قضايا معاصرة

رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي
إعداد: لمياء المبيّض البساط

دور تسونامي التكنولوجيا في المشاريع التحديثية

 

من الإنترنت وكلّ ما يرتبط به، إلى الإنسان الآلي أو الـRobotics، مرورًا بالذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو، يشهد العالم راهنًا نقلة جديـدة يصحّ وصفها بـ«تسونامي التكنولوجيا».
إنّها ثورة من شأنها أن تغيّر الكثير من مستقبل الوظائف، وكذلك من الأولويات التربوية وخصوصًا لجهة التشديد على بناء ثقافة التعلّم المستمر Lifelong Learning، وضرورة إيجاد آليات السوق لتوفيرها بشكلٍ مستدام.

 

إذا كان المطلوب من القطاع العام أن يؤدّي دور الميسِّر الناظم والمراقب للأنماط الجديدة، وأن يتفاعل مع جيل الشباب لتنمية الاقتصاد الرقمي الذي يسهم في توفير فرص عمل، فإنه معنيّ مباشرة أيضًا، في عدة جوانب من عمله، بالتطوّر الهائل الذي تحمله الثورة التكنولوجية.
وتتجّه الدول والاقتصادات إلى اعتماد التكنولوجيا والروبوتات Robotics في المشاريع التحديثية الضخمة للأجهزة الإدارية والخدماتية في القطاعين العام والخاص على السواء.
فتقنيّات البيانات العملاقة Big Data توفر اليوم للدول القدرة على مكافحة التدفقات المالية غير المشروعة.
أما تكنولوجيا الفضاء، فتساعد السلطات في تحديد مواقع الخطر المحتمل، كالأعمال الإرهابية والقرصنة وتهريب المخدرات، وتساعد في مراقبة آبار النفط وخطوط الأنابيب، وتسهم في الحفاظ على البيئة، إذ إنّها تكشف التسرّبات النفطية في المحيطات وعلى اليابسة بسرعةٍ، وتساند عمليات التنظيف.
كذلك، فإنّ التحوّلات الرقمية تطاول عمليّة اتخاذ القرار وطريقة إعداد السياسات العامة، بما توفره الرقمنة Digitization من قدرة على نقل المعلومات وتحليلها، وما ينتجه الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية Biotech والثلاثية الأبعاد 3D printing من طرق جديدة لإنتاج الخدمة العامة وإيصالها وتوزيعها واستهلاكها وغير ذلك.
في ضوء هذا الواقع، ينبغي على القطاع العام اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الاستثمار في البنى التحتية الرقمية والاتصالات، والعمل على توفير نظم وتشريعات تواكب السرعة التي تتطور فيها التكنولوجيا.
كذلك، يجب أن يضمّ القطاع العام قياديين وأصحاب قرار يتمتعون بمعارف ومهارات وسلوكيات متجددة، تعزز القدرة في الدولة على استشراف المستقبل والتخطيط له بشكلٍ أفضل بالاستناد إلى سلّم قيم. وتستطيع مراكز التدريب الإسهام في تعزيز القدرات في هذا المجال على عدة مسارات:


• الاستثمار في المهارات الرقمية - إدارة البيانات:
على الموظف الجمع بين معارفه المتخصصة في مجال محدد، وبين استخداماته للأدوات والتقنيات التكنولوجية للتحليل الرقمي ومعالجة المعلومات المعقدة وتفسيرها. وبالتالي، ثمة حاجة ماسة إلى تعزيز المهارات الرقمية، وينبغي التركيز في المستقبل على تطوير المهارات التي يتمايز فيها الإنسان عن الآلة، كمهارات التحليل والابتكار وحل المشكلات، والتفكير المنظم Systemic Thinking ودمجها في خطط التطوير الوظيفي أو المهني.

 

• أمن المعلومات والأمن السيبراني:
يترافق الترابط المتزايد للبيانات الضخمة والاستخدام الآلي وإنترنت الأشياء وتطبيقات أنظمة الحكومات المفتوحة، مع فجوة كبيرة في مهارات الأمن السيبراني. بالتالي، ثمة حاجة ماسة إلى تحديث قاعدة المعارف الحالية للموظفين وتعزيز كفاياتهم باستمرار لمكافحة الجريمة السيبرانية وردع التهديدات المستمرة عبر الإنترنت.

 

• تعزيز المهارات الريادية Entrepreneurship Skills:
أصبحت مهارة الريادة والفضول الفكري/ العملي أساسية أيضًا لتعزيز قدرة الفرد على التعامل غير التقليدي مع المعرفة المتاحة، وإنتاج أفكار وإيجاد حلول مبتكرة للمشاكل. إلا أنّ الأمر يتطلب أولًا بيئة إدارية حاضنة وحوافز تشجيعية للابتكار.

 

• الحوكمة التشاركية:
يشكّل الانفتاح والإبداع اثنين من أبرز عناوين الثورة الصناعية الرابعة، وهذان العنوانان يستدعيان الخروج من الطابع التقليدي إلى حوكمة تشاركية تتّسم بالمرونة Flexibility والشفافية Transparency والرشاقة Agility.

 

• المهارات القيادية وإدارة الابتكار في القطاع العام:
تشكّل مسألة تعزيز قدرات كبار المسؤولين حجر أساس لنجاح الإدارة والابتكار في القطاع العام، إذ يقع على كاهل هؤلاء الكوادر حضّ إداراتهم على الابتكار وتأمين بيئة متكاملة وآمنة لإدارة البيانات، وصوغ السياسات والإجراءات اللازمة؛ كل ذلك في ظل غياب الرؤية السياسية وشحّ في الموارد المالية، وهذا يعني نمطًا جديدًا من التوظيف ومن التعلّم المستمر.

 

• القدرة على اتخاذ القرار المالي الصائب وصرف الأموال بما يحقق القيمة الفضلى من إنفاق المال العام:
إنّ تعزيز الكفايات الاقتصادية والمالية هو أداة أساسية لتعزيز الأداء المالي للدولة ولمكافحة الفساد. وقد بدأنا في معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي بإعداد إطار للكفايات المالية في القطاع العام، وهو يحتاج اليوم إلى استكمال ونقاش وتطبيق، وإلى اعتماده رسميًا من قبل المسؤولين في الدولة.
وختامًا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مواكبة «تسونامي التكنولوجيا» مرتبطة إلى حدّ كبير بموضوع الحرية. فمجتمعاتنا تعاني قضمًا للحقوق والحريات الأساسية، واستسهالًا لولوج الخصوصيات، وهذه مسائل جوهرية في عالم التكنولوجيا يتوجّب علينا طرحها للنقاش العام، لأنّ لا إبداع إذا كان مقيّدًا بالرقابة.
كذلك، يتوجّب طرح المسائل الجوهرية التي تؤثّر بشكلٍ مباشر في منهجيات التعلّم في المدارس والجامعات، وبالتالي في إنتاج جيل الداخلين إلى سوق العمل في الدولة، كمنطق تجميع الشهادات بدل بناء الكفايات، والحفظ بدل التفكير النقدي والإبداع، وانتظار الأمر بدل المبادرة، والتقليد بدل الحداثة.
ومن المطلوب أيضًا، طرح مسائل فعالية مؤسسات الدولة وشفافيتها وقدرتها على تغليب منطق الجدارة في التوظيف بدل منطق المحسوبية والتوظيف السياسي والاجتماعي، فلا إطار الكفايات ولا التدريب يعطي إدارات مرنة ومبادِرة ومنفتحة ورقمية وشريكة، إن لم نجرؤ على إعادة النظر بتكوين الثروة البشرية في الدولة. وعملنا كمعاهد إعداد وتدريب لا يترجم تنافسية وفاعلية وحداثة إن لم يرتبط بنظرة متجدّدة إلى دور الدولة وحجمها وتكوين قدراتها البشرية.