بلا فلسفة

ردّ اعتبار... للحمار
إعداد: اسعد مخول
العقيد

بعد قراءته لمقالي الأسبق "مصالحة مع النمل", أخبرني صاحبٌ أنّه تم إحكام الطوق عليه وعلى سيارته, في إحدى حالات الازدحام المعروفة بالمدينة.
الفريقان المتقابلان شدّا العزم من أجل التقدّم الى الأمام, كلّ في إتجاهه. تزايد عدد الأنصار من كل جانب, وحمي الوطيس.
كانت في المكان إشارات سير مستوردة حديثاً, تحمل صور شخصيّات محليّة, كما أن بعض نساء البيوت, وبعد ارتفاع أصوات المنبّهات, أطلّ من فوق الشرفات المحيطة, أما الرجال ­ والكلمة لهم لو حضروا ­ فقد كانوا غائبين الى أعمالهم.
صادقاً, رغب صاحبي العودة بسيّارته الى الوراء إعلاناً منه لضرورة “التنازل عن الحق”, لكنّ أعضاء فريقه, الذين لم يكن يعرف واحدهم الآخر بأي حال, عاندوه. ليس هذا فقط, بل ارتفعت الأصوات منكرة تخاذله, وضعف همّته, وهزال هيبته, وتدنّي قدرته, وانعدام نصرته... وربّما, تآمره وخيانته وتواطؤه مع الفريق الآخر, خصوصاً وأنّ امرأة سائقة في ذاك الفريق ابتسمت له من بعد. وحلّت الطّامة الكبرى حين “استلّ” هاتفه الجوّال لكي يخبر زملاءه في مركز العمل بأنّه سيتأخر في الوصول لوعورة الطريق, إذ هجم عليه رعيل من حلفائه شاتماً لاعناً مشكّكاً في اتّصاله الهاتفي المشبوه. وكان هرج ومرج, وأطفئت المحرّكات استعداداً لصراع لم يكن في بال أو في خاطر.
عندها ضرب الأرض بهاتفه الصّغير, وراح يصرخ ويشتم ويولول إلى أن تعب وأُنهك وتهالك على الأرض, وكانت هذه حال معظم من تصارعوا في تلك الواقعة. في الختام تمّ تشكيل هيئة من العقلاء أشار أعضاؤها على الجميع بمغادرة المكان, مع وعد باللقاء في ازدحام آخر.

 

مذ ذاك أعلن صاحبي رغبته الطارئة والسريعة والصادقة في بيع سيارته مهما كان السعر, وفي إحـلال حمار مكانها, تكون الطرقــات سالكة أمامه في كل حين.


­ هل عثرت على المطلوب, قلت له؟

­ لا, لكنني ما زلت أفتّش.
­ دعني أتدبّر الأمر معك. لقد رأيت حماراً منذ أيام في الجبل المجاور, قد يكون مالكه غير راغب في الاحتفاظ به, وقد يكون هو غير راغب في “حفظ نفسه” لديه.


­ ما الدليل؟

­ كان يصيح به ملقياً في أذنيه المتعبتين أقسى الشتائم, ضارباً على قائمتيه الخلفيّتين بعصا غليظة.


­ ألم ينسحب أو يهرب؟

­ لا, لكنّه كان يرفع القائمة المضروبة ثم يعيدها الى الأرض بشكل هادئ, ويهزّ رأسه كمن يريد القول أنّه لن يغيّر رأيه.


­ كيف لاحظت ذلك؟
­ كان “معلّمه” يسأله بغضب: أأنت من يدلّني الى الطريق الصّحيح أم أنا؟
­ هل كان فوق ظهر الحمار حمل ثقيل؟

­ نعم.
­ إذاً, قد يكون السّبب أنّه لم يقوَ على السير تحت ذاك الحمل.
­ توقعت ذلك في البداية, لكنّني علمت من مراقب مجاور أنّ ما يحمله طبيعي لديه, وهو لا ينوء تحت حمل, لكنّ المشكلة هي في تغيير الدرب التي يسلكها, تلك الدرب التي كانت سليلاً جبلياً قديماً, لانت حجارته لفرط مروره, ومرور زملائه, عليه. وهو يعرف خباياه ومنعطفاته, يأنس لظلاله وأنواره, ويطمئن لصحوه وأمطاره, وأتى اليومَ “سائقه” ليجبره على المرور فوق هذه الطريق المغطاة بالإسفلت والزفت, فرفض وعاند.


­ هل أكون على صواب في رغبتي برفقته؟
­ نعم. ألم تسمع ما قاله فيه الكبار؟ ذاك توفيق الحكيم وقد كتب: إنّه حيوان ظريف, خفيف الدم, شديد التحمّل. وذاك محمد عبد الوهّاب وقد قال: إنه كائن رقيق جداً. وهذا جورج جرداق يعلن أنّه فيلسوف متواضع. وهذا عبدالله باجبـير يؤكد أنّـه نصيـر الفقراء... كما أنّ الإسباني خمينز خصّـص له الكثيـر من الحبـر والـورق والأدب الحي.
­ لكنْ, لمَ ارتبط اسمه بقلّة المعرفة؟
­ لأنه لا يستخدم أذنيه الكبريين في جمع أخبار الكائنات التي يجاورها, وفي نشرها هنا وهناك بفعل الوشاية والنميمة والوقاحة وطول اللسان. ولأنّه لا يعضّ كالكلب “الوفي”, ولا يلدغ كالحية “الحكيمة”, ولا يفترس كالأسد “النبيل الشجاع”. ثم, إنّ المعاني هي في الطبقات الصوتية التي تطلق الكلام, وفي النوايا المبيّتة التي ترافقه, فقد تقول لكائنٍ ما: يا ذكي, وأنت تقصد إتهامه بالغباء, وقد تقول له: يا وحش, وأنت تقصد أنّه إنسان ناجح ومتقدم. وقد تنادي إحدى الحسان: يا فأرة, وأنت تنوي أن تقول لها أنّه يحلو لك عناقها وتقبيلها وشمّ عطرها... وأنفاسها.

بعد أيام من “تعاون الاثنين” ضد مصاعب البشر والحيوانات السّامة والمفترسة, سألت صاحبي:


­ ماذا عن رفيقك؟
­ جيّد, جيّد, لكن يا ليت...


­ ما التّقصير؟
­ لا ذنب له, لم يقصّر, لكن... يا ليته أُعدّ منذ بداية الخلق للملاحة في الفضاء أيضاً. لو كان له جناحان لامتطيته وسبحت وإياه في الأعالي بأمان وسلام, فرأينا من هناك كيف يكون الطيّون والأقحوان... واسترحنا من الإنسان!