رحيل الكبار

رحيـل الشيـخ زايـد ويـاســر عرفات

الساحة العربية فقدت اثنين من رجالها الكبار

 

خسرت الساحة العربية خلال تشرين الثاني المنصرم اثنين من رجالها الكبار، فقد ودّعت الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان باني وحدتها ونهضتها، ورجل المواقف القومية والمبادرات الهادفة الى لمّ الشمل العربي ومعالجة الأزمات بالطرق السلمية.
وبعد الشيخ زايد وافت المنية رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات الرجل الذي ناضل من دون كلل عقوداً في سبيل قضية شعبه وأرضه، حتى صار رمزاً لهذه القضية، وظل الرقم الصعب حتى آخر رمق من حياته.

 

الشيخ زايد باني وحدة الإمارات ونهضتها ورجل المواقف القومية
شكّلت مسيرة حياة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، نموذجاً للقيادة الواعية والحكيمة، وبرحيله فقدت الأمة العربية زعيماً كبيراً تميّز بالمواقف القومية وبالنضال من أجل توحيد الموقف العربي.
كان الشيخ زايد أول من دعا الى إقامة اتحاد في منطقة الخليج العربي، وهو لم يدخر جهداً حتى أصبح حلمه واقعاً في العام 1971. ومع قيام الإمارات العربية المتحدة انصرف زايد الى بناء دولة عصرية وفقت بين الإنفتاح على العصر والإستفادة من التقدم وبين الحفاظ على التقاليد العربية والتراث العربي. فشهدت الإمارات في عهده مسيرة نهوض إقتصادياً وعمرانياً وإجتماعياً، وباتت دولة قوية لها مكانتها في الأسرة الدولية.
بعد قيام دولة الإمارات كانت للشيخ زايد حركة نشطة في الدائرة الخليجية، فقد كان من أول الداعين الى إنشاء مجلس التعاون الخليجي الذي أبصر النور في العام 1983.
وعلى الصعيد العربي الأوسع دعا الشيخ زايد الى التآزر والتعاون بين العرب وإنهاء الخلافات بالطرق السلمية وصولاً الى التكامل والتضامن. وفي هذا الإطار كان له دور مهم في تعزيز مختلف جوانب العمل العربي المشترك وتحقيق التضامن بين الأشقاء العرب.
ويشهد للشيخ زايد تميزه بحس قومي رفيع، فقد كانت له مبادرات تاريخية في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، كما كانت له مواقف مشرّفة في الأزمات والمراحل الحرجة.
دافع الشيخ زايد عن حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه وعن عروبة القدس. ويذكر موقفه خلال حرب تشرين عام 1973 حين قال: إن النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي، وبادر الى المشاركة في قطع الإمدادات النفطية عن الدول المساندة للعدو الإسرائيلي. وفي إطار مواجهة عمليات الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة، موّلت الإمارات العربية المتحدة العديد من المشاريع السكنية في القدس، كما موّلت إعادة بناء المنازل التي هدمها العدو الإسرائيلي.
ارتكزت مواقف الشيخ زايد من القضايا والمسائل الكبرى الى مبادئ الحق والعدل والسلام. وهو التزم أربع ركائز أساسية في سياسته ومواقفه. أولى هذه الركائز مصلحة بلاده كجزء من الأمة العربية، وثانيها، الوحدة الطبيعية والتاريخية للدول العربية في الخليج، وثالثها، المصلحة القومية للأمة العربية وأمانيها المشروعة في التحرر والوحدة ومساندة قضية فلسطين، ورابعها، تدعيم الروابط مع العالم الاسلامي وتعزيز السلام العالمي والصداقة والتعاون مع الدول والشعوب على أساس مبادئ حسن الجوار والإحترام المتبادل.
كانت للبنان مكانة خاصة لدى الشيخ زايد وقد تجلى ذلك من خلال العديد من المبادرات والمواقف التي اتخذها، سواء كان ذلك في إطار محاولة إنقاذ لبنان من محنته في الحرب التي عصفت به، أو عبر المساعدات التي قدمتها بلاده لإعادة إعمار لبنان بعد الحرب.
ويذكر اللبنانيون للشيخ زايد العديد من وقفاته المشرّفة والداعمة لوحدته واستقلاله وسيادته. ففي أواخر الثمانينات قال: «لن نسمح مهما بلغ البذل والتضحية بسقوط لبنان، لأن سقوطه هو سقوط العرب وسقوط الجامعة العربية، كذلك لن نرضى بأن تنشأ سابقة السماح بتفتيت وطن عربي، فيما يتفرج اشقاؤه بدون تدخل صريح».
وإذ دعـا مرات عدة الى تحـرّك فوري لإنقـاذ لبنـان من خلال مبادرات ونداءات أطلقهـا، مدّ الشيخ زايد يد العون للبنانيـين، فقدمـت بـلاده الهبات والمساعـدات والودائـع الماليـة في إطـار إعـادة الإعمـار، كما ساهمـت دولـة الإمارات بشكـل فعّال في عمليـات نـزع الألغـام مـن الجنوب بعد التحرير عام 2000.


أبو عمار رمز النضال الفلسطيني والرقم الصعب حتى آخر رمق
محمد عبد الرحمن عبد الرؤوف القدوة الحسيني هو الإسم الحقيقي للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي اشتهر بكنية «أبو عمار». اختار هذه الكنية عندما كان طالباً يدرس الهندسة في جامعة القاهرة، وقد كان اختياره لها إحياءً لذكرى مناضل فلسطيني قتل وهو يكافح الإنتداب البريطاني.
أولى خطواته في الحياة السياسية كانت عام 1952 في إطار اتحاد طلبة فلسطين في مصر. وبعد نجاح ثورة تموز المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، تولى رئاسة رابطة الخريجين الفلسطينيين.
خدم عرفات في الجيش المصري وشارك في المعارك خلال أزمة السويس عام 1956، ومنح رتبة ملازم في الجيش المصري.
اعتنق عرفات فكرة الكفاح المسلح ضد إسرائيل وما لبث أن جسد هذه الفكرة من خلال تأسيس الخلية الأولى لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) بمشاركة مجموعة صغيرة من الفلسطينيين.
في آخر كانون الأول من العام 1964 نفذت «فتح» أول عملية مسلحة في الأراضي الإسرائيلية، وكانت تحت اسم «قوات العاصفة». وكان قد سبق إطلاق الكفاح المسلح تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية برعاية مصر.
في العام 1967 انتقل عرفات الى العمل السري، وفي تموز من ذلك العام توجه سراً الى الضفة الغربية المحتلة فأمضى فيها بضعة أشهر نظم خلالها خلايا «فتح». وفي شباط 1969 انتخب رئيساً للمنظمة التي أصبحت ممثلاً للشعب الفلسطيني، بعد أن كان عرفات قد اكتسب مزيداً من الشهرة كقائد عسكري ميداني. في تلك الأثناء نفذت «فتح» العديد من العمليات الفدائية ضد أهداف إسرائيلية عبر الحدود الأردنية، وتحولت من حركة فدائية الى حركة سياسية شعبية واسعة. غير أن الصدامات التي وقعت بين القوات الفلسطينية في الأردن والجيش الأردني، أدت الى خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن وانتقالها الى لبنان.
تابع عرفات حركته المسلحة، وفي العام 1974 أعلنت القمة العربية في الرباط منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، أعقب ذلك ذهاب ياسر عرفات الى الأمم المتحدة حيث ألقى كلمته الشهيرة التي قال فيها «أتيت الى هنا حاملاً غصن الزيتون بيد وبندقية المقاتل من أجل الحرية في الأخرى. فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي». كانت تلك المحطة من أبرز المحطات في المسيرة الفلسطينية حيث منحت منظمة التحرير صفة مراقب في الأمم المتحدة.
عام 1982 خرج ياسر عرفات من لبنان تحت الحماية الدولية على أثر الإجتياح الإسرائيلي الذي وصل الى بيروت، وانتقل الى تونس التي شكّلت المعقل الأخير لمنظمة التحرير حتى العام 1994.
استطاع عرفات بفضل حنكته ودهائه أن يتجاوز العديد من الأزمات والإنشقاقات التي شهدتها المنظمة وظل مسيطراً عليها. وعندما نجحت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 في كسب التعاطف الدولي، سعى الى استثمار هذا التعاطف من أجل تحريك عملية السلام وإيجاد حل سلمي للنزاع مع إسرائيل. وفي العام  1988دفع المجلس الوطني الى تبني قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 معترفاً بذلك ضمناً بإسرائيل، وفي الوقت نفسه أعلن المجلس قرار إقامة الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. وبعد نحو عام أصبح عرفات رئيس الدولة الفلسطينية.
في العام 1991 عقد مؤتمر السلام في مدريد، وفي العام 1993 وقّع عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين «إعلان مبادئ» عقب مفاوضات استغرقت ستة أشهر وجرت بشكل سري في أوسلو؛ بموجب الإتفاق منح الفلسطينيون حق ممارسة الحكم الذاتي في قطاع غزة ومدينة أريحا لقاء اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، بينما أرجئت الى مفاوضات الحل النهائي قضايا المستوطنات وعودة اللاجئين والوضع النهائي للقدس والحدود.
في أول تموز 1994 عاد عرفات الى غزة بعد 27 عاماً من المنفى وبدأ مسيرة بالغة الصعوبة هدفها بناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. ففي العام 1995 وقّع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين في واشنطن اتفاق الوضع المؤقت الذي مهّد الطريق لإعادة انتشار القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وسرعان ما اغتيل رابين وتعثّرت العملية السلمية.
في غزة شرع عرفات في تأسيس السلطة وأجهزتها الأمنية، وفي كانون الأول 1996 اختير رئيساً للسلطة. أعقب ذلك توقيع سلسلة من الاتفاقيات ماطل الإسرائيليون في تنفيذها، الى أن عقدت قمة كامب ديفيد في تموز 2000 التي لم تنجح بدورها في تحقيق السلام، بسبب تعنّت المواقف الإسرائيلية. وفي العام نفسه اشتعلت انتفاضة الأقصى، ومع تولي شارون مقاليد السلطة بدأت إسرائيل عملية تدمير منهجي للسلطة الفلسطينية وأجهزتها في محاولة لفرض حل من طرف واحد على الفلسطينيين.
في أواخر العام 2001 فرضت الحكومة الإسرائيلية حصاراً عسكرياً على عرفات داخل مقره في مدينة رام الله، وارتفعت أصوات إسرائيلية مطالبة بطرده أو بتصفيته. استمر الحصار حتى أيار 2002 وخلاله أعادت إسرائيل احتلال معظم مدن الضفة الغربية وقراها. بعد ضغوط دولية، تعهد شارون بعدم استهداف عرفات خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، لكن الحكومة الإسرائيلية اتخذت في أيلول 2003 قراراً مبدئياً بإبعاده عن الأراضي الفلسطينية، فردّ بأنه لن يخرج إلا شهيداً. وعلى الرغم من أن القرار لم ينفذ فعلياً فقد اتفقت إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية على عزله، ومورست عليه الضغوط للتنازل عن بعض صلاحياته.
عام 2003 صادق الفلسطينيون على خطة خريطة الطريق لكن إسرائيل رفضت تطبيقها ورفضت التفاوض مع عرفات كما سعت الى فرض مقاطعة دولية له، وطرح شارون خطة الفصل الأحادي الجانب بعد أن كان باشر بناء الجدار الفاصل رغم اعتبار الأمم المتحدة له عملاً غير مشروع.
على أثر تدهـور صحته، نقـل عرفـات الى مستـشـفى برسـي في فرنسـا حيث توفي في 11 تشـرين الـثـاني عن 75 عامـاً، قضى معظمهـا مناضـلاً في سبـيـل شعبه ووطنـه.