وجهة نظر

رحلة مع القدر
إعداد: جورج علم


يترنّح الزورق التائه، فوق عباب موج صاخب، يطوف بأمل غائر في سواد العتمة، على متنه عيون جاحظة، وقامات ملتوية، وهمم مترهّلة، نساء، وأطفال، شيوخ ورجال، قوافل، قوافل على موعد مع القدر، عسى ألاّ يتأخر، فتتثاءب الفضيحة.
 

الربيع يغيّر رداءه
ليست المعاناة حكرًا على مكان وزمان، ولا هي لصيقة فئة أو مجموعة، إنها من نتاج متغيرات مدفوعة بشعارات، ومرتبطة بأجندات خارجيّة مدققة، ومقترنة بوقائع فظيعة، حيث يهرق الدم، وتدمّر الأبنية، وتندثر المقتنيات، وتبعثر عواصف الحقد ألعاب الأطفال، وتبدد أحلامهم الورديّة. أخطأت الانتفاضات - بغالبيتها - طريقها، انطلقت نحو أهداف محددة، وفجأةً أصبحت في أماكن أخرى، وانشغالات مختلفة، ومصير قاتم، وفوضى خلاّقة تنتج المزيد من الكيديات، والفئويات، والانقسامات، والانفعالات... كان هناك وطن، فتشقق الكيان، وتفسّخ، وتشلّع إلى كيانات مبعثرة، منفعلة، حاقدة، مسعورة. يحصل كلّ ذلك، فيما الضمير الإنساني في إجازة، ربما قسريّة، كون الأيدي الملطّخة معروفة. إنها «مربى دول» ومخابرات، ومن كل جنس ولون، بعضها يرسم الأطر، بعضها الآخر يحدد الدوائر الحمراء، وبقيّة تصنّع الخناجر، وبقيّة أخرى تتقن فنون الطعن. لم يكن قايين محسوبًا على فئة، ولا هابيل على فئة أخرى، كلّهم يتألّبون على هذا الشرق المنكوب، كلّهم يصبغون ربيعه بالأحمر القاني. لم تكن الجريمة بشعة إلى هذا الحد، لو تركوا الربيع ربيعًا يفرش بساطه، يزهو، تتفتّق براعمه، يزهر، يموج عطرًا واخضرارًا، يدغدغ الأقحوان وشقائق النعمان، لكن المؤامرة غيّرت رداءه، كانت ثرثارة إلى حدّ أنها حوّلت الانتفاضات إلى مآتم منفلشة على مساحة الوطن العربي.
ينشغل العالم بالرياء، وتلفيق الأعذار، فيما نوافير الدماء، تلطخ الوجدان، لقد تشوّهت الشفافية، وطفح كيل الشرق الأوسط، وجرفت أنهر المآسي تربة الضمير، غرق من غرق، وطفر من طفر، وعمّ السيل الأمكنة. لم يعد من مساحة آمنة لا في عباب الماء، ولا في عباب السماء، تحوّل النزوح إلى رقم. تحوّلت جنائن الأطفال إلى مقابر، تقمّص برج بابل من تحت التراب، في كلّ عاصمة من عواصم دول القرار، اجتماعات، بيانات، مواقف، ووعود كثيرة. لكن ما بين كلّ هذا الضجيج، والحقيقة، هوّة عظيمة تطمرها جثث عابري البحار، من الشرق الأوسط، إلى الأكفان القدريّة.

 

الرقم والنوعيّة
يتعاطى المجتمع الدولي مع «قضيّة» النزوح، منطلقًا من الرقم، والنوعيّة. يفيض الخزان البشري في الشرق الأوسط - خصوصًا في الدول المبتلية - بأرقام متعددة اللهجات، والهويات، والنوعيات، والثقافات الموزّعة ما بين أقليات، وأكثريات... كما تغريه شعارات من نوع: «الشعب يريد إسقاط النظام». سقطت أوطان، وجماعات، وقوميات، وحلّ الحقد مكان الوئام، والقتل مكان السلام، والدمار مكان الازدهار، تغيّرت الخرائط، تبدّلت الأولويات، لم يعد الطموح يشدّ نحو الحريّة، والديموقراطيّة، والبحبوحة الاقتصاديّة - الإجتماعية، بقدر ما يبرّحه المصير الغامض. لم تعد الفينة تحمل رجاء، لأن المصير برمّته أصبح على كفّ عفريت، نزوح من الداخل إلى الداخل، ومن الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى القدر المحتوم.

 

ثقافة الأحذية
استمعت إلى معلّق سياسي تركي يقارب حدث غرق الطفل السوري إيلان شنبو على سواحل بودروم يقول: «إن ثقافة الأحذية هي الأبلغ لصفع الجباه المجبولة بالتآمر. لقد رفع الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف حذاءه يومًا بوجه العالم، من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، متحديًّا، معتدًّا. كان الاتحاد السوفياتي يومها في ذروة جبرؤوته وعنفوانه... ومضى الطفل السوري الغريق، في طريقه إلى كوباني، ليستريح تحت زيتونتها الدهريّة إلى الأبد، تاركًا نعليه الصغيرين بوجه هذا العالم يصفع بهما تآمره على الضعفاء؟!».
المفارقة قائمة حتمًا ما بين حذاء خروتشيف، و«صندال» الطفل الغريق، إنها مفارقة ما بين القوّة والضعف، والفظاظة والبراءة.. جرس بطرس الأكبر قرع مرّة واحدة وانكسرت طرّته، فأنزل من علوّه ليصمد كشاهد على عظمة القيصريّة في الساحة الحمراء. في حين أن أجراس الطفولة تقرع لكنّ صوتها «لا يودّي»، باستثناء جرس طفل كوباني الذي أقلق الضمير العالمي بتراجيع تلاطم الأمواج فوق جثته الطافية البريئة؟!...
وقف يومًا، رئيس الخليّة أمام المحقق ينفي التهم المنسوبة إليه بتسهيل عملية النزوح من الشواطىء النائيّة. والمفاجأة أنه في معرض الاستجواب اعترف بتركيز عناصر الخليّة التي ينتسب إليها على «اختيار النوعيّة» من صفوف النازحين. الأولوية لأصحاب العيون الزرق، والشعر الأشقر... هذه الفئة من النازحين لا تشكّل علامة فارقة لدى المجتمعات الأوروبيّة، وبالتالي يمكن لأصحاب هذه الملامح التسلّل من دون إثارة الشبهات. بعد ذلك يتمّ التركيز أكثر على اختيار المؤهلات، حملة الشهادات الجامعيّة، وأصحاب الاختصاص، ثم يقع الاختيار على المهرة في المهن الحرفيّة – اليدويّة... إن من يملك مثل هذه المؤهلات يكون مقبولاً من قبل سلطات الدول الأوروبيّة حتى ولو تمّ إلقاء القبض عليه؟!».

 

الأبعاد الثلاثة
ماذا عن السّحنة السمراء، أو أصحاب العيون السود أو الخضر؟!.
يأتي الجواب متحررًا من الشك، كونه يستند إلى يقين علمي - اقتصادي - اجتماعي - ثقافي - بيئي، اعتمدته الدول الحاضنة منذ اللحظة الأولى. هناك فرق كبير بين الاعتبار الإنساني حيث المشاعر الجيّاشة حيال مشاهد الموت، والخراب، والدمار... وبين الاعتبار المصلحي عند الدول الصناعيّة المتطورة حيث النازح مرحّب به وفق مقتضيات المصلحة. والمقاربة هنا دبلوماسيّة بامتياز، وتستند إلى الآتي:
أولًا: من مصلحة الدول الأوروبيّة أن تستقبل النازحين بأعداد تحدّدها مصالحها، وبالتالي كلّ هذا السيناريو الدرامي الذي يرافق رحلة المعاناة التي يواجهها النازح ما بين وطنه الأم، و«وطنه الجديد» مطلوبة، لتلافي أي شروط، أو التزامات ماديّة، أو معنويّة قد تترتب على الدول المضيفة.
ثانيًا: إن النازح فور وصوله إلى مستقرّه الجديد، سيخلع عنه حكمًا ثوب الماضي المهلهل، ليكتسي ثوبًا جديدًا من حياكة المؤسسة الحكوميّة التي تتولاّه، إن لجهة الإقامة، أو العمل، والجنسيّة، واللغة وسواها... وبالتالي مسألة التكيّف ستكون معقدة للغاية، والذي يصمد هو الذي يستطيع أن يتأقلم مع حياة أكثر صرامة، وأكثر التزامًا بأهداب القانون والانتظام العام. هو الإنسان الذي يملك إرادة فولاذيّة تمكّنه من التكيّف مع القوالب والقيود الجديدة الصارمة، لكي يشعر في مكان ما، بأنّ النزوح ليس نزهة نحو الترف الرغيد، بل نحو الواجبات مقابل الحقوق.
ثالثًا: بعد الأزمة الاقتصادية العالمية جنحت غالبية دول الاتحاد الأوروبي نحو الصناعات والمؤسسات الإنتاجيّة الصغيرة في الأرياف والمناطق البعيدة عن العاصمة، وأيضًا عن المدن الكبرى. وأظهرت الدراسات المتتالية أن استمرار هذه المؤسسات الجديدة، والحرص على ديمومتها، وفاعليتها يتطلب أيدي عاملة رخيصة قابلة للانخراط في الحياة الاقتصادية – الاجتماعيّة وفق قواعد قانونية - مسلكيّة صارمة، وهذا ما دفع بدبلوماسية هذه الدول الناشطة في دول الربيع العربي وساحاته، إلى البحث عن النخب في صفوف النازحين، عن المهرة، خصوصًا في مجالات المهن الحرفيّة، نظرًا الى الحاجة الاقتصادية - الإنمائيّة إليها.
وأسفرت الاجتماعات المتلاحقة التي عقدها الاتحاد الأوروبي تباعًا، عن مسارات أمنيّة، سياسيّة، اقتصاديّة، لاستيعاب ظاهرة النزوح، وهو العليم بأن مسرح الشرق الأوسط لم يسدل ستارته بعد، فيما العرض مستمر، وقد أفضى حتى الآن إلى نتيجتين بالغتي الأهميّة:
الأولى: في كلّ كيان من تلك التي رسم حدودها قلم سايكس – بيكو، هناك انتفاضة، وتغيير ديموغرافي، يصاحبه تغيير اجتماعي – اقتصادي – سياسي – أمني. والدليل أنه في بلدان شهدت ربيعًا عربيًّا، يتحدثون هذه الأيام، عن أقاليم مذهبيّة، عن فدراليات طوائفيّة – فئويّة، عن أنظمة حكم ربما «ولدت على الورق»، لكن لم تأخذ طريقها بعد إلى حيّز الواقع. وهذا ما يجعل الدول المتورطة - بشكل أو بآخر - في أعلى مستوى من الجهوزيّة للدفع بالأمور في هذا البلد أو ذاك، نحو مهاوٍ، ومتاهات تقتضيها لعبة مصالحها.
الثانية: إن النسيج الاجتماعي الذي كان مشدودًا في هذه الدولة أو تلك، قبل الربيع العربي، قد شهد تخاذلًا بعده. وبدلًا من أن يتّجه المجتمع صعودًا نحو الدولة الفاضلة، راح يتدرّج نزولًا من المواطنة، إلى الطائفة، ومن الطائفة إلى المذهب، ومن المذهب إلى العبثيّة، ومن العبثيّة إلى الفوضى العارمة... ترى!... من يتحكّم بمسار المجتمعات المغلوب على أمرها في ساحات الربيع العربي، سوى الفوضى؟!...

 

الاستثمار الدولي في الشرق الأوسط
إن الاستثمار الدولي في التغيير الأمني - السياسي - الديموغرافي الذي تشهده عدّة دول في الشرق الأوسط، لكبير جدًّا، وخطير للغاية، والدليل أن «تدخّلاته» لم تعد حكرًا على المؤسسات والقطاعات المنتجة في هذا البلد «المنكوب»، أو ذاك، بل تعدّت ذلك للاستثمار بالإنسان سواء أكان نازحًا، أو «مشروع نازح» في المستقبل القريب... إنها، وبصراحة متناهية، «تجارة راقية» في الرقيق البشري الحديث. و«الداعشيّة» هنا لم تعد سلوكًا إرهابيًّا بمواصفاته المعروفة، ومعاييره المتداولة، بل تحوّلت إلى رقم في المعادلة القائمة على أرض الواقع، كأن يهجّر المواطن من منزله، وأرضه، ليحلّ مكانه الغريب المسلح؟!... أو كأن يتاح المجال لهذا الغريب، الدخيل، أن ينفّذ المهمة المكلّف بها من قبل هذه الدولة الراعية، أو تلك، حتى إذا أنجز ما هو مطلوب منه، يصار إلى إيجاد الوسائل المؤاتية لإخراجه عن خشبة المسرح، أو تدبير وضعه ومستقبله بشكل، أو بآخر؟!.
ولعلّ علامات الاستفهام الكبرى التي رافقت، وترافق التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، لا تزال تنتظر الأجوبة المقنعة، والنتائج الملموسة، لما حقّقه من إنجازات، فيما الالتباس يدور حول محاور أربعة:
الأول: إن الطلعات الجويّة التي شنّها طيران التحالف، ولا يزال، لم تقض على الإرهاب. والخلاصة يتيمة، فإما أنه عاجز، أو أنه لا يريد. وكأن لا مصلحة لدول التحالف في القضاء على التنظيمات الإرهابيّة، قبل أن تحقق الأهداف المكلّفة بتحقيقها؟!.
الثاني: إن الدول الممولة للإرهاب، وتلك التي تمرّر الأسلحة، والمسلّحين، معروفة، ولم تعد بخافية على أحد. بالمقابل هناك قرارات متخذة تقضي بالمراقبة والمحاسبة لتجفيف الإرهاب من منابعه لم تأخذ طريقها نحو التنفيذ، لأن الدول القادرة، وتلك التي «تستثمر بالإرهاب» لا مصلحة لها في المحاسبة.
الثالث: إن النزوح، وموجاته المتتالية، ومآسيه المتلاحقة، قد أحدث ديناميّة على المستوى الدولي تجلّت مؤشراتها من خلال الاجتماعات المكثّفة التي شهدتها أروقة الأمم المتحدة في نيويورك على هامش الدورة العادية للجمعيّة العامة للمنظمة الدوليّة، وأفضى كلّ هذا الحراك إلى ضرورة تسريع الخطى باتجاه إيجاد التسويات الملائمة للملفات الساخنة في الشرق الأوسط، توخيًّا لوضع حدّ للمعاناة الاجتماعيّة - الإنسانيّة.
ويتمحور المحور الرابع حول التغيير الثقافي المرتقب... هناك نظرية خرجت بها مراكز الدراسات الاقتصاديّة الاستراتيجيّة الغربيّة، إثر الأزمة المالية – الاقتصادية العالمية الشهيرة، تفيد بأن الاحتياط المالي الهائل في بعض دول الشرق الأوسط هو في خدمة «المنافع الشخصيّة»، في حين يفترض أن يكون في خدمة المكونات الاجتماعيّة، وما تتطلبه عملية الإنماء.. إنماء الإنسان، والدول، والمناطق، والبيئات الاجتماعيّة، لأنه من غير المقبول أن تخرّج دول ألوف «المليارات من الدولارات»، ألوف الإرهابيين الخارجين من بيئات الفقر، والعوز، والجهل والحرمان؟!...
وأما بعد، فالتغيير آت... ولكن ليس كما يريده ويتمنّاه أهله... بل كما يريده الآخرون!...