دراسات وابحاث

دول حوض النيل وأزمة سد النهضة
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

هل يلغي «طريق التوابل» الجديد الإتفاقات القائمة؟

 

ترددت في الفترة الماضية وما زالت، اصداء أزمة حادة ما بين مصر وإثيوبيا على خلفية مباشرة الدولة الإثيوبية بناء سد النهضة على نهر النيل الأزرق، احد اهم روافد نهر النيل والذي ينبع من الهضبة الإثيوبية.
تتمحور الأزمة حول الحقوق المائية لكل من الدولتين وعدم التزام اثيوبيا مبدأ إشعار مصر مسبقًا بخططها على الرغم من وجود اتفاقات والتزامات دولية ما بين دول حوض النيل ترعى الحقوق المكتسبة وفق قواعد القانون الدولي والعرف والعادة.


نهر النيل
يعتبر البعض أن النيل بالنسبة الى مصر ليس شريانًا للحياة فقط، بل هو جزء من الوجدان العميق لأبناء هذا الشعب على مر العصور، تغنى به الشعراء، ودبُجت فيه القصائد، باعتباره واهب الحياة، وسر الوجود. وقد قامت على ضفتية أقدم الحضارات وارقاها ومن هنا قال هيرودوت قبل اكثر من الفي عام: «مصر هبة النيل»...
يقع نهر النيل في القارة الأفريقية وهو يجري وينساب من الجنوب باتجاه الشمال ويصب في البحر الأبيض المتوسط شمالي مصر. النيل أطول أنهار الكرة الأرضية ويعتبر مع نهر الفرات «أغزر نهرين في الوطن العربي». ويرفد النيل نهران رئيسان: النيل الأبيض والنيل الأزرق. ينبع النيل الأبيض في منطقة البحيرات العظمى في وسط أفريقيا، وأبعد مصدر ينبع من جنوب رواندا، ويجري من شمال تنزانيا إلى بحيرة فيكتوريا، إلى أوغندا ثم جنوب السودان. أما النيل الأزرق فيبدأ في بحيرة تانا في أثيوبيا ويجري إلى السودان من الجنوب الشرقي ثم يجتمع النهران بالقرب من العاصمة السودانية الخرطوم.
يبلغ طول النهر 6650 كلم تقريبًا، ويغطي حوض النيل مساحة 3.4 مليون كلم2، ويمر مساره بعشر دول إفريقية تعرف بدول حوض النيل.

 

دول الحوض
هو مصطلح يطلق على عشر دول إفريقية يمر فيها نهر النيل (بالإضافة إلى أريتريا كمراقب)، مخترقًا أراضيها، لا توجد فيها منابع تصب فيه، أو تجري عبرها الأنهار التي تغذيه.
أما دول الحوض فهي من الجنوب الى الشمال: تانزانيا، الكونغو الديمقراطية، بوروندي، رواندا، كينيا، أوغندا، جنوب السودان، السودان، إثيوبيا، إرتريا، ومصر.
للنيل اهمية كبرى في اقتصاديات دول الحوض التي تعتمد عليه في الزراعة وصيد الأسماك والسياحة وتوليد الطاقة الكهربائية. ويرى بعض الخبراء الاستراتيجيين أن حوض النيل يشكل اليوم فضاء جيوستراتيجيا بالغ الاهمية لأنه يتقاطع سياسيا مع مسارح المحيط الهندي والشرق الأوسط وافريقيا. وبالإضافة الى موارد النيل الطبيعية فإن في حوضه كمًا هائلًا من البترول والنحاس والماس واليورانيوم والاخشاب، وهذا ما دفع القوى الدولية القديمة كبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، والقوى الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل، الى التدافع والتزاحم بهدف الحصول على الثروة واكتساب النفوذ في دول هذا الحوض. وهذا يعني مزيدًا من «التهافت الدولي» الجديد على الموارد في القارة السمراء، وهو ينعكس تدخلًا هنا وهناك، مما يؤدي الى اعادة ترسيم حدود وتفكيك وتركيب للإقليم وفق مصالح هذه القوى ونفوذها. وربما هذا ما شهدنا نتائجه في السودان وما زلنا نشهد بعض تفاصيله وصوره في أفريقيا والمنطقة العربية منذ مطلع القرن الحالي.

 

لمحة تاريخية
شكلت الإمكانات الهائلة التي يوفرها نهر النيل مطمعًا للقوى الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر والتي تحكمت في دول حوض النيل في تلك الفترة؛ فبينما كانت بريطانيا تحكم قبضتها على مصر والسودان وأوغندا وكينيا، كانت ألمانيا تحكم قبضتها على تنزانيا، رواندا وبوروندي، كما قامت بلجيكا في الوقت نفسه بالسيطرة على الكونغو الديمقراطية والتي كانت تعرف في ذلك الوقت باسم زائير.
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أوزارها، قسمت مستعمرات الإمبراطورية الألمانية بين كل من بريطانيا وبلجيكا؛ فحصلت إنجلترا على تنزانيا، بينما حصلت بلجيكا على رواندا وبوروندي، وبقيت إثيوبيا دولة مستقلة. وقد رعت هذه الدول الأوروبية عددًا من البروتوكولات والاتفاقات لتوزيع مياه النهر اهمها: بروتوكول روما 1891، اتفاقية أديس أبابا 1902، اتفاقية لندن 1906، واتفاقية مياه النيل 1929.
ومع انتهاء السيطرة البريطانية على مصر والسودان في الخمسينيات من القرن العشرين، تم توقيع اتفاقية نهر النيل العام 1959 لتقسيم مياه النهر، هذا التقسيم ترفضه اليوم غالبية دول حوض النيل وتعتبره جائرًا.

 

مشروع سد النهضة الاثيوبي
يطلق عليه ايضا اسم سد الألفية الكبير، وهو سد قيد الإنشاء على نهر النيل الأزرق احد اهم روافد نهر النيل وذلك قرب منبعه من اثيوبيا، ومن المرتقب انجازه بحلول العام 2017، ومن المقدر له ان يصبح اكبر السدود الكهرمائية في القارة الأفريقية، وتقدر كلفته بنحو 5 مليارات دولار اميركي، كما تقدر طاقته الانتاجية بـ 6 آلاف ميغاواط من الكهرباء.
يرى بعض الخبراء أن هذا السد سيؤثر على حصة مصر من مياه النيل مما يشكل تهديدًا للأمن القومي المصري، لأنه سينهي الحصص التاريخية لمصر والسودان والتي تبلغ 55 مليار م3 ونصف لمصر و18 مليار م3 ونصف للسودان، التي اكدتها اتفاقية العام 1959. وستكون نسبة النقص بحدود 20% من هذه الحصص، في وقت تنخفض فيه حصة الفرد المائية ويزداد عدد السكان الذي سيقارب المئة مليون في مصر خلال هذا العقد. وكذلك ستتأثر كمية الطاقة الكهربائية التي يولدها السد العالي ومساحات الأرض المروية، مما سينعكس سلبًا على الحياة والاقتصاد والتنمية في مصر.

 

الوضع القانوني لنهر النيل وحقوق الدول المشاطئة
إن غياب اتفاقية تضم كل الدول الإحدى عشرة المشاطئة لنهر النيل، وغياب هيئة دولية دائمة لإدارة النهر وتطوير الانتفاع به، وإعلان بعض دول المنابع (كإثيوبيا) أحيانا عن تحفظها بالنسبة لما تسميه الانتفاع المنصف بمياه النهر والقواعد التي تحكم حقوقها في مياهه، إنما يطرح تساؤلات حول حقوق والتزامات كل دولة من هذه الدول.  
ولما كانت مصر، من بين كل دول حوض النيل، إضافة إلى كونها دولة المصب، تعتمد على النيل كمصدر رئيس، أو بالأحرى كمصدر وحيد للمياه المستخدمة في أغراض الشرب والزراعة، فإن أي اقتطاع للمياه من حصتها، يستتبع انخفاضًا في كميات المياه المتاحة، سيترتب عليه ضرر بليغ.

 

الاتفاقيات الخاصة بتنظيم استغلال مياه نهر النيل
إن غياب اتفاقية عامة تضم كل الدول المشاطئة لنهر النيل لا يعني أن هذه الدول لم تصل بعد إلى اتفاقيات تحكم تفاصيل تعاونها اللازم أو تعهداتها بشأن مياهه. فالواقع أنه توجد كثرة من هذه المواثيق التي ترتبط بها دول الحوض مع بعضها بعضا، منها:

  • 1- البرتوكول الموقع بين بريطانيا وإيطاليا العام1891  بشأن تحديد مناطق نفوذ كل منهما في شرق إفريقيا، والذي نصت المادة الثالثة منه على أن إيطاليا صاحبة السيادة على الحبشة آنذاك، تتعهد بألا تقيم على نهر عطبرة أية إنشاءات للري، من شأنها أن تؤثر تأثيرًا محسوسًا في كمية مياهه التي تصب في نهر النيل.
  • 2- مجموعة المعاهدات المعقودة بين بريطانيا وإثيوبيا، وبين إيطاليا وإثيوبيا بشأن الحدود بين السودان المصري - البريطاني وإثيوبيا وإريتريا، والموقعة في أديس أبابا في 15 أيار1902. ويتعهد الإمبراطور مينليك الثاني (ملك ملوك الحبشة)، بموجبها بألا يقيم أو يسمح بإقامة أية أعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط، يكون من شأنها تعطيل سريان مياهها إلى نهر النيل، إلا بالاتفاق مع حكومة بريطانيا وحكومة السودان المصري - البريطاني.
  • 3- الاتفاق المبرم بين بريطانيا وحكومة دولة الكونغو، والموقع في لندن في 9 ايار 1906، والذي تتعهد الكونغو بموجب المادة الثالثة منه بألا تقيم أو تسمح بإقامة أية منشآت قرب (أو على) نهر سميليكي أو نهر آيسانجو، يكون من شأنها تخفيض كمية المياه التي تصب في بحيرة آلبرت، إلا بالاتفاق مع حكومة السودان المصري - البريطاني.
  • 4- المذكرات المتبادلة بين بريطانيا وإيطاليا في كانون الاول من العام 1925، والتي تعترف فيها الحكومة الايطالية بالحقوق المائية السابقة والمكتسبة (التاريخية) لمصر والسودان في مياه النيلين الأزرق والأبيض، وتتعهد بألاّ تقيم في أقاليم أعالي تلك الأنهار أو فروعها أو روافدها أية منشآت من شأنها تعديل كمية المياه التي تحملها إلى نهر النيل بشكل محسوس.
  • 5- اتفاقية مياه النيل بين مصر وبريطانيا بالنيابة عن السودان، وكينيا وتنزانيا وأوغندا في العام 1929، والتي تقضي بتحريم إقامة أي مشروع من أي نوع على نهر النيل أو روافده أو البحيرات التي تغذيه إلا بموافقة مصر، لا سيما إذا كانت هذه المشروعات ستؤثر في كمية المياه التي كانت تحصل عليها مصر، أو في تواريخ وصول تلك المياه إليها . ويعد هذا الاتفاق، الذي أخذ شكل المذكرات المتبادلة بين مصر وبريطانيا، علامة بارزة في تاريخ نهر النيل، حيث أظهر اعتراف الأطراف بمبدأ الحقوق المكتسبة، كما حظي فيه مبدأ التوزيع المنصف بالاعتراف ايضًا.
  • 6- اتفاقية لندن المبرمة بين بريطانيا (نيابة عن تنجانيقا) وبلجيكا نيابة عن رواندا وبوروندي) في 23 تشرين الثاني 1934، والتي تقضي مادتها الأولى بأن يتعهد الطرفان بأن يعيدا إلى نهر كاجيرا قبل وصوله إلى الحدود المشتركة لكل من تنجانيقا ورواندا وبوروندي، أية كميات من المياه يكون قد تم سحبها منه لغرض توليد الكهرباء.
  • 7- المذكرات المتبادلة بين مصر وبريطانيا (نيابة عن أوغندا)  ما بين تموز  العام 1952 وكانون الثاني 1953، بشأن اشتراك مصر في بناء خزان أوين، الذي أنشئ فعلًا العام 1954 لتوليد الطاقة الكهربائية من المياه في أوغندا، والتي اتفق فيها الطرفان على رفع منسوب المياه في بحيرة فيكتوريا، كما اتفقا على التعويضات التي تمنح لأهالي أوغندا الذين يصيبهم ضرر جراء ارتفاع منسوب مياه البحيرة، والذي من شأنه زيادة حصة مصر من مياه الري، وتوليد كهرباء تضمن مزيدا من الطاقة لكل من أوغندا وكينيا. ويعد هذا الاتفاق مثالا واضحًا على التعاون والتنسيق بين بعض دول حوض النيل، حيث يضمن قيام مصر بالإسهام المالي في بناء الخزان بغرض توليد الكهرباء لاستخدامها في أوغندا، مقابل زيادة حصة الأولى من مياه النيل لأغراض الري.
  • 8- اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه النيل (1959) بين مصر والسودان بشأن إنشاء السد العالي، وتوزيع المنافع الناجمة عنه بينهما، والتي تعد في الواقع مثالا يحتذى في مجال التعاون بين الدول المشاطئة للأنهار الدولية لاستغلال مياهها. فقد سعت هذه الإتفاقية إلى تحقيق نفع مشترك لكل من الدولتين من دون إجحاف بالحقوق التاريخية لكل منهما،  او الإضرار بحقوق باقي دول الحوض. وأكدت احترام الحقوق المكتسبة لطرفيها، وحددت هذه الحقوق بدقة حسمًا لأي نزاع.
  • 9- أبرمت مصر وأوغندا في ايار العام 1991 اتفاقية بشأن مشروع إنشاء محطة لتوليد الكهرباء على بحيرة فيكتوريا، كانت أوغندا قد تقدمت به إلى البنك الدولي لتمويل عملية إنشائه. وقد تضمن هذا الاتفاق التزام أوغندا تمرير التصريفات الطبيعية وفق المعدلات المعمول بها وقت إبرام الاتفاق، كما تضمن التزامها ما سبق أن اتفقت عليه الدولتان عند إنشاء خزان أوين.
  • 10- وقع الرئيسان المصري والإثيوبي (تموز العام 1993) اتفاق القاهرة، الذي وضع إطارًا عامًا للتعاون بين الدولتين لتنمية موارد مياه النيل، وتعزيز المصالح المشتركة. وقد تضمن هذا الاتفاق في أحد بنوده تعهدًا من الطرفين بالامتناع عن أي نشاط يؤدي إلى إلحاق ضرر بمصالح الطرف الآخر فيما يختص بمياه النيل. كما تعهدا بالتشاور والتعاون في المشروعات ذات الفائدة المتبادلة، عملا على زيادة حجم التدفق...

 

طريق توابل جديد أم بناء قواعد عسكرية سرية؟
إن قيام أثيوبيا ببناء السدود على النيل أمر لا يمكن فصله عما يجري في الإقليم عمومًا من صراعات عربية وايرانية واسرائيلية، وارتباط هذه السياسة الأثيوبية بمصالح الطبقة الحاكمة في البلاد وتناغمها او تقاطعها مع المصالح والسياسات الأجنبية، وكذلك لا يمكن اغفال دور الدول الكبرى الصاعدة كالصين والهند والتقليدية كدول اوروبا والولايات المتحدة الاميركية وصراعها على المصالح والنفوذ في الاقليم و في أفريقيا والعالم.
ويرى بعض الكتاب الاميركيين أن الادارة الاميركية ومنذ عهد الرئيس بوش الأب قد أسست ما يمكن تسميته «طريق التوابل الجديد» في افريقيا لتوصيف الطريق السريع الذي تسلكه الدول الغربية والولايات المتحدة الاميركية لنقل الوقود والمعدات العسكرية برًا وبحرًا إلى شبكة متزايدة من مستودعات الامداد والقواعد العسكرية التي تستخدم في تعزيز الوجود العسكري والنفوذ الاميركي والغربي في القارة الافريقية، في وجه التمدد الصيني، وذلك انطلاقًا من المحيط الهندي وحتى المحيط الاطلسي عبر القارة الافريقية.
ولكن من المهم هنا أن نشير الى دور اسرائيل المتنامي داخل الإقليم والذي تجسد في فصل جنوب السودان واستقلاله، كذلك تدخلها في اثيوبيا ومضيق باب المندب والبحر الأحمر لضمان حرية سفنها وغواصاتها للمراقبة، وتسهيلًا لعملها في حال قررت خوض حرب ضد ايران. كذلك لا يمكن إهمال الدور الاسرائيلي في الضغط على مصرمن خلال اثيوبيا وليّ ذراعها من خلال تهديدها بأمنها القومي المائي والاقتصادي، ومطالبتها بحصة من مياه النيل لري منطقة النقب. وربما سيكون تحقيق هذا المطلب احد شروط التفاوض بين اثيوبيا ومصر لحل مشكلة سد النهضة في ما بعد.  

 

المراجع:
- مجلة السياسة الدولية – العدد 191 يناير 2013 – مؤسسة الاهرام – القاهرة – مصر (النهر المتأزم) ملف العدد.
- المصدر نفسه – العدد 193 – الافتتاحية: بقلم رئيس التحرير أبو بكر الدسوقي: سد النهضة وحتمية العودة لإفريقيا.
www.siyassa.org.eg
www.ar-wikipedia.org/wiki