ضيف العدد

رحلتي مع الفن التشكيلي

عدنان خوجة

كنت في السابعة عندما أدركت بأن علاقة ما تربطني بقلم الرصاص تختلف كل الاختلاف عن الرغبة في الكتابة ورصف الحرف، فقد كنت أشعر أن باستطاعتي أن أعبّر وبسهولة فائقة بواسطة هذه الأداة البسيطة عن كل ما يحيط بي وأنني قادر على نقل مشاهداتي على الورق ببساطة فائقة. ما لبث أن لفتت هوايتي هذه، الى جانب زملائي، أستاذ الرسم وكان فناناً متواضعاً بدأ يقدم لي النصائح والتوجيهات وبذلك أخذت رسومي الأولى تخطو أولى خطواتها لتحصد إعجاب من كانوا حولي.

وكم كنت سعيداً عندما كلفني أستاذ الجغرافيا ذات يوم برسم خارطة لبنان على اللوح الأسود، ثم تلاه أستاذ الرياضيات في ما بعد وكلفني برسم المسائل الهندسية، كنت قد بلغت العاشرة وكانت سعادتي لا توصف يومها جراء هذا الامتياز.

رويداً رويداً بدأت رسوماتي تتسلل الى جدران المدرسة ثم الى مكتب المدير ملاقية استحسان المدرسين، الى أن حل ذلك الربيع الذي لا أنساه يوم عدت برفقة زملائي من رحلة الى أحد المروج القريبة من مدينتي وفي يدي باقة من الأزهار قدمتها الى مدير المدرسة. ولا أنسى ذلك الصباح عندما دخل الى صفنا أستاذ الرسم وفي يده تلك الباقة بعد أن وضعها في كوب من الماء على الطاولة وطلب إلينا أن نرسمها.

 وكم كانت دهشتي كبيرة في اليوم التالي عندما دخل مدير المدرسة الى صفنا وفي يده اليمنى باقة الأزهار وفي يده اليسرى الرسم الذي أعددته لها وتوجه إليّ بالتهنئة، ثم تحدث بإسهاب عن الفن، وقدّم لي هدية مميزة كانت عبارة عن علبة ألوان مائية وفرشاة صغيرة.

 كان لتلك البادرة دوي هائل في داخلي، ترك أثره في نفسي، وحملته طيلة حياتي، ولم أكن أدري بأن القدر كان مختبئاً خلف تلك الكلمات، وأن علبة الألوان الصغيرة سوف تغيّر مجرى حياة ذلك الطفل فتطلق في داخله طاقة كبيرة محفّزة تجعله يرى الأشياء حوله وفق منظور جديد يختلف كل الاختلاف عن المشاهدة العادية للمرئيات. ويحوّل تلك العين الفطرية الى أداة حساسة، لاقطة تحلل الواقع وتعيد تشكيله بخطوط بسيطة معبّرة وفق تلك الرؤية الفنية المميزة للواقع والأشياء.

 ومع علبة الألوان الجديدة بدأت تخطيطاتي تكتسي بالألوان، وبدأ إحساسي بالمرئيات ينتقل من حيّز الخط الى حيّز اللون وأطلّت الطبيعة تتغلغل الى داخلي، ليس باعتبارها أشكالاً وخطوطاً، بل عناصر حيّة تمتلك إشعاعات بصرية نابضة بالحياة. وبدأت أيضاً التعامل مع المرئيات باعتبارها مفردات لونية تشي بالسحر والعاطفة المكنونة أكثر مما هي صورة مادية للواقع.

 غير أن مشاكلي الأولى بدأت منذ تلك اللحظة حيث اعتبر الأهل أن اهتمامي بالرسم سوف يشغلني عن تحصيل العلم ويدفعني للتقصير في واجباتي المدرسية، ناهيك عن أن مهنة الفن هي الطريق نحو مستقبل مادي بائس. وأخذت الضغوطات العائلية تلاحقني... لذلك اتخذت مكاناً قصياً في غرفة صغيرة فوق قرميد منزلنا الجميل. مكان أشعر فيه بالعزلة والأمان وأستطيع أن أمارس فيه هوايتي دون رقيب، كما أستطيع أن أحتفظ برسوماتي الجميلة تحت سقفه بعيداً عن رقابة والدتي وعيون أخوتي وسلطة والدي.

 لم تكن السنوات التي أمضيتها في الجامعة سنوات هادئة فقد اضطررت لدراسة اختصاصين معاً، الفنون التي أعشقها والقانون تلبية لرغبة والدي الذي رغب في أن أكون رجل قانون. غير أن لوثة الفن كانت أكثر جاذبية لي وأكثر قدرة على تكوين شخصيتي وجذبها الى حياة جديدة توسّد ذلك الحس الهيولي الذي يسكنني تجاه الفن، وتدفعه عبر التكوين الأكاديمي وفق معطيات واسعة ومتشعبة.

 وعاد الزمن ليلعب لعبته وليضعني من جديد أمام عمالقة الفن اللبناني تلميذاً، فكان تقبل رشيد وهبي الفنان الكبير لي بمثابة رضى من الله، وكانت رعايته بمثابة غذاء لروحي. إنه محطتي الأولى مع قطار الفن. أما إيفيت أشقر ­ أطال الله عمرها ­ فكانت محطتي الأخيرة في تلك الدراسة، وبينهما عرفت شفيق عبود ورفيق شرف ­ رحمهما الله ­ اللذين كان لهما الدور الكبير في صقل موهبتي وتدريب عيني، كما كان لأمين الباشا وناديا صيقلي وكثيرين غيرهم فضل الإسهام في تشكيل معارفي وخبراتي الأكاديمية الأولى.

 كانت بيروت في أوائل السبعينات عاصمة ثقافية بامتياز ومحطة دولية للتبادل الحضاري والإقتصادي، وكنت يافعاً أبحث عن دور ما.. بعد التحصيل الجامعي. وقادتني خطواتي الى مهنة التعليم غير أن أمراً في داخلي دفعني للتغيير، فوجدت في باريس عاصمة الفن محطتي الثانية بعد بيروت. ووجدتني على أعتابها أدخل الى عالم جديد مختلف، فيه من الخصب والخير والحرية ما كنت أتوق إليه ومن الثقافة والعلم والمعرفة ما كنت أحتاجه، فهدأت نفسي ورشفت من ذلك الدّن كؤوساً عامرة وجهت دربي نحو مستقبل فني واعد.

 وهناك كانت لوحتي الأولى ومعرضي الأول، ومن هناك كانت انطلاقتي الأولى نحو عواصم أوروبية وأميركية عديدة، حاملاً بين جوانحي أسطورة بلد صغير كان ولا يزال سجلاً للتاريخ، وموئلاً للحضارات، وحكاية طموح لا تنتهي.

 ويوم استفاق الحنين بي عدت الى الوطن في أوائل الثمانينات من القرن الماضي لأذرف دموعاً من الحسرة على عروس الشرق بيروت، ولأترك العنان لريشتي تتلمس برفق تلك الجراح العميقة في وجه ست الدنيا.

 ولم يطل مكوثي فوق أرض تنهشها الأحقاد وترعى في جنباتها قطعان الذئاب المتوحشة، فكان الإغتراب مجدداً ملاذي الوحيد.

 وعدت الى الوطن بعد سنوات فناناً له أكثر من تجربة جدية في أكثر من عاصمة أوروبية وعربية وله معارض منتشرة في أرجاء المعمورة، وقررت أن أساهم مع الذين يرغبون في إعادة بناء الوطن، قررت أن أبني شخصية فنية تستمد من بيئتها ومحيطها عناصر مفرداتها التشكيلية. وهكذا بدأت المشوار الأهم في حياتي، غير أنني لا أزال أتهيّب، وحتى هذه اللحظة، عشية افتتاح كل معرض لي، وأعيش ذلك الشعور الدفين نفسه الذي لازمني طيلة خمس وأربعين سنة يوم كنت فتى وقدم لي مدير مدرستي تلك العلبة من الألوان المائية التي غيّرت مجرى حياتي، ورسمت ملامح مستقبلي، بعد أن خاطبني بعبارات التشجيع التي لا يزال صداها مدوياً في سمعي حتى هذه اللحظة.