، عاصمتها «جوبا»، يحدها من الشرق إثيوبيا وكينيا من الجنوب الشرقي وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية من الجنوب، ومن الغرب جمهورية أفريقيا الوسطى، اما من الشمال فتحدها باقي ولايات جمهورية السودان القديم بطول حوالى 2000 كلم.

 

• المساحة:
تقدر مساحة الدولة الجديدة بأكثر من 600 الف كيلومتر مربع (باستثناء مناطق جبال النوبة وآبيي والنيل الازرق المتنازع عليها)  وهذا ما يمثل حوالى ربع المساحة الاجمالية للسودان قبل استقلال الجنوب (2,5 مليون كلم2).

 

• الديانة:
يتكون سكان جنوب السودان من أتباع الديانات الأفريقية التقليدية ومن الوثنيين والمسيحيين بالإضافة إلى المسلمين. ويشكل المسيحيون نحو 15 الى 20% من السكان. ومعظم المسيحيين من الكاثوليك والأنغليكانيين، مع وجود لبعض الطوائف الأخرى أيضًا. وتقدر نسبة المسلمين بحوالى 15% الى20% من السكان ايضاً، أما بقية السكان فهم من الوثنيين.

 

• الشعب:
يضم جنوب السودان عددًا من القبائل الأفريقية النيلية مثل الدينكا، والنوير، والشير لوك والشلك، وباري، والأشولي والجور، والباريا واللاتوكا والمورلي، إضافة إلى قبائل أخرى مثل الزاندي والفرتيت.                                                                   
يقدَّر عدد سكان جنوب السودان بما بين 8 الى 9 ملايين نسمة ولا يوجد تعداد دقيق للجماعات العرقية، إلا إنه من المعتقد أن أكبر جماعة عرقية هي قبيلة الدينكا تليها النوير، والشلك.

 

• اللغة الرسمية:
اعلنت الدولة الجديدة ان اللغة الانكليزية هي لغتها الرسمية، ولكن توجد في جنوب السودان مجموعات قبلية تنطق بالعديد من اللغات (400 لهجة). أما اللغة العربية في جنوب السودان فتعرف باسم «عربية جوبا»، وقد تكونت في القرن التاسع عشر بين أحفاد الجنود السودانييـن وهـي منحـدرة من لغـة قبيلـة بـاري وتستخـدم على نطـاق واسـع. كمـا توجـد ثلاث لغات أفريقية يتم استخدامها بشكـل كبير وهـي: «طوك جينق»، وينطق بها أكثرمن 5 ملايين نسمة و«طوك ناس» التي ينطق بها حوالى 2 مليون شخص، و«طوك شلو» التي ينطق بها حوالى مليون شخص. إلى ذلك تستعمل القبائل لغة النوير في ولاية الوحدة وولاية جونقلي ولغة شلوك في ولاية أعالي النيل، ولا زالت «عربية جوبا» حتى اليوم وسيلة التواصل والتفاهم بين هذه القبائل، على الرغم من مناداة بعض المسؤولين الجنوبيين المتشددين بإلغائها من التداول في الدولة الجديدة.

 

• الموارد:
تعتمد الدولة الجديدة على النفط بنسبة 98% من مدخولها الوطني وبعد عقود من حرب ضروس مع الشمال فإن جنوب السودان يعاني تخلفًا اقتصاديًا هائلاً بالرغم من الاحتياطي السوداني الراهن من النفط والبالغ 6،7 مليار برميل، ومن 600 الف برميل كانت تضخ يوميًا قبل إعلان استقلال دولة الجنوب (جاء أكثرمن ثلاثة ارباع الكمية من الجنوب والمناطق الحدودية). كذلك يتمتع الجنوب بثروات معدنية متعددة من بينها اليورانيوم، والذهب، وخام الحديد، والنحاس والفضة. ولكن الدولة الجديدة ما تزال تعتمد اعتمادًا اساسيًا على الزراعة إذ يتوافر لها بشكل كبير الماء والثروة الحيوانية الضخمة من ابقار وماشية، فضلاً عن الامكانات الكبيرة في زراعة القطن والصمغ العربي والاخشاب ذات الجودة العالية. ولكن الدولة الجديدة تحتاج إلى مزيد من الوقت والادارة الرشيدة للانطلاق في تنمية اقتصادها الوطني، فهي حتى الآن تعتبر من اكثر بلاد العالم تخلفًا ومن ادناها في مستويات الدخل الفردي.

 

مستقبل الدولة الوليدة
كانت الخرطوم (عاصمة السودان الأم) اول من اعترف بالدولة الجديدة تلتها مصر ثم دولة الإمارات العربية، وبعد ذلك الدول الكبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا وروسيا وغيرها.
تسعى الدولة الجديدة الى إقامة علاقات واسعة مع دول العالم قائمة على سياسة المصالح والاهداف التي تساعدها في بناء كيان مستقل قادر على الحياة والتطور والتنمية، وذلك انطلاقاً من امكاناتها ومواردها الكثيرة. وامام المسؤولين فيها مروحة من الخيارات والعلاقات الدولية والاقليمية والعالمية تمكّنها من الانطلاق بسرعة، اذا هم احسنوا استخدام هذه الامكانات في سبيل مصلحة الوطن العليا، وشعبهم الذي عانى طويلاً الفقر والحرب والتشرد. كذلك تواجه الدولة الجديدة تحديات ترسيم الحدود وحل مشكلة اقليم آبيي الغني بالنفط والغاز والماء والمتنازع عليه مع الشمال. وهناك ايضاً مشكلة ضخ النفط والغاز من الجنوب الى الخارج، فالدولـة الجديـدة لا تملـك منفذًا على البحـر وهـي دولة مغلقـة، وشبكـة الانابيـب تتجـه من جوبا شمالاً باتجاه البحر الاحمر بطول حوالى 1600كلم وعبر الدولة الام في الشمال، وهي بذلك محكومة حتى الآن بهـذا الواقـع الجغرافـي-الاقتصادي. وتطرح كينيا مشروعًا لمد خط انابيب عبر أراضيها يمتد من جوبا لينتهي عند مدينة لامو على المحيط الهندي، ويكون بديلاً عن الممر الإجباري القديم باتجاه الشمال، ولكن هل يقبل الشمال ببساطة أو بدون ثمن؟
كما ان مشكـلة الديـون المتوجبـة علـى السودان الام والحصة المتوجبة منها على الدولة الجديدة هي من مواضيع الخلاف بين الدولتين. وهناك مشكلة الجنسية فكيف سيتم الفصل بين ابن الشمال وابن الجنوب، علمًا أن كثرة من اهل الجنوب تقيم في الشمال والعكس صحيح ايضاً.

 

أبعد من الاستقلال
إن بعض الدول الكبرى كالولايات المتحدة وبعض الدول الاقليمية كالكيان الصهيوني التي رعت وساعدت حركة التمرد منذ انطلاقها ودعمتها في المحافل الدولية لم تفعل ذلك مجانًا، فهي ترى أن خلق دولة جديدة وحليفة لها في هذا الحيز الجغرافي الغني بالموارد الاساسية (ماء ونفط وغاز) يلائم مصالحها، خصوصًا إذا كانت هذه الدولة قاعدة عسكرية. فهي تتمتع بموقع استراتيجي في قلب افريقيا. قرب منابع نهر النيل وعلى مقربة من القرن الافريقي، وهي ليست بعيدة من الساحل الافريقي الغربي حيث يمكن تسهيل حركة مرور انابيب النفط والغاز من شرق افريقيا والخليج عبر القارة الافريقية باتجاه المحيط الاطلسي الى اميركا.
كذلك، يرى بعض المحللين ان تقسيم دول المنطقة الى كيانات صغيرة ضعيفة، هو استراتيجية مرسومة منذ فترة وخرائطها موجودة في ادراج الدول الاستعمارية الجديدة – القديمة. وما يحدث الآن على مساحة الشرق الاوسط وشمال افريقيا هو تطبيق لهذه السياسات الغربية التي تسعى إلى السيطرة على الموارد المختلفة، ومنع الآخرين من الاستحواذ عليها في لعبة كبرى من الصراع المفتوح وعضّ الاصابع، يمتد مسرحها من الصين إلى فنزويللا.
وما تقسيم السودان او غيره من الدول هنا أو هناك، الا صورة عن رسم حدود المصالح واقتسام ثروات الدول الضعيفة والعاجزة أو الفاشلة في العالم من قبل الدول الكبرى القوية. حيث تسعى هذه الدول إلى حل مشاكلها الاقتصادية والأمنية بالوجود العملي قرب هذه الموارد أو في البؤر التي تهدد امن مجتمعاتها، وتعتبرها منابع الإرهاب وفق مصطلحاتها السوسيوبوليتيكية وتوصيفاتها الامنية. ومن هنا يمكن فهم ما يجري اليوم فوق مساحة الشرق الاوسط من دعم لبعض الثورات وإحجام عن دعم بعضها الآخر ورسم خرائط جديدة للمنطقة وتقسيم دولها وخلق كيانات ضعيفة، وذلك وفق منظومة المصالح الاقليمية والدولية التي تصب في خدمة اقتصادات الدول الكبرى، في عالم يعيد تشكيل نفسه في ظل توازنات دولية جديدة.

 

إقليم آبيي
آبيي منطقة سودانية واسعة، تقع في وسط الحدود بين الشمال والجنوب، مساحتها 10460 كلم2، تقطن قبائل «المسيرية» العربية الرعوية في القسم الشمالي منها وقبيلة «الدينكا نقوق» الجنوبية السوداء في القسم الجنوبي.
يمتاز الاقليم بغناه الطبيعي بالماء والاعشاب والمستنقعات، كما تم اكتشاف احتياط نفطي كبير فيه منذ ثمانينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من توقيع عدد من الاتفاقيات حول ادارته وتوزيع الثروة فيه بين الشمال والجنوب قبل استقلال الاخير فإن عدم الاتفاق على ترسيم واضح للحدود حتى الآن في هذه المنطقة، جعله بؤرة نزاع ونزف وصدام بينهما منذ فترة طويلة. وقد اراد قادة الشمال والجنوب أن يجعلا منه جسرًا للتواصل والحوار، ولكنه قد يصبح معبرًا لتجدد الصراع والحرب بينهما بسبب وجود ايادٍ خارجية كثيرة في الجنوب وبخاصة إسرائيل.

 

المراجع:
• مجلة السياسة الدولية - العدد 184- ابريل 2011 - لماذا تتفكك الدول؟
• مجلة السياسة الدولية - العدد  185 - يوليو 2011 - حسابات الدول الوليدة.
• www.google.com
• www.wikipedia.org.