رحيل الكبار

رحل “شيخ الموسيقى” وأحد معلميها الكبار

زكي ناصيف نقاوة الفطرة اللصيقة بوطنها وتراثها

 بغياب زكي ناصيف يكبر غياب الكبار ويتسع، وينطفئ قنديل آخر من تلك القناديل النادرة التي سكنت وجداننا عقوداً، وعلّقت في بال كلّ منا ألف نجمة تشع فرحاً وجمالاً. غياب زكي ناصيف الذي ودعناه، موجع ليس فقط لأننا افتقدنا فيه واحداً من العمالقة الذين بنوا بأحجار كريمة صروح ذاكرتنا الفنية بما هي عليه كجزء من هويتنا الوطنية، فالكبار من حجم زكي ناصيف لا يغيبون: أعماله خمرة الكروم التي كلّما عتّقتها الأيام باتت ألذّ وأطيب. لكن الوجع الذي يحفره عميقاً غياب زكي ناصيف يأتي بالذات من هذا الزمن الذي تندر فيه السنديانات العتاق. سنديانات تفيء الى أغصانها أحاسيسنا ويتعمشق بظلها الوارف جزء كبير من أحلامنا وحنيننا، ويتكئ الى جذوعها تراثنا الفني. شيخ الموسيقى و” قمر مشغرة” الذي ندين له بشلالات من الفرح والجمال تهدر في البال، أتى الى الموسيقى من قلبه، وسار دروبها شغوفاً، من طفولته الأولى الى طفولته الأخيرة. فزكي ناصيف حافظ في كل مراحل حياته على تلك الجذوة التي تشتعل في أعماق العمالقة: جذوة الشغف والدهشة النابعة من طفولة لا تشيخ، فكانت أعماله تركيبة فريدة البهاء: تمرّس معلمي الموسيقى المحترفين ونقاوة الفطرة اللصيقة بوطنها، أرضاً وسماءً وتراثاً. في أغانيه شمس البيادر وتألق الكروم. أصوات الحصادين وحقول وفراشات وصبايا، وأحلام وطن يريده أن يرجع ويتعمر، فيغني له بلبلاً يوقظ الفجر وصوتاً صادحاً في البرية. ولد زكي ناصيف في بلدة مشغرة في الرابع من تموز 1916

 

تابع علومه حتى الشهادة الثانوية. وفي العام 1936 التحق طالباً في المعهد الموسيقي التابع للجامعة الأميركية، حيث درس الموسيقى مدة أربع سنوات. في العام 1953  انضم ملحناً الى إذاعة الشرق الأدنى وشارك في مهرجانات بعلبك الدولية. في المعهد الموسيقي تعلم العزف على العود والبيانو وقواعد الصرف والنحو الموسيقي على يد أساتذة روس كان لهم تأثير على موهبته التي تغذت بفضل ما اختزنه عبر السماع. أمه كانت ذات صوت جميل حزين. وخلال مزاولتها أعمال المنزل كانت ترندح “الشروقيات”؛ تلك القصائد الشعبية المتسمة بالرقة والحزن، حفرت باكراً في ووجدانه ووجهت اهتمامه الى الغناء والموسيقى. والده التاجر كان يحضر الى البيت أسطوانات الشيخ سلامة الحجازي والسيد درويش، فيستمع إليها بشغف. وفي وقت لاحق بدأ يستمع الى أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وسواهما من رواد الغناء العربي الأصيل. الموسيقى الكنسية بدورها مارست تأثيراً مهماً على زكي ناصيف، فقد نهل من معينها بعد أن أخذت بأحاسيسه وصار يتابعها بشغف وحب. انطلاقته في عالم الفن تأخرت على الرغم من عشقه للموسيقى. فوالده الحريص على مستقبل ابنه وضعه على طريق التجارة بعد أن أعطاه رأس مال صغيراً يؤسس به تجارة. كان ذلك في العام 1941، غير أن عمله في مجال بيع الجلود لم يستمر إلا ثلاث سنوات حسم خلالها خياراته، وقرر الإنصراف الى كتبه وأدواته الموسيقية، الى أن أصبحت الموسيقى مهنته الوحيدة. ففي العام 1953 دخل زكي ناصيف الى إذاعة الشرق الأدنى التي كان صبري الشريف يرعى القسم الموسيقي فيها. في الشرق الأدنى بدأت مسيرة استثنائية لمجموعة من الموسيقيين الذين رسمت أعمالهم ملامح الأغنية اللبنانية. من هؤلاء: عاصي ومنصور الرحباني وفيروز، وخليل مكنية خال الموسيقي توفيق الباشا، وسامي الصيداوي. الأخوان رحباني قدّما زكي ناصيف الى صبري الشريف وقدّم للإذاعة لحنه الأول. كان اللحن لأغنية من كلمات محمد يوسف حمود يقول مطلعها: “كيف أنساك وفي عيني وبالي، صورة أنت على رحب الخيال”. بتشجيع من صبري الشريف، عمل زكي ناصيف والأخوان رحباني وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي وعفيف رضوان ومحمد محسن، على وضع أغان بلدية ذات طابع فولكلوري. وتألفت عصبة الخمسة التي هدفت الى مواجهة النمط السائد في الموسيقى والأغاني، فيومها كان الغناء مصرياً وبدوياً، ولم تكن الأغنية اللبنانية قد وجدت هويتها بعد. في العام 1956 توقفت إذاعة الشرق الأدنى عن العمل، لكن العصبة ­ وزكي ناصيف أحد أركانها ­ تابعت عملها بدعم من الثري بديع بولس الذي أسس استديو بعلبك متبنياً جهود الموسيقيين العاملين على إرساء نهج جديد في الغناء. الإنطلاقة المهمة للعصبة ونهجها كانت في بعلبك عام 1957 مع انطلاق الليالي اللبنانية في المهرجانات الدولية، حيث قدّم “عرس في الضيعة”؛ في تلك الليالي غنى وديع الصافي من أعمال زكي ناصيف: “طلّوا حبابنا طلّوا” و”لا لا عيني يا لا لا”. أغنيتان احتلتا مساحة واسعة في وجدان اللبنانيين. في مهرجانات بعلبك وجد زكي ناصيف لنفسه خطاً مميزاً يقوم على تقديم الفولكلور في إطار جديد. وهذا الخط تابعه في الإذاعة اللبنانية التي دخل إليها عام 1959، وفي ما بعد في أعماله مع “فرقة الأنوار” التي أسسها سعيد فريحة. قدّمت الفرقة مهرجان الأنوار عام 1960 على مسرح كازينو بعلبك، فكانت “هللي يا سنابل هللي فوق بيادرنا”، و”ليلتنا من ليالي العمر”، وسواها من الأغاني المشبعة بأجواء القرية ومناخاتها وجمالاتها، كلمة ولحناً. فقد مثّلت القرية مصدراً أساسياً لأغاني زكي ناصيف، تذوّق جمالاتها وموسيقاها الآتية من أصوات العصافير والمطر والسواقي، كما من رجع الخطوات في رقصة الدبكة. كتب زكي ناصيف ولحّن مئات الأغاني، بعضها بصوته وبعضها غناها كبار رواد الأغنية اللبنانية: فيروز، صباح، وديع الصافي، نصري شمس الدين، سميرة توفيق، ماجدة الرومي وغيرهم. الأغاني الوطنية التي وضعها أصبحت رمزاً وارتقت الى مستوى الأناشيد التي ترشح عنفواناً وإباءً. “تسلم يا عسكر لبنان”، “راجع راجع يتعمر”، “وطني حبيبي”... وسواها الكثير من الأغاني التي استقرت في وجداننا وما عادت تغادر... “قمر مشغرة”، الدمث، اللطيف، المتواضع، الدائم الابتسامة، المحترف رسم مواسم الفرح، صوتك في البال أغمار رياحين وحنطة...

 

رئيس الجمهورية نعى الراحل

أعرب رئيس الجمهورية العماد إميل لحود عن حزنه لغياب الفنان الكبير زكي ناصيف، واصفاً إياه بأنه أحد أسس الفن اللبناني الذين أطلقوا الأغنية اللبنانية التي حملت معها الأصالة والحداثة. وأكد أن كل من حفظ في ذاكرته محبة لبنان الفكر والكلمة المتفوّقة على ذاتها لحناً وشعراً، يشاطر اللبنانيين حزنهم لفقدان الفنان ناصيف. وإذ أشاد بروح التفاني والزهد التي التزمها الفنان الراحل، اعتبر أن عطاءه كان حتى اللحظة الأخيرة من حياته، بلا حدود، وفي سباق مع الإبداع يحمله من هياكل بعلبك الى السهل، ومن قمم الجبال اللبنانية الى كل سماء سكن في ظلها لبنانيون. وذكّر بإبداعات الفنان الراحل التي زاد على عظمتها روعة أصوات كبار الفنانين اللبنانيين حتى غدت كل قطعة موقّعة باسم زكي ناصيف ارتقاء للذاكرة اللبنانية نحو مزيد من الكمال. ورأى أن ألحان زكي ناصيف كما كلماته، هي بوح من لبنان، ولأنها كذلك فلا يمكن أن تكون إلا رسالة فرح تستمد من إيمانها المطلق بالجمال والحق، انتصارها على الأيام وثباتها في الحياة. وشدد على أن لبنان الرسالة الحضارية يستمد من عطاءات كباره، ومن بينهم زكي ناصيف، زاده للاستمرار مصدراً للتفوّق، فلا أفق له إلا الإعتداد بنفسه لأن إنسانه يبقى ثروته الحقيقية. وختم معزياً كل أهل الفن في لبنان، الذين كان الراحل الكبير يعتبرهم أفراد أسرته، وبالتأكيد أن زكي ناصيف فيما يدخل اليوم الى ضمير الوطن ليستقر فيه، هو من كباره سيبقى يوقظ مع كل طلعة شمس محبة متجددة للبنان لا تنحني إلا للكبر.

 

88 عاماً في خدمة الفن وفرح الإنسان

نعت نقابة الفنانين المحترفين في لبنان الفنان الراحل زكي ناصيف ووصفته بأنه كان “علماً من كبار أعلام الفن ورائد التراث الذي ارتقى بوطنه الى أعلى المستويات الحضارية والفنية التي تجلت بألحانه وشعره في قمم المهرجانات اللبنانية، الموحد للبنانيين بفعل عطائه الإبداعي، وترك لنا صرخته التاريخية “راجع يتعمر لبنان” ليسبقنا الى العالم الآخر بعد 88 عاماً أمضاها في خدمة الفن وفرح الإنسان، وهو كبير مؤسسي نقابة الفنانيين المحترفين”. كما نعت جمعية الملحنين وناشري الموسيقى في لبنان الراحل الكبير، ووصفته بأنه كان من روّاد الأغنية اللبنانية. عمل أكثر من ستين عاماً في مجال الفن، وكانت له اليد الطولى في تعليم أصول الغناء والموسيقى في الكونسرفاتوار الوطني وكونسرفاتوارات خاصة (...)

وذكرت الجمعية في بيان لها “أن الراحل سعى مع رعيله الى إيجاد جمعية للمؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان، وكان رئيسها الفخري، وشارك في الستينات في مهرجانات بعلبك ومهرجانات أخرى، وعمل على إيصال الجملة اللحنية والشعرية الى كل الدول العربية، ويعتبر من آباء إذاعة الشرق الأدنى والإذاعة اللبنانية، وأحد مؤسسي نقابة الفنانين المحترفين”.

 

عندما يرحل الكبار!

تسمع ألحانه فينتقل خيالك الى فصل الربيع حيث تتفتح الأزهار في الحقول، وتتألق الألوان بين العشب الأخضر والشمس الساطعة. إنه زكي ناصيف ابن مشغرة، أسفل الجبل وأعلى السهل، استلهم من الطبيعة ألحانه الخالدة. ففي الحب، عاشقته هي “عاشقة الورد”، وفي الوطن يقول “نحنا صفّينا النية والله معنا”. هكذا بكل بساطة، من عشق الورد الى تصفية النوايا والله معنا، تتحرك مفرداته بين الصخور وفي الروابي الخضراء وعلى الدوالي والعناقيد حتى تخال أنك في جنينة دائمة. رحل زكي، والخوف الكبير هو أن يرحل معه ما ذهب به من مذاهب اللحن والموسيقى، لكن ما يعزي هو ما تركه من ألحان تكفلت التكنولوجيا بالحفاظ عليها واستمرارها، علّها تكون ملهمة لغيره في الأجيال القادمة أو مساهمة في تهذيب أرواح الناس ورفع مستوى الذوق. عندما يرحل الكبار نحسّ بالوطأة، لكننا نحس أيضاً بالمسؤولية الكبيرة.

 

زكي ناصيف ضيف "الجيش"

 في نيسان العام 2000 حلّ زكي ناصيف ضيفاً عزيزاً على صفحات “الجيش”، وهو الفنان الذي صدحت موسيقاه بحب وطنه وجيشه. هنا استعادة للكلمة التي كتبها آنذاك:

 

أول الموسيقى الموسيقى العسكرية

 إذا كانت الموسيقى نوعاً من أنواع التفكير، فهي عندي، من دون أدنى شك تفكير مرتبط بالأرض ومتجذّر فيها. إنها محاولة محببة ولطيفة ورصينة لتحقيق علاقة حب مع الوطن عن طريق إثارة مكامن الخلق الكامن في حنايا الذاكرة والمتمثل في التراث الغابر والفولكلور الذي يحدد انتماءنا ويميزنا عن الآخرين ويطبعنا برسمه. ولطالما كنت أعتقد أن الموسيقى الحقة، قبل أن تكون موسيقى آلات وترية أو نحاسية، إنما هي، في الأساس، كل ما يحيط بنا في قرانا ويؤثر فينا ويجعلنا نصير ما نحن عليه. فللريح في الشتاء موسيقى غير التي تعزفها في الصيف. ولعيون الماء موسيقى تغني الروح وتجوهر الفكر وتليّن العواطف وترقق المشاعر. ولطنين الذباب ورفيف الأجنحة موسيقى غير التي تتناهى الى آذاننا من حفيف الأوراق ووسوسة القمح في سهول البقاع الخيّرة التي شهدت طفولتي وأثّرت في كياني، ومنها أغرف كلّما غامت سمائي أو خذلني الوحي. ولطالما كنت أعتقد أيضاً أن أول الموسيقى إنما كان العسكري منها، الذي يدين بالكثير للطبول والصنوج والأبواق. ومن هنا كان تأثيره كبيراً على بدايات الموسيقى، بشكل عام. ولبنان لم يشذ عن القاعدة، إذ أن أول فرقة موسيقية منظمة تكوّنت في ربوعه إنما كانت عسكرية تشكّلت في بدايات هذا القرن وضمّت الى صفوفها عناصر محلية بإدارة فرنسية، وسرعان ما تحوّلت لبنانية صرف. وما وجـود الفرقتـين الموسيقيتين العسكريتين في الجيش والأمن الداخلي سوى أبلغ دليل على مساهمة المؤسسة العسكرية في رفد الموسيقى اللبنانية بمقومات وجودها واستمرارها. فمن على صفحات مجلة “الجيش” العزيزة، تحية تقدير الى القيّمين عليها، وتحية كبيرة الى العماد إميل لحود، رئيس الجمهورية، والى العماد ميشال سليمان قائد الجيش، والى عناصر الجيش اللبناني المنتشرين في القلوب وعلى كامل الأراضي اللـبنانية لحمايتـنا، على أمل انتشارهم المقبل والسريـع على أرضنا المحتلة في الجنوب والبقاع الغربي.