رحلة في الانسان

راقب شخصيتك...
إعداد: غريس فرح

فقد تكون سبب مرضك!
هل صحيح أن ما يجول في رؤوسنا ويحرّك انفعالاتنا وطرق تعاملنا مع الغير ينعكس مباشرة على وظائف أجسامنا الحيوية، فيحصِّننا ضد الأمراض، أو يجعلنا أكثر استعداداً للإصابة بعدد منها؟
في الواقع، ركّزت الأبحاث الطبية - النفسية خلال العقود الأخيرة على دراسة الترابط بين الشخصية والمرض، وجاءت نتائجها مؤكدة صحّة هذا الاعتقاد إنطلاقاً من حقائق بيولوجية ملموسة أفرزتها جملة فحوصات مخبرية.
الأبحاث المشار إليها والتي تناولت مئات الأشخاص في بيئات إجتماعية مختلفة، اكّدت بشكل قاطع أن الأفكار والمعتقدات والمشاعر النابعة من إتجاهات الشخصية الفردية ترتبط من جهة بنشاط الدماغ الكهرو-كيميائي للشخص المعني، وكذلك بالامتدادات البيولوجية لهذا النشاط من جهة أخرى. وإذا ما علمنا أن الإمتداد البيولوجي للنشاط الدماغي يشمل وظائف الجسم الحيوية وفي مقدمها جهاز المناعة، نفهم بوضوح كيف تؤثر الأفكار المرتبطة بنوع الشخصية في حصول معظم الأمراض، النفسية منها والعضوية.

 

اصحاب الشخصية العدائية معرّضون لأمراض القلب والشرايين
إن الأشخاص الذين يكتسبون شخصية عدائية نتيجة مسببات تربوية وبيئية ووراثية مختلفة، يميلون عموماً إلى إطلاق العنان لنوبات من الغضب والإنفعال لدى مواجهتهم أدنى عقبة، كما يميلون إلى قمع الغير والشك بتصرفاتهم، الأمر الذي يجعلهم دائمي التوتر والاحتقان إنطلاقاً من رغبة مكبوتة بالسيطرة والتشفي. وقد ثبت من خلال الفحوصات المختلفة التي اخضعت لها مجموعات منهم، أن معظمهم يكون عرضة لأمراض القلب والشرايين لأسباب تتعلق بالافرازات الهرمونية المترافقة وانفعالاتهم المتكررّة.
ففي أثناء نوبة الانفعال أو الغضب، يرتفع إفراز هرمون الأدرينالين، وتتدَفّق دفعات منه إلى مجرى الدّم بكميات تفوق النسبة الطبيعية الموجودة في الجسم، الأمر الذي يتسبّب برفع ضغط الدّم إلى مستويات عالية، ويضر مع الوقت بالأوعية الدموية إذ يؤدي إلى تصلّبها.
من جهة ثانية، يرتفع إفراز هرمون الإجهاد «الكورتيزول»، ما يُعطي إشارة إلى الكوليستيرول المنخفض المستوى LDL للتجّمع على جدران الأوعية الدموية الداخلية والإلتصاق بها. وإزاء هذه الفوضى في أداء الوظائف البيولوجية الطبيعية، تبدأ الصفائح الدموية بالتجمع والالتصاق بعضها ببعض لتشكل خثرة في أحد الشرايين الإكليلية، الأمر الذي لا تحمد عقباه، وقد يتسبّب بالوفاة.
الوقاية من النتائج السلبية المشار إليها، لا تنحصر، حسب رأي الإختصاصيين بمحاولة كبت الانفعالات، أو باتباع الحميات الغذائية، بل بالعودة إلى أعماق النفس، وتحليل الأخطاء الموجودة في الشخصية ومحاولة تصحيحها.

 

عدم القدرة على مواجهة الضغوط قد يسبب امراضاً مختلفة
من المعروف أن مواجهة ضغوط الحياة اليومية التي تؤدي الى إلاجهاد (Stress)، تحتاج عملياً إلى شخصية مرنة تسلّح أصحابها بالمقدرة على التأقلم أو التكيّف مع الظروف غير الملائمة. لذا فإن الأشخاص الذين تنقصهم هذه المرونة لأسباب تتعلق بالوراثة والبيئة والتربية، يرزحون عموماً تحت كاهل الضغوط، الأمر الذي يجعلهم عرضة للقلق والإستثارة لأقل الأسباب، ما ينعكس سلباً على وظائفهم العضوية، ويؤدي إلى إصابتهم بأمراض مختلفة.
وهنا تجدر الإشارة إلى نوبات التوتّر التي تحصل نتيجة مواجهة أمور غير متوقعة، فهي تنعكس على صحّة الأشخاص المعنيين بطرق تختلف واستعدادهم الوراثي للإصابة بالأمراض شتى، وهذا يعني أنها قد تتسبب لدى البعض بأمراض في الجهاز الهضمي أو في القلب والأوعية الدموية، وقد تتسبب لدى البعض الآخر بأمراض السرطان أو الأمراض الجلدية والالتهابات المفصلية.

والسؤال المطروح: كيف يتسبب التوتّر أو الإجهاد في مواجهة الضغوط بالمرض؟
إن الانفعالات المختلفة الناجمة عن انعدام القدرة على التأقلم مع الضغوط، تنشأ في منطقة في الدماغ تعرف بـ«اللوزة» (Amygdala)، وتتجه مروراً بالغدة النخامية إلى الغدّة فوق الكظرية مولّدة فيضاً من المواد الكيميائية التي تتوَزّع في أنحاء الجسم وترفع مستوى هرمون «الكورتيزول» الذي يضعف جهاز المناعة ويجعل الجسم عرضة للأمراض المختلفة وعاجزاً عن مقاومة غزوها، وفي مقدمها الأمراض السرطانية. وهنا يشير الاختصاصيون إلى أن الضعف الذي ينتاب جهاز المناعة نتيجة ارتفاع هرمون «الكورتيزول»، يجعل الجسم عاجزاً عن مقاومة نشاط الخلايا السرطانية، والتي تتوافر لديها شروط الانقسام والتكاثر.
من ناحية أخرى، ركّزت إحدى الدراسات على علاقة التوتّر بزحف الشيخوخة المبكر وقصر العمر.
فمن خلال فحوصات مخبرية دقيقة تناولت الصبغيات الموجودة في كريات الدّم البيضاء لدى مجموعتين من السيّدات، إحداهن هادئات والثانية من المتوتّرات، تبيّن أن خلايا أجسام السيّدات المتوترات وأدمغتهن، وخصوصاً اللواتي يعشن ظروفاً حياتية صعبة، معرّضة للشيخوخة المبكرة أكثر من خلايا أجسام السيدات الهادئات وأدمغتهن. والسبب أن ردود الفعل السلبية تجاه الضغوط، ومنها تسارع دقات القلب، والتبادل الكهربائي الدماغي بين الخلايا العصبية يؤدي إلى سرعة تقلّص أطراف الصبغيات في نوى الخلايا قبل الأوان الطبيعي، الأمر الذي يتسبب بالشيخوخة المبكرة، وبالتالي قصر العمر.
 

خطورة كبت المشاعر والنظرة التشاؤمية
يعطي الإختصاصيون أهميّة بالغة للخطورة الناجمة عن الإعتياد على كبت المشاعر، وعن النظرة التشاؤمية إلى الحياة على الصحة. فكبت المشاعر والرؤية السوداوية للحياة لهما الانعكاسات السلبية نفسها التي تتسبب بها سرعة الإنفعال، والتوتر، والتي  تتجلى بسرعة تدفق الهرمونات في مجرى الدّم، وما يرافقها من سرعة دقات القلب والاهتياج والتبادل الكهربائي الدماغي. وقد ثبت بالمراقبة أن النقص في مقدرة التعبير عن النفس وما يرافقها من شعور بالغبن والإحباط، وخصوصاً لدى المتّسمين بالخجل والدونية، يؤدي عموماً إلى بروز أمراض خطيرة في مقدمها أمراض القلب والسرطان ومرض «الزهايمر»، بسبب تدنّي دفاع جهاز المناعة. والذين يكبتون انفعالاتهم لأسباب تتعلق بضعف في شخصياتهم، يدركون حجم المعاناة الذي يفرضه هذا العائق لديهم.
من جهة أخرى، لاحظ الباحثون منذ السبعينيات من القرن الماضي، أن ذوي  الميول الجنسية الشاذة الذين لا يفصحون عن ميولهم هم أقصر عمراً من امثالهم الذين يعبّرون عن مشاعرهم. كذلك ثبت بالدراسات أن الخجولين أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الفيروسية وخصوصاً الزكام والربو. وهذا ينطبق عموماً على الأطفال والمراهقين الذين يعانون مشاكل الخجل والخوف الإجتماعي ونقص التواصل مع أقرانهم.
أما بالنسبة إلى شعور التشاؤم الذي يترافق عموماً مع الشعور بالخجل والنقص، فقد ثبت لدى الباحثين أن تفشي الأمراض الفيروسية وكذلك الربو يتفاقم في صفوف المتشائمين، وخصوصاً الذين يصعب عليهم التركيز على نقاط قوّتهم ومجالات نجاحهم.

 

كيف نعالج هذه النقائص؟
لقد سبق وأشرنا إلى أن الوقاية من إنعكاسات النتائج السلبية لأخطاء الشخصية على الصحّة، لا تنحصر باتباع الحميات الغذائية، أو بمراجعة إختصاصي الصحة بعد استفحال المرض، بل بالعودة إلى الذات، وتحليل ما يجري بداخلها وصولاً إلى مرحلة من الوعي يسهل خلالها التقيد بالنصائح الآتية:
* بالنسبة إلى العدائيين الذين تستبد بهم نوبات الغضب، ينصح بتقييم ردّة الفعل السريعة بعد حصولها وركودها، لمعرفة ما إذا كانت ضرورية، أم أنها فاقت الحد المطلوب.
* إجراء جردة حساب ذاتية لمعرفة ما إذا كانت المشاكل المتسببة بالانفعال السريع، تستحق الأذى الكبير الذي يخلّفه الغضب على الصعيدين الصحي والاجتماعي.
وهنا جديرة بالاعتبار العزلة الاجتماعية التي يمنى بها العدائيون بسبب شجارهم مع الغير، هذا عدا عن سلبية انعكاس إنفعالاتهم على صحّتهم.
* ينصح العدائيون بتقدير ظروف الشخص أو الأشخاص المتسببين بفورات الغضب، وعدَم وضع اللوم عليهم مباشرة، الأمر الذي يهدئ الاحتقان والتشنج ويؤدي مع الوقت إلى تبديل جذري في خطوط الشخصية العدائية.
* ينصح المتوترون والقلقون من المفتقرين إلى قدرة التكيف الاجتماعي، بمراجعة حساباتهم الشخصية ونقاط قوّتهم وضعفهم وصولاً إلى معرفة قدراتهم واستخدامها للإستفادة من فرص النجاح.
* لتفادي إنعكاسات كبت المشاعر السلبية على الصحة، ينصح بالتدرّب تدريجياً على التخلص من الخجل ومن الشعور بالنقص واكتساب الثقة بالنفس.
والأفضل الإستعانة باختصاصيين في التأهيل المعرفي السلوكي، للتعرّف إلى أخطاء الشخصية والعمل على إصلاحها.
* ينصح بممارسة الرياضات الروحية ومنها التأمل، وكذلك الإستماع إلى الموسيقى لتهدئة الإنفعال والتخلص من الكبت ورؤية الحياة بطريقة أفضل.