- En
- Fr
- عربي
على ضفاف الكلمة
مزارع في العقد السابع من العمر، يستميل الناظر إليه، بزيّه الفرنسي القديم، وقامته المربوعة السمينة، ووجهه المنبسط الذي اختلطت فيه الخطوط الحمراء بالزرقاء، وارتسمت على صفحاته متاعب الحياة وتجارب السنين.
التقيته صدفةً ذات يوم وأنا أمارس رياضة العدو على إحدى طرقات منصورية المتن، فتبادلنا التحية والسلام، ثم نظر إليَّ بابتسامة عريضة، وكأنه وجد في طلّتي شيئاً من ملامح ابن القرية، الذي يميل بفطرته إلى البساطة ويعشق الطبيعة بزرعها وضرعها وترابها، ولو شاءت الظروف أن يهجرها زمناً طويلاً.
كان ذلك اللقاء بدايةً للتعارف والتحادث بيننا في أمورٍ كثيرة، حيث علمت منه أنه مالك معظم بساتين الليمون في تلك المنطقة، يعنى بمفرده بها، فيقوم بحراثتها وريّها وتشذيب أشجارها، ثم بيع محصولها على رصيف الطريق ومن دون أي مساعد.
سألته ذات مرّة مستفسراً عن عدم وجود أبنائه إلى جانبه، فطأطأ برأسه وتنهّد عميقاً وقال:إنهم منهمكون في الدراسة والتجارة، وليس لديهم أي وقت إضافي للعمل معي، وحين وجدني غير مقتنع بهذه الإجابة أردف قائلاً: يا صديقي في الحقيقة هم لا يحبّون الأرض ولا العمل في الزراعة، وقد طلبوا مني عدة مرّات بيع هذه البساتين أو تحويلها إلى مشاريع سكنية، وحجتهم في ذلك دائماً، أنَّ مشاريع كهذه تدرّ عليهم مبالغ هائلة من المال، تفوق أضعافًا مضاعفة مردود الزراعة، فتعلي من شأنهم الاجتماعي، وترفعهم إلى مصاف أثرياء البلدة وأشرافها.
استطردت في الحديث وقلت: ولماذا لم تلبِ رغباتهم كما يزعمون؟ فعاجلني بنظرات ثاقبة وقال: يا أخي، أتعلم أن هذه البساتين قد ورثتها كلّها عن أبي الذي ورثها بدوره عن جدّي، ولم أشترِ أي جزءٍ منها بعرق جبيني، وقد أوصاني والدي قبل أن يرحل عن الحياة الدنيا، بأن لا أبيع شبراً واحداً منها كائنةً ما كانت الظروف والمصاعب، أتدري بأني قد تزوجت وكوّنت أسرة من خمسة أشخاص، ربيتهم وعلمتهم وأكفيتهم بفضل خيراتها التي لا تنقطع؟ فكيف لي أن أبيع شيئاً ليس لي في الأساس، وأن أغضب روح والدي التي أتلمّس ظلّها فوق كلّ غصن وزهرة وذرّة تراب؟
ثم فرضاً لو تخليت عنها وتعريت من ثيابي، هل من حقِّي ساعتئذٍ كمواطن أن أتغنّى ببلادي، وأنا لا أملك فيها قطعة أرض واحدة؟ ألا يستبسل الجندي في الدفاع عن أرضه ويضحّي في سبيلها حتى آخر نقطة من دمه، أليست الأرض أساس وجود الوطن، والناس تأتي وترحل، وهي وحدها الباقية إلى الأبد؟
بهذه الكلمات الكبيرة ختم حديثه معي وختمت مؤيداً له ومتعاطفاً معه إلى أبعد الحدود.
في أحد أيام الشتاء، فوجئت وأنا أمرّ في المكان عينه بمشهد غريب يوحي بحصول أمر خطير، إذ وجدت صناديق خشبية محطّمة وحبّات من الليمون مبعثرة في كلّ اتجاه، وبقعاً حمراء تخضّب جدار الطريق. سألت بعض العابرين عن الأمر، فجاء الردّ أن ديمتري آدم قد قضى نحبه نتيجة حادث سير مأسوي، بعد أن صدمه أحد الشبّان المراهقين حتى الموت وهو يقود سيارته بسرعة جنونية. أمّا أنكى ما في الموضوع كما علمت لاحقاً، فهو أنَّ الصبي الأرعن، كان في حالٍ من العصبية الحادّة عند حصول الحادث بسبب خلافٍ مع صديقته في الجامعة.
ما كاد ديمتري آدم يرحل عن الوجود، حتى قفزت أشجار الليمون من مكانها، قبل أن تقتلعها أنياب الآلات المتوحّشة من جذورها، ويفتك بها الأبناء الطامعون، فإذا بالجنائن الغنّاء تستحيل قلاعاً شاهقة متراصّة من الإسمنت، تنطح برأسها غيوم السماء، وإذا بالنسوة الحالمات الطامحات، يطردن منها أسراب الشحارير والبلابل إلى غير رجعة، ولاأدري اذا كنّ في ذلك على حق، لأنّ تلك الجنائن قد صارت أقفاصاً للأرواح وربما صناديق للأموات!