متاحف في بلادي

ذاكرة الفن الأصيل وحكايات أهله
إعداد: جان دارك أبي ياغي

متحف الموسيقى العربية

في ذاكرته الفريدة حكايات كثيرة عن أحداث فنية مثيرة وساخنة، وفي متحفه الموسيقي أعمال رواد الفن، الجديرين بلقب "عمالقة"، والذين تخطى عطاؤهم حدود المعقول، فباتوا أسياد زمانهم، ودخلوا التاريخ ليسيروا على درب الخلود.

استطاع روبير الصفدي، أن يؤرخ للموسيقى والغناء العربيين، وأن يعمل على توثيقهما بأحدث الطرق العلمية، فتحوّل الى مرجع لا بديل عنه لكل مهتم محترف ولكل مستمع ذواق للطرب الأصيل والحناجر الذهبية العملاقة.

على امتداد أربعين سنة تقريباً، حرص روبير الصفدي على جمع ما هو نادر وقيّم وأصيل من الفن اللبناني والعربي، حتى أصبحت مكتبته ­ المتحف تضم ملايين الأغنيات والمقابلات التلفزيونية والإذاعية والسهرات الخاصة.

وسـط كفرشـيما، تلك المنطـقة الهادئة التي تركن على تـلة خضـراء من تـلال جبـل لبـنان، يقـع "متحـف الموسيقـى العربـية"، الذي استـقر هناك منـذ العام 1983 بعد رحـلة طويلة من البحـث والتنقيب. مجلة "الجيش" زارت المتحف الفريد من نوعه والذي يعتبر أهم متحف موسيقي في الشرق الأوسط.

 

حلم تحوّل الى متحف

خمسة ملايين أسطوانة تعود الى ما بين العامين 1900و1975، جمعها روبير الصفدي بإتقان، على مدى أربعين عاماً أمضاها متنقلاً بين مصر وسوريا والكويت ولبنان، يتقفى آثار الفن.

تختصر المكتبة ­ -المتحف حقبة تاريخية هامة تبدأ بالعام 1900 ­- ظهور أول أسطوانة في العالم العربي -­ وتنتهي عام 1965­- تاريخ انقراض الأسطوانة وظهور الكاسيت.

روبير الصفدي مؤرّخ موسيقي وباحث فني وهو ˜"مستودع" الحكايات الفنية المشوّقة. فمكتبته الموسيقية ذاكرة وذاكرته مكتبة. وفيهما وثائق واعترافات ومذكرات وذكريات لأهل الفن.

يروي لنا الصفدي أنه في بداية جمعه لهذه الأعمال لم يكن يحلم حتى في أن تتسع مكتبته الى حد يجبره أن يخصص لها شقة كاملة مجاورة لشقته جعلها ˜متحف "الموسيقى العربية"، تضمّ ملايين الساعات الغنائية.

أول ما يصادفك لدى دخولك من الباب الرئيسي رفوف خشبية تحمل ما خلفه الموسيقار محمد عبد الوهاب وكوكب الشرق أم كلثوم، من روائع اللحن والطرب.

1800 أسطوانة بين مقطوعات موسيقية وألحان بصوته وصوت غيره، وأغنيات كرّس عبد الوهاب حياته في إنتاجها، و350 أغنية حصيلة حقبة تاريخية كانت أم كلثوم إحدى رموزها.

وتختزن الأسطوانات مجموعة أم كلثوم كاملة، من أولى أغنياتها لأحمد صبري النجريدي حتى آخر أغانيها للموسيقار عبد الوهاب، الذي أعطاها أول أغنية وهي في الـ66 من عمرها، وأكملت رحلتها الفنية معه، وختمتها بعشرة من أعماله، تعتبر "˜أنت عمري" و"˜أنت الحب" و"˜دارت الأيام" من أروعها. هذا بالإضافة الى أكثر من 500 أغنية لفريد الأطرش، 205 أغنيات للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، ونحو 1000 أغنية للشحرورة صباح، وأكثر من 1000 أغنية للسيدة فيروز.

الى هذا، صور تجمع روبير الصفدي مع مشاهير وعظماء، اكتظت بها الجدران على طول المسافة المؤدية الى غرفة صغيرة، لا تتسع لأكثر من شخصين، غطت جدرانها رفوف خشية وصلت حتى السقف، واعتلتها أسطوانات أثرية تختصر جيلاً كاملاً.

في هذه الغرفة أيضاً نسخ أصلية لأسطوانات قديمة وآلات تسجيل وقطع الكترونية يستخدمها لإعادة تسجيل الأعمال القديمة والحديثة على السواء. وهي بمثابة مطبخ يعدّ فيه كل ما ينوي إضافته الى رفوف مكتبته وأرشيفه الخاص. في الجهة المقابلة يمتد الصالون على طول 35 متراً، مسرحاً صغيراً للحفلات العائلية الطربية، يستقبل فيه الفنانين (من أصدقائه) . ليحيوا سهرات طربية، سجل الصفدي معظمها. وبذلك جمع إضافة الى أسطواناته التاريخية، أعمالاً نادرة وأشرطة عديدة يقتصر تواجدها على مكتبته وأرشيفه.

 

أعمال نادرة

بين الأعمال المحفوظة، نجد ألحاناً وأغنيات لفنانين كبار رحلوا قبل ظهور أول أسطوانة، وانتقلت أعمالهم في ما بعد على أيدي تلامذتهم، أمثال محمد عثمان الذي توفي عام 1895، فذهبت معظم أعماله هباء باستثناء تلك التي عرفناها بصوت محمد عبد الوهاب، زكريا أحمد، سلام حجازي، داود حسني... ألخ.

كما نصادف مقطوعات موسيقية وأغنيات خاصة مجتزأة من مسرحيات وأفلام انتقاها الصفدي بحذر وسجلها على أسطوانات، ثم ضمّها الى أرشيف الفنان، ولا سيما أعمال السيد درويش ( 1923-­1892) ومسرحياته الـ28، والتي تتضمن 233 أغنية، أعاد الصفدي تسجيلها وحفظها في مكان آمن. وهي الطريقة ذاتها التي اتبعها مع أم كلثوم، فريد الأطرش، عبد الوهاب، رياض السنباطي، فتحية أحمد، ابراهيم حمودة، عبد الغني السيد...

ويحكي الصفدي أن بدايـة شهـرة فـريد الأطـرش كانـت مع ˜"يا ريتني طيـر لاطير حواليـك" التي سـجلها أمير البغـدادي إيليا بيضا، إلا أنه اضطر أن يحذف منها مقطعين كاملين:

 

"يا ريتني علكة تعلكني      وبين أسنانك تزركني                                           

               وتشدّ عليّ وتفركني"

 

"يا ريتني فرشة لاضمك           وأحنّ عليك مثل أمك

            وما أخلي مطرح غير ما أشمك"

 

ومن ثم تتالت أغنياته العظيمة أمثال "˜من يوم ما حبك فؤادي" -­ ˜"كرهت حبك"- "­ ˜نشيد بورسعيد"...

ولم يكتف الصفدي بجمع الأسطوانات وحفظها، إنما خصص كل فنان بأرشيف خاص يتضمن سيرة حياته، مجموع أعماله مع ذكر المؤلف والملحن، تاريخ صدور كل عمل وظروف صدوره. حتى أصبح بذلك المرجع الوحيد الذي تستفيد منه وسائل الإعلام اللبنانية والعربية ومن دون أي مقابل.

 

 عبد الوهاب الشرارة الأولى

مهما طال الكلام عن مكتبة روبير الصفدي الموسيقية وفرادتها ­- كونها الوحيدة في العالم العربي التي أقيمت بمجهود شخصي -­ يبقى الحديث عن حياته ومشواره الطويل في البحث والتنقيب مشوّقاً وممتعاً. ولروبير الصفدي مع الفن حكاية طويلة لا يعرف بداياتها ولن يكون لها نهاية، فوالده كان عازف كمنجة وعازف مندولين، وزوج خالته الملحن الراحل حليم الرومي، كان رئيس الدائرة الموسيقية في الإذاعة اللبنانية. من بين سبعة أبناء كان روبير الوحيد المغرم بالموسيقى، استهواه الفن في سن مبكرة جداً. وكانت الإذاعة اللبنانية "˜ملاذه الوحيد" وكانت "˜الخرجية" الوسيلة المثلى للوصول الى الإذاعة هرباً من المدرسة، لمشاهدة العمالقة عن كثب ولا سيما الموسيقار محمد عبد الوهاب.

منذ الطفولة أحسّ بميل غريب تجاه عبد الوهاب، توّجه بصداقة حميمة في ما بعد، حتى بات "وهابي" الطابع. وقد ورث عنه ˜"أجمل خصاله وأبشعها"، ولا سيما هوسه بالنظافة، إذ تعتبر زجاجة السبيرتو مرافقته الدائمة والتي لا يمكنه أن يتخلى عنها.

ترك لبنان بعمر صغير وانتقل الى الكويت حيث كانت الإنطلاقة. وفي التاسعة عشرة من عمره اشترى مسجلة وأسطوانة "يا مسافر وحدك وفايتني" للموسيقار عبد الوهاب، فكانت الشرارة الأولى التي مهدت لدخوله في ˜دهاليز البحث والتنقيب.

وبدأت الأسطوانة تهيئ للأخرى، وكان كلما زاد مدخوله، ازداد بالمقابل عطاؤه للمكتبة، حتى تمكن في نحو 20 سنة من احتواء مجموعة عبد الوهاب كاملة، من أول أغنية له عام 1911 حتى آخر أغنية عام 1991، قبل وفاته بأربعة أشهر.

وقد حداه حبه لعبد الوهاب الى تمضية خمس سنوات بحثاً عن أغنية له، كان قد غناها للملك فاروق يوم عيد ميلاده.

وكان الصفدي آنذاك مديراً لشركة في الكويت، وعلم صدفة أنه توجد في مصر أغنية "قالوا لي إيه الشباب، قلت الشباب غنوة"، فترك الكويت، مكان عمله وإقامته، وتوجه الى مصر، ونزل لمدة شهر في الفندق يبحث ليل نهار عن الأغنية حتى وجدها. والأغنية هي من أجمل ما غنّى عبد الوهاب، وتقول في أحد مقاطعها:

 

" يلي أماني الشباب يحييها عيدك                الليلة عيد الشباب الليلة عيدك

 دعاني داعي شبابك قمت لبيتك              ومن كثر غيرتي عليك في القلب

                     خبيتك وقلتا لك يا فاروق القلب دا بيتك"                          

 

وكان عبد الوهاب يسعى للحصول على لقب من الملك فاروق، وقد لحّن له مجموعة كاملة أبرزها:

"هل السلام في مواعيدك" "و˜أنشودة الفن"، ˜"أنزلت آية الهدى"، "آلام الخلق"... جمعها روبير الصفدي بمجهود شخصي.

روبير الصفدي أمضى حياته باحثاً منقباً يجوب البلاد العربية للعثور على أسطوانة يضمها الى مجموعاته لتزيد مكتبته غنى وثروة.

وبعدما استكمل مجموعاته والتي بلغت خمسة ملايين أسطوانة عاد الى لبنان عام 1983، ليستقر مع مكتبته ويقدم المساعدة لكل من يحتاجها.