ذكرى الاستقلال

رئيس الجمهورية في رسالة الإستقلال

لبنان أمانة في أعناقنا...
فلنعمل معًا لإعلاء صوت الحكمة والشجاعة والإعتدال

وجّه فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان من قصر بعبدا، رسالة الى اللبنانيين لمناسبة الذكرى الـتاسعة والستين للاستقلال، في حضور هيئات قضائية ونقابية وجمعيات تعنى بحقوق الانسان.
في ما يلي نص الرسالة.


أيها اللبنانيون
عيد الاستقلال مناسبة لاستذكار فرح الحرية والانعتاق من كل سيطرة أو تبعية أو احتلال؛ ولتقويم مسيرة العقود التي مضت، بحلوها ومرّها، بإنجازاتها وإخفاقاتها؛ ولاستنهاض عزم جديد، للمضي في تطوير صيغة خياراتنا السياسية الفضلى، وتحديد رؤى مستقبلية واضحة، على قاعدة ميثاقنا الوطني، واستكمال عملية بناء دولة الاستقلال على أسس راسخة، على الرغم من المصاعب والتحديات. عيد الاستقلال مناسبة قبل كل شيء، كي نعيد تأكيد حبنا للوطن وولائنا المطلق والحصري له، واستعدادنا للتضحية في سبيله، وبذل كل غالٍ ونفيس، كي يبقى على الدوام، حرًا، سيدًا، عصيًا على الدسائس والمؤامرات والفتن.
ولا يستقيم الاستقلال في هذا الظرف الدقيق من تاريخنا، ولا يصدق الحب للوطن، أيها اللبنانيون، ويا أهل السياسة والفكر والرأي، إذا لم نحدد لأنفسنا مجموعة أولويات نلتزمها، وأبرزها واجب الابتعاد عن كل قول وعمل، من شأنه جر لبنان إلى الفتنة الداخلية، أو إلى أتون النزاعات الإقليمية، وذلك في موازاة واجب مواصلة السعي لتعزيز مجمل قدراتنا الوطنية المقاومة والرادعة، والتوافق، بحسب ما دعوت إليه، على استراتيجية وطنية للدفاع عن لبنان وحمايته في مواجهة أي خطر أو عدوان أو احتلال، تحافظ على مصلحة الوطن وعلى دور الدولة المركزي ومسؤوليتها في إدارة الشؤون المصيرية؛ ذلك، في وقت ما زلنا نسعى فيه لإلزام إسرائيل تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701 بكل بنوده، بمساعدة مشكورة من قوات الأمم المتحدة العاملة في الجنوب.
لقد سعت الدولة خلال السنوات الأربع المنصرمة لتثبيت دعائم الأمن والاستقرار، وهو واجبها الأول تجاه أبنائها، وشرط أساسي من شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومحفز لتشجيع المغتربين على العودة، ورجال الأعمال على الإقدام والاستثمار؛ وقد نجحنا إلى حد بعيد في تحقيق هذا الهدف، بما تمكنّا من تلافيه من نزاعات داخلية أو خارجية مسلحة، وبما عرفته البلاد من ارتفاع في معدلات النمو، قاربت الثمانية في المئة.
وعندما لاح خطر الانزلاق إلى دائرة العنف منتصف هذا العام، على خلفية النزاع الدموي المفجع الدائر على الأراضي السورية، سارعنا للدعوة إلى استئناف أعمال هيئة الحوار الوطني، بموازاة ما اتخذته القوى الأمنية والجيش من تدابير حازمة لحفظ الأمن. فجاء «إعلان بعبدا» الذي أقرته الهيئة بتاريخ 11 حزيران المنصرم، بما تضمنه وبلوره من ثوابت وتوجهات، بمنزلة خريطة طريق فعلية للبنان، من شأنها تجنيبه التداعيات السلبية الممكنة للأزمات الإقليمية وللعنف القائم من حولنا، ومساعدته في العبور إلى شاطئ الأمان، بعيدًا من لعبة الأمم، وقد وقعنا في شركها طويلًا، ودفعنا أثمانها الباهظة، قتلًا وتشريدًا وبؤسًا، وحري بنا اليوم أن نكون أكبر من هذه اللعبة المدمرة، لا أصغر منها، اذا أردنا المحافظة على ذواتنا واستقلالنا وتلافي الوقوع في شركها من جديد.
والواقع أننا أحطنا التوافق الميثاقي الذي توصلنا إليه بشبكة دعم وأمان إقليمية ودولية، من خلال الاتصالات التي أجريناها مع الدول الشقيقة والصديقة الفاعلة، فكان أن ترجم هذا التأييد ببيانات صادرة عن مجلس الأمن الدولي وعن المجلس الوزاري للاتحاد الأوروبي والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، تشيد كلها بمضمون «إعلان بعبدا» وبما ذهب إليه من دعوة إلى التحييد والاستقرار والحوار. وهذا دعم سياسي دولي واضح ومستمر، فكيف لا نستفيد منه لمصلحة لبنان وخيره؟ ونعمل على تعزيز سيادتنا وتنقية سياستنا الداخلية والخارجية من الشوائب التي اعترتها؟
وعلى الرغم من ذلك، لم يتورع البعض، بدوافع شتى، منها التعاطف أو الارتهان، عن توريط أنفسهم بطرق مختلفة في منطق العنف الإقليمي والمصالح الإقليمية، ومن تعريض لبنان لمخاطر الانزلاق نحو منحدرات الفتنة؛ في وقت عرفت الأوضاع الأمنية اهتزازات خطيرة، بدأت بحوادث الشمال، مرورًا بأعمال الخطف، ومحاولة إدخال كميات كبيرة من المتفجرات، وصولًا إلى جريمة اغتيال اللواء الشهيد وسام الحسن؛ فأصبح الاقتصاد إلى حد بعيد، ومن ضمنه الحركة التجارية والسياحية والصناعية، رهينة الأمن والتوتر السياسي، على الرغم من دينامية الاقتصاد اللبناني ومقدرته على التأقلم وتخطي الصعاب، وخصوصا مع انفتاح آفاق استثمار ثرواتنا من النفط والغاز.

 

أيها اللبنانيون
إن لبنان أمانة في أعناقنا، وقد جاهدنا لنيل استقلاله، والتزمنا إعلاء بنيانه. والواجب يفرض علينا اليوم، في وجه ما يلوح أمامنا من مصاعب، وما يساور المواطنين من مخاوف، تنقية القلوب، والعمل بعزم وحسن نية وإخلاص على إزالة ما يعترض مسيرتنا من عقبات، وإعادة الثقة إلى لبنان والبريق إلى رسالته، على نحو ما تجلى بامتياز في مناسبة زيارة قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر التاريخية للبنان.
يبدأ ذلك من خلال التزام بنود «إعلان بعبدا» وروحه، لتحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية، ومنع استعماله منطلقًا لتهريب السلاح والمسلحين، من دون التنكر لواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقة، بما في ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم، ومن دون التنكر كذلك لواجب تقديم الرعاية الإنسانية اللازمة للنازحين السوريين بمساعدة ضرورية من المجتمع الدولي، في انتظار توافر الشروط المناسبة لعودتهم إلى بلادهم. من هنا إدانتنا الشديدة للعدوان الإسرائيلي الوحشي المتكرر على غزة وأهلها، ومطالبتنا المجتمع الدولي بفرض وقف فوري لهذا العدوان.
كذلك يجب العودة أيها اللبنانيون، في كل وقت وظرف، إلى منطق الحوار ونهج الاعتدال، تمكينًا للتشاور القائم من إيجاد حلول ومقاربات عملية ومتوافق عليها، للخروج من حال التأزم والقلق السائدة على مساحة الوطن منذ اغتيال اللواء الشهيد وسام الحسن؛ بموازاة السعي الحثيث والدؤوب لكشف المسؤولين عن هذه الجريمة النكراء، وعن كل من تسبب بزعزعة الأمن والاستقرار وإيذاء المواطنين الأبرياء، وسوقهم إلى العدالة.
جوهر الاستقلال أيها اللبنانيون، يفرض التخلي عن الرهانات المتناقضة على الأوضاع الخارجية، وعن أي منطق استقواء أو غلبة يتناقض مع روح الميثاق الوطني؛ فالرهان لا يجوز على حساب مقدرتنا الذاتية على التوافق، ولا على حساب الوطن ومنعته، فهو مساحة عيشنا الحر والمنزل الجامع، والتاريخ لن يرحم المجازفين والمخالفين.
وتستدعي الضرورة، كما يفرض الواجب على جميع الأفرقاء في مثل هذه الظروف الدقيقة، الإقدام على الحوار بقلب منفتح وبصدق، عوض البحث عن الذرائع والحجج لتعطيل هذا الحوار أو تقييده بشروط مسبقة، أو التشكيك بأهلية المتحاورين ووطنيتهم.
ولنعلم أن حسنة ما يوفّره النظام الميثاقي من مشاركة تحتم على كل مكوّن من مكوّنات المجتمع أن يضطلع بدور في رفع التشنجات الفئوية إذا ما حصلت، وأن تعمل كل فئة على تقريب وجهات النظر وتحقيق المصالحة والتفاهم بين فئة وأخرى، إذا ما وجدتا نفسيهما على طرفي نزاع. لذا ندعو إلى التجاوب مع كل مبادرة شجاعة في هذا السبيل.
أما الانتخابات النيابية المقبلة، فكيف يجوز لنا أن نسمح بأن تشكل سببًا لزعزعة الاستقرار، وقد دأبنا على الاعتزاز بتقاليدنا الديموقراطية في هذا الشرق، وفي صلبها التداول الدوري والسلمي للسلطة؟ وكيف نتنكر لها ونحجم عن إجرائها، في وقت باتت الانتخابات سمة الدول العربية التي تتلمس طريقها نحو الديموقراطية؟
لذلك، عقدنا العزم على احترام كل الاستحقاقات الدستورية وعلى إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها، بعيدًا من أي ترهيب أو ترغيب، بصفتها خيارًا أرقى من خيار التأجيل والإرجاء. وتاليًا، إذا ما وضعنا هذا الهدف نصب أعيننا، واستبعدنا التأجيل في أي حال من الأحوال، فلا بد أن يقودنا ذلك إلى التشاور والتوافق على قانون انتخاب عصري جديد آمل في أن يسمح بكسر حدة الاصطفاف الطائفي.
خيارنا الديمقراطية، منذ الاستقلال.
وفي وقت بدأ محيطنا العربي يتحول تدريجًا نحو الإصلاح والديموقراطية، فلنستفد من الظرف الناشئ، لتحسين ممارستنا الديموقراطية وترسيخها على قاعدة الحداثة والقيم.

 

أيها اللبنانيون
لا يستقيم الاستقلال ولا تقوم الأوطان إذا لم يستقم فيها العدل.
وما التقاء الجسم القضائي المستقل وهيئات الرقابة والمحاسبة هذا العام في هذا الصرح، لمناسبة رسالة الاستقلال، وبعيد استكمال التعيينات الواجبة على رأس هذه السلطات والإدارات، إلا لتأكيد عزم الدولة على المضي قدمًا في سعيها لتحقيق العدالة، والاقتصاص من المجرمين، ومحاربة الهدر والفساد، والتزام مبدأ المحاسبة والمساءلة، والمحافظة على حقوق المواطنين.
ذلك أن التطورات الإقليمية والأزمات السياسية الظرفية، على جديتها، ومحاولات الترهيب، لا يمكن أن تثني الدولة عن متابعة مسيرتها، أو أن تدفع بالمؤسسات الشرعية إلى التراجع أو التخاذل.
دعوتي المتجددة إلى أهل السياسة وأصحاب السلطة والنفوذ في عيد الاستقلال اليوم، هي عدم التدخل في شؤون القضاء، وعدم توفير أي غطاء لأي مجرم أو مخالف أو مرتكب، وذلك كي يشعر رجل الأمن ورجل القانون بالطمأنينة إلى أنه يحظى، كما هو مفترض، بالغطاء السياسي والرسمي، وكي يشعر المرتكب من جهته، بأنه لا يحظى بمثل هذا الغطاء، وبأنه لن يكون بإمكانه الإفلات من يد العدالة.
ودعوتي الموازية إلى الأجهزة الأمنية والرقابية هي الحزم، وعدم التهاون في كشف وملاحقة أي مخالفة أو جرم، أكان الأمر يتعلق بتهديد أمن الدولة، كمحاولات التفجير والاغتيال، أو باستعمال غير جائز للسلاح في الداخل، أو بأعمال خطف أو ترهيب، بالقول أو بالفعل، للمواطنين أو للرعايا الأجانب، أو بتهريب في الجمارك، أو بمخالفات بناء، أو تعديات على الأملاك العامة البرية منها والبحرية، أو باستهتار بسلامة الغذاء، أو تزوير للدواء، أو ترويج للمخدرات، أو تلويث للبيئة، أو رشوة وفساد، أو بأي إخلال بحقوق المواطنين.
هذا نداء الواجب، وما نذرت القوى الأمنية نفسها لتحقيقه، بدعم من السلطة السياسية وبمواكبة القضاء. والقضاء اللبناني، مدعومًا من الحكومة والشعب، مدعو بدوره إلى عدم الارتباط بأي جهة سياسية أو الارتهان لها، أو الخضوع لأي ضغط أو ترغيب، وعدم التواني عن تنقية صفوفه، وإلى الإسراع في إصدار القرارات الاتهامية في القضايا الجزائية المطروحة عليه، وإصدار الاحكام في الجرائم المرتكبة بحق العسكريين في نهر البارد، والحكم دومًا وفق مقتضيات الإنصاف والعدل. ولا يعود له بالتأكيد البحث عن الملاءمة السياسية في أحكامه، لأن هذه الملاءمة ليست من شأنه، وهو الذي يحكم باسم الشعب اللبناني.
هذه رسالة القضاء وما أقسم القضاة على إنجازه مهما غلت الأثمان وعظمت التضحيات.
ذلك أن خصوصية الدولة، في وظيفتيها الأمنية والقضائية بشكل خاص، هي في أن تستهاب لا أن تهاب، أن تردع لا أن تردع، وأن تفرض سلطتها وسيطرتها بقوة القانون وبأذرعتها الشرعية؛ وإلا فقدت مبررات وجودها كدولة ضامنة للأمن والانتظام العام، وطغت شريعة الغاب، وانتفى الاستقرار، ومعه شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

 

أيها اللبنانيون
هذا بعض هموم الوطن في الأمن قبل كل شيء، وفي الصحة والتعليم وسلامة الغذاء والدواء والخدمات الأساسية؛ وفي كيفية تحسين الأوضاع المعيشية بموازاة الحاجة إلى وعي المخاطر المحيطة بالاقتصاد الوطني وضرورة ترشيد الإنفاق ورفع معدل الانتاجية والقدرة التنافسية.
وهذا هو بعض من الأهداف التي نجدد العهد في مناسبة عيد الاستقلال على العمل من أجل تحقيقها.
أما السياسة وما يرعاها من ثوابت ونظم، فقد تحددت أطرها العامة في وثيقة الوفاق الوطني. حسبنا أن نمضي قدمًا في تطبيق بنودها وتوضيح وتطوير بعض ما التبس فيها من قواعد ومفاهيم، من ضمن ضوابط نظامنا الديموقراطي، وصولًا إلى الدولة المدنية، دولة المواطنة الحقة التي يطمح إليها بشكل خاص شباب لبنان ومثقفوه، والتي تشكل حلم استقلال وطني جديد للأجيال الطالعة.
لا تسمحوا تاليًا، أيها اللبنانيون، للتنافس السياسي المشروع، بأن يخرج من نطاق الممارسة الديموقراطية السليمة، وأن تجرّكم المهاترات والمغامرات بعيدًا من همومكم الفعلية، إلى منزلقات لا تخدم مصالحكم وخيركم وهناء عيشكم والمصالح العليا للوطن. بل فلنعمل معًا، حفاظًا على الاستقلال، لإعادة ثقة اللبنانيين بعضهم ببعض، وتعزيز ثقتهم بالدولة؛ وليعلو دومًا صوت الحكمة والشجاعة والاعتدال، كي يحيا لبنان الرسالة والكرامة والحضارة والسلام.