سياحة في الوطن

رشعين:رأس العين جنةُ دارِك تـــنــاغي الجنة ماءً وظلالاً وحياة
إعداد: العقيد أنطوان نجيم - جان دارك أبي ياغي - ماري الحصري

على ضفاف نهر رشعين بنى محمد باشا الأرناؤوط والي طرابلس وصيدا وبيروت قصره العام 1642.
اليها نسب العلامة البطريرك اسطفان الدويهي منطقة الزاوية فتكلّم على «زاوية رشعين» دلالة على أهمية رشعين. في رسالته الى البطريرك الماروني إرميا العمشيتي (1199 - 1230) العام 1219 ذكر البابا اينوسنت الثالث (1198 - 1216) كرسي أسقف رشعين بين كراسي الأساقفة الموارنة.
على هضبة قرب مياه نهر رشعين اختار الإهدنيون مزرعة صغيرة وهبهم إياها بموجب فرمان شاهاني جلالة السلطان سليم العثماني، فأطلقوا عليها إسم زغرتا.
على عهد ريمون دي تولوز الحاكم الصليبي لمدينة طرابلس أيام حكم الصليبيين، شُقّت قناة ترابية نقلت مياه نبع رشعين الى حوض صغير جنوب قلعة طرابلس ومنه الى أحياء المدينة بواسطة شبكة مياه ما زالت قائمة الى اليوم.
غيض من فيض تاريخ قرية من الزاوية كانت ذات يوم هي «الزاوية» زاوية التقاء البحر بجبل لبنان. قرية حطّ التاريخ رحاله عند ضفاف نهرها واستراح في بيوتها ودروبها ورياضها الغنّاء وفي ظلالها وزقزقة طيورها وبركة طواحينها، في حياتها كلها وكأني به يردّد مع رقرقة مياه نهرها الخالد: رشعين جنة دارك تناغي الجنة ماءً وظلالاً وحياة.

 

أصل إسمها وموقعها الجغرافي
رشعين كلمة سريانية «راش عينو» وتعني رأس العين تيمناً بالنبع الذي ينبجس متدفقاً من جوفها ويحتضنها فتختال بغصن يتمايد، وطائر يغب نقدات من مياهها فيحلو صوته، ومطحنة تكدّس الخير عرمات. وينحدر النهر، نهر رشعين، حتى البحر مخترقاً طرابلس التي فتحت له ذراعيها يروي عطشها ويهب بساتينها بساطاً سندسياً أخضر.
تقع رشعين في المناطق الداخلية في شمال لبنان على بعد 3 كيلومترات شمال زغرتا، وهي ثاني قرية سكاناً في الزاوية بعد زغرتا. تصل اليها عن طريق طرابلس - زغرتا - رشعين، وطرابلس - أردة - رشعين. تبعد عن بيروت 95 كلم، وعن مركز القضاء 3 كلم، وعن مركز المحافظة في طرابلس 10 كلم. وترتفع 130 متراً عن سطح البحر، وتبلغ مساحتها 279 كلم2، وعدد سكانها 4335 نسمة وعدد منازلها 842 منزلاً.


الى «رأس العين» الزاوية
صباح اليوم الذي عيّنه لنا مضيفنا المهندس أنطوان همّام نجيم يمّمنا شطر شمال لبنان نمنّي النفس ونعلّلها برحلة «من العمر» في أحضان التاريخ كما بان لنا من قراءاتنا الأولية حول موضوع سياحتنا رشعين.
ساعة ونصف الساعة هي زمن الطريق الذي قادنا الى تلك القرية الوادعة الراتعة بين البساتين الحالمة على كتف نهرها. دخلنا عالمها نسترشد الوصول الى منزل مضيفنا فقادنا السؤال الى حيّ قديم ارتفع بين أشجاره الدهرية منزل فاق عمره الماية والخمسين عاماً - وقد رُمِّم بالطبع - كان في انتظارنا على أعلى سُلَّمِه صاحبه المهندس أنطوان همام نجيم. وعلى شرفته المطلة على البساتين وعلى طرابلس والبحر في الأفق، جلسنا مع رهط من أهل القرية تلاقى أفراده ليقصوا علينا بعضاً من حكايات قريتهم وأحوالها.
كانت البداية مع الأب أنطوان الدرجاني الذي حضر خصيصاً من بيروت متأبطاً دراسة يُعدُّها عن قريته، فسألناه عن حال البلدة في الأيام الغابرة فأجابنا:
- «كانت القرية في ما مضى ملكاً لآل حمادة الذين كانوا منتشرين في قرى عديدة في الشمال. وعلى عهد الأمير يوسف شهاب جاءت عائلة البركندي الى البلدة وكانت أولى العائلات التي سكنت رشعين ثم لحقتها عائلات أخرى مثل نجيم ودرجاني وأيوب وغيرها. وكانت أراضي المنطقة ملكاً للدولة قبل أن تأتي هذه العائلات اليها ثم انتقلت ملكيتها الى الرهبان ثم مع مرور الأيام انتقلت ملكية الأراضي الى الأهالي. وقد عمد هؤلاء الى بناء منازلهم بشكل عمودي، أي بعدة طبقات، وذلك لكسب المزيد من مساحات أراضيهم الزراعية. ولكن، وبهذه الطريقة الحديثة الجاحدة من البناء راحت المظاهر التراثية تختفي من القرية رويداً رويداً. ومن ناحية ثانية جَذَبَ نبع رشعين ومجراه، الأهالي الى ضفافه حيث ألزمهم، هم المزارعون، بناء منازلهم للإفادة من المياه في ري أراضيهم الزراعية، الأمر الذي أعطى القرية جغرافية مميّزة. أما المناطق البعيدة عن النبع، فاحتلتها الزراعات البعلية. واستطراداً، يُقسَم نتاج رشعين الزراعي الى قسمين: موسمي وعلى مدار السنة كالحبوب. وهكذا تنتج أرضنا حوالى 500 طن زيتوناً و400 طن ليموناً».
وينتقل الأب الدرجاني الى الكلام على دور رشعين الروحي فيقول: «تضم رشعين ثماني كنائس تتوزّع في أرجاء القرية، استعرضها حسب القِدَم بدءاً من الكنيسة الأقدم مار يوحنا - دنحي (كلمة سريانية «دنحو» تعني الظهور)، وكنيسة القديسة مورا (مارت مورا)، ودير مار مارون الدار، وكنيسة مار يوحنا رشعين، وكنيسة مار مارون، وكنيسة مار أنطونيوس وكنيسة سيدة الانتقال، وأخيراً كنيسة مار الياس للروم الأرثوذكس. وعبر التاريخ ذُكر مطرانان من أبناء رشعين، الأول هو المطران يوحنا الرشعيني وعاش أيام البطريرك أرميا العمشيتي وقد ورد اسمه في رسالة البابا اينوسنت الثالث الى الكرسي الأسقفي في رشعين العام 1213، والثاني هو ايضاً المطران يوحنا الذي عاش بعد 72 سنة من المطران الأول، وذكر اسمه في حادثة حصلت في أنفه على أنه أحد الشهود وذلك حوالى العام 1275. وهذا الأمر إن دلّ على شيء فعلى أن رشعين كانت مأهولة قبل العام 1213 وهذا أقدم تاريخ موثّق».

 

رشعين اليوم
وانتقلنا الى سؤال المهندس أنطوان نجيم عن الزراعة في رشعين فأجابنا:
- كان أّهالي رشعين قديماً يزرعون أشجار التوت بالقرب من النبع لتربية دود القز، وقد ضمّت رشعين عصرذاك معمل حرير يتألف من 32 دولاباً لنسج خيوط الحرير، و5 مخانق عملها يقوم على قتل الدودة داخل الشرنقة قبل أن تفقسها فراشة فتقطع الخيوط، وذلك عبر وضعها في المياه الساخنة فتُحَلُّ خيوط الشرنقة وترسل الى المعمل لتُنسج. وقبل الأحداث في لبنان عملت الدولة اللبنانية على تشجيع تربية دودة القز وصناعة الحرير عبر توزيع شتول التوت على المزارعين كما أنشأت مكتباً خاصاً لهذه الصناعة عرف بمكتب الحرير (مركزه في كفرشيما). ولكن، لما تعطّلت صناعة الحرير خلال الحرب وطغى على سوق الحرير الحرير الإصطناعي توقف العمل في المصنع، لتنشأ على أنقاضه صناعات مهنية صغيرة، كما في القرى اللبنانية الأخرى مثل مصانع الحدادة والألمنيوم والخشب بالإضافة الى مشاغل حرفية.
وبالإضافة الى مصنع الحرير، تضم رشعين ثلاث معاصر زيتون تعمل على الحجر، وهي الأفضل حتى بين المعاصر الحديثة كونها تفرز الزيت على البارد، أي لا يسخن الزيت، الأمر الذي يحافظ على مذاقه وجودته.


• أستاذ أنطوان، لو تخبرنا عن نبع رشعين؟
- كانت المياه في ما مضى تتدفق من سفح جبل دنحي شرقي البلدة بشكل أفقي وعمودي في ظلال شجر الخرنوب والسنديان التي تروي تاريخ نبع أعطى البلدة إسماً ومياهاً معدنية باردة لا تتعدّى حرارتها الدرجات الخمس على علو نحو 200م عن سطح البحر.
العام 1938 قامت السلطات الفرنسية بحصر المياه ضمن بناء من الباطون المسلّح على شكل هندسي من خمسة أضلاع متوازية طول الواحد منها 8 أمتار. ثم نفّذت مشروع جرّ قسم من المياه (حوالى 10 آلاف متر مكعب) يومياً في قسطل قطره 90سم الى مدينة طرابلس كمياه شفة لسكانها، وقسم أخر في قسطل قطره 40سم الى مدينة زغرتا.
أما المياه الفائضة من خزان الجمع الأساسي عند النبع فهي تصب مباشرة في مجرى نهر رشعين لري قسم من أراضي القرية، ويتدفق الباقي يروي مزروعات ضفتيه حتى مدينة طرابلس.
وقد خَصَّت رشعين العام 1958 بمائتي متر مكعب كمياه شفة مجاناً عندما كان عدد منازلها لا يتجاوز المئتين، كون النبع ينبع من أراضيها، ويروي المناطق الآتية: رشعين، حرف ارده، زغرتا، مجدليا، وقسم من طرابلس.
ثمة نبع آخر في رشعين هو نبع القاضي الذي ينبع من السفح الغربي لمنطقة دنحي ضمن حدود منطقة رشعين العقارية. وقد تمّ حفره وتطويره أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وهو يوفر كمية مياه تقدّر بحوالى 3500 متر مكعب يومياً. أنشئ خزان جمع كبير في منطقة الهوة على سفح جبل دنحي تضخُّ اليه المياه من النبع لتوزّع على القرى المستفيدة من مياهه وهي: قسم من رشعين، ارده، عشاش، مرياطة، الخالدية، الرميلة، علما، الفوار، كفرحاتا، كفرزينا، عرجس، كفرحورا، كفرشخنا، أصنون، قرباش، التلة وصخرة.
بكلمة نستطيع القول إن رشعين هي مصدر حياة الزاوية، لذا دُعيت ذات يوم «زاوية رشعين».
عن الوضع الاجتماعي يخبرنا المهندس نجيم أن في رشعين ثلاث مدارس، تكميلية وثانوية رسميتين، وأخرى تابعة لأبرشية طرابلس المارونية. وهنا لا بد من الإشارة الى أن نسبة المتعلّمين في رشعين عالية جداً، ففيها عدد كبير جداً من حملة الشهادات الجامعية العليا.
أما الوضع الصحي في القرية فينحصر بمستوصف يتيم يعرف باسم «مستوصف إيريس فرنجية الذي تأسس العام 1972 بمبادرة من الرئيس اللبناني الراحل سليمان فرنجية، وكان الأول في سلسلة مراكز لاحقة في منطقة زغرتا الزاوية: يضم هذا المستوصف قسماً صحياً يؤمن المعاينة والدواء إذا توافر بمقابل رمزي، ويؤمن الخدمة فيه عدة أطباء في اختصاصات متنوّعة، وقسماً لحضانة الأطفال من رشعين والقرى المجاورة من عمر سنتين ونصف حتى أربع سنوات. وقديماً ضمّ المركز فرعاً للخياطة والأشغال اليدوية وآخر لمحو الأمية. ويقدّم هذا المستوصف خدمات إنسانية واجتماعية لسكان البلدة كزيارة المسنّين وإعادة وصل ما انقطع تحت السقف العائلي، وزيارة المدارس لتقديم برامج الإرشاد والتوجيه.


المختار: أرقام وحكايات
السيد نبيل أيوب، مختار رشعين منذ العام 1998، حدّثنا عن قريته فقال: «يبلغ عدد سكان رشعين 4335 نسمة ومنازلها 842. أما الناخبون فعددهم 2779 ناخباً. ومنذ العام 2004 بات في رشعين ثلاثة مخاتير وهنا لا بد من الإشارة الى أن رشعين خلال حرب تموز 2006 استقبلت ثانويتها الرسمية 65 نازحاً اليها أكرمت وفادتهم».
وعن رشعين القديمة يخبرنا أن النساء يملأن الجرار من النبع ليستعملن المياه للشرب والطبخ في حين كان الرجال، بالإضافة الى عملهم اليومي في الزراعة، يقتطعون الحطب من الأحراج المجاورة لتلقمه النساء نار التنور الذي بدوره يلقم الأفواه الجائعة خبزاً صحيّاً مجبولاً بالخير والكرامة وكان، عصرذاك، لكل حيّ في القرية تنوره. أما في أوقات الفراغ، أو الانتظار بين المواسم، فكان الأهالي ينصرفون الى أعمال العونة وإحياء ليالي السَمَر يلعبون بالورق وطاولة الزهر وغيرها.
وعن التطوّر الذي شهدته رشعين يكلّمنا المختار فيقول: «يشهد العالم اليوم تغيّرات كبيرة على صعيد المناخ. والأمر انعكس في لبنان وأثّر سلباً على نبع رشعين، فبفعل تراجع كميات الأمطار المتساقطة باتت مياه النبع تشح».

 

بلدية رشعين
حين سألنا عن البلدية في رشعين انبرى السيد وجيه نجيم، وكان أمين صندوق البلدية بين العامين 1968 و1998، يسرد علينا تاريخها، قال: «العام 1955 انتخب أول مجلس بلدي في رشعين واستمر حتى كانون الأول العام 1965 تاريخ انتخاب المجلس البلدي الثاني الذي دام حتى العام 1998».
ويروي السيد وجيه أبرز ما أنجزه المجلس البلدي الثاني: «بالإضافة الى الأعمال الروتينية المعروفة - تنظيف الطرق وقنوات المياه ومكافحة الحشرات والقوارض، فقد أنشأت البلدية شبكة إنارة عامة العام 1973، وقد حُدِّثَت العام 1998، وشبكة صرف صحي بلغ طولها 11 كلم، ومحطتي تحويل الطاقة الكهربائية، وأجريت أعمال ترميم لا سيما في شبكة مياه الشفة. كما أنها اشترت أرضاً وهبتها لوزارة التربية لبناء مدرسة في البلدة».
ويتابع: «في 11 حزيران 1998 انتخب المجلس البلدي الثالث الذي استمر حتى 21 حزيران 2004. وتمكن خلال ولايته من تنفيذ عدة أعمال أبرزها: استئجار دار للبلدية وتأثيثه، إنشاء مستديرة رشعين وطرق للمشاة، وقناتي مياه. كما عمل على توسيع عدد من الطرق الداخلية وتأهيلها، وأنشأ مجارير عامة في البلدة».
وهنا لا بد من الإشارة الى أن المجلس البلدي الرابع لم يعمّر طويلاً إذ حلّت البلدية بعد ستة أشهر فقط من الانتخاب.

 

الأندية والجمعيات
لما كانت رشعين واحة الزاوية وموئل الهاربين من متاعب الدنيا يفرجون عن كروبهم على ضفاف نبعها ونهره، عرفت هذه القرية أندية وجمعيات كانت قلبها النابض فرحاً وبهجة، فنظّمت الحفلات وأحيت المهرجانات. وعن أحد النوادي التقينا السيد سركيس نجيم رئيس «نادي الرسالة الرياضي» الذي حدّثنا عن انطلاقة النادي فقال: «انطلقت الفكرة مع تجمّع 50 شاباً من البلدة يهتمون بالشؤون الترفيهية والتثقيفية، فتأسس النادي الذي حصل على الترخيص العام 2000. أما في ما يتعلّق بالنشاطات التي نقوم بها فمتنوّعة وكثيرة منها حفلات الكرمس، وتوزيع الهدايا، وتقديم المساعدات للعائلات المحتاجة خلال الأعياد، طبع روزنامة سنوية وتوزيعها على أهالي البلدة بالإضافة الى أننا ننظّم ندورة ثقافية وطبية يشارك فيها الأهالي، وكان آخرها المحاضرة التي ألقاها وزير المالية الأسبق الياس سابا حول الاقتصاد. كما نعوّل على إعلانات المحال التجارية كمساعدة للنادي».
وثمة نادٍ آخر هو «النادي الرياضي الثقافي» الذي تأسس العام 1966، وينظّم دورات رياضية في كرة السلة وكرة القدم على مستوى القرى المجاورة، كما يشارك في المباريات التي تجريها وزارة الشباب والرياضة.
أما «تجمّع شباب رشعين الخيري» فينظّم برامج ترفيهية مجانية سنوية لأهالي البلدة (مهرجانات رياضية وعشاء قروي أيام الصيف). ويمتلك سيارة إسعاف تؤدي واجبها الإنساني. ويقوم بأود هذا التجمع تبرعات الأهالي واندفاع شبابها للخدمة والمساعدة، فالجميع يتبرّع بالدم عند الحاجة وفقاً للوائح وجداول. كذلك أنشأ التجمّع مجمّعاً رياضياً يضم ملعبي كرة سلة وكرة قدم مصغّرة (mini football) وكافيتيريا بالتعاون مع أهالي البلدة وبمساهمة نواب المنطقة ووجهائها. ومؤخراً ساهم ببناء قاعة الرعية في رشعين.

 

والى متعة العين و...
وانتهى الكلام، وتلاقت العيون متسائلة ماذا بعد؟ وقُلِبَت الشفاه علامة النفي، وران الصمت بعدما تلمّظت شفتا مضيفنا المهندس آخر رشفة من فنجان القهوة واستنهضنا للقيام بجولة على معالم القرية نحاور التاريخ ونسمع همساته تروي لنا حكايات عتيقة علق غبارها علىالأشجار الدهرية وصخور النبع ونهره، وركبت موجه لتمضي الى بحر النسيان. بداية الجولة كانت في حي مار أنطونيوس حيث المنازل والدروب ما تزال على هيبتها القديمة، سطوح ترابية، عتبات منخفضة ينحني من يمر تحتها إجلالاً لربّين: رب السماوات عُلّقت صورته في صدر البيت تحميه وتباركه، ورب المنزل وعموده. شابَ حجر المنازل نظافة واعتناء هو البالغ من العمر 150 عاماً. واسودّ الزفت حداداً على تراب ابتلعه، وكان مصدر خير إذ من حصاه نقدت دجاجات الدار طعامها، ومن عمقه نبتت مساكب البقدونس والنعنع وتغاوت شتلات الورود.
ومن هذا الحي الجميل الرائع الأقدم في رشعين اصطحبنا الآنسة سعاد النشمي صاحبة «طاحونة العين»، الطاحونة الوحيدة الباقية من ست طواحين اشتهرت بها رشعين، والبالغة من العمر عتيّاً حوالى 200 سنة، لتدخلنا عالماً آخر يشدنا الحنين اليه. وعند سؤالنا أي درب سنسلك الى الطاحونة جاءنا الجواب سريعاً من الآنسة سعاد بكل براءة وثقة وبابتسامة: «كل الدروب بتودّي عَ الطاحون».
وحملتنا حافظة المتحف الوحيد في رشعين بحديثها اللطيف فما شعرنا بالدرب يحملنا الى أمام باب خشبي دهري دفعت صاحبته بمفتاح عربي طويل في ثقبه، فصرصر عالياً ليفيق الباب من إغفاءة على خد عتبة صبحى وينفتح على عالم آخر.
واتكأت الى الحائط الخارجي واسترسلت تروي لنا قصة الطاحونة: «قبل أن أروي قصتي مع الطاحونة هاكم أمثلة تبرز أهمية الطاحونة في التراث الشعبي والروحي: «كل الدروب بتودّي عَ الطاحون»، و«حبة القمح بتحور وبتدور وبترجع عَ الكور»، و«لسانها مثل طرطق الطاحونة (أي الثرثارة)». كما ذكرت في الكتب المقدّسة والأغاني الفولكلورية (فيروز) والقصائد (الأخوان الرحباني) وفي قصص الأطفال وأغانيهم، وغيرها كثير... أما هذه الطاحونة فقد ورثت العمل فيها عن والدي الذي خدمها منذ العام 1948 زهاء نصف قرن حتى وفاته».


رائحة الخير والبركة
دخلنا الطاحونة نستنشق رائحة الخير والبركة، ورائحة القمح والبرغل، وكأننا داخل معبد يُحرق فيه البخور تمجيداً لله.
كل شيء صامد على حاله كما الأرز وكأن التاريخ يعود بك القهقرى، ساخراً من «عصرنة» حملت الأذى والضرر للإنسان. وتتابع الآنسة النشمي فتقول: «هذه الطاحونة تحمل بركة إلهية في مبناها. فلقد وضع فيها الراهب اللبناني مارون البعبداتي ذخيرة الصليب المقدس، ويروي الأب يوسف
ابراهيم الحوراني الحصروني في كتابه «تاريخ أديار معاملة الجبّة» أن الراهب البعبداتي بنى مطحنة رشعين الشهيرة بطاحون العين. وقيل أن قسماً منها تهدّم مرات.
وأخيراً وضع فيها الأخ مارون ذخيرة الصليب المقدس فثبت بناؤها».
وتتابـع سعـاد بابتسامة لم تفارق ثغرها: «قديماً قالوا «الطاحون مزراب ذهب» لأنهم كانوا يعملون ليل نهار من دون توقف، أما اليوم فلم يعد أحد يطحن القمح، لذلك نعتمد في معظم عملنا على طحن البرغل بين شهري أيلول وتشرين الثاني، فنحن كالنملة نعمل أيام الصيف لنرتاح زمن الشتاء».
أما عن طريقة عمل الطاحونة فتشرح لنا قائلة:
«يُسلق القمح ويجفف ويحضره صاحبه الى المطحنة، فنضعه في الكور وهو الوعاء الذي يستقبل القمح ليلقمه الطاحن حيث يدور الحجر فيطحن القمح. والماء الهابط بقوة هو الذي يدير الحجر المنحوت من الغرانيت. أما هذه العصا  والتي تبدو وكأنها إبرة الفونوغراف فتسمى «طرطق»، وهي من الخشب ومهمتها تحديد كمية القمح الوافدة الى حجر الطاحون، وحين يدور الحجر كأسطوانة عتيقة تصدر صوتاً لا يتوقف إلا مع توقف الطحن. ويتغيّر شكل الحجر بين حجر طحن البرغل وحجر طحن القمح، ووفقاً لتحديد الوزن والسرعة للطاحن يُطحن القمح أو البرغل بشكل ناعم أو خشن. بعد الطحن، تأتي عملية الغربلة بغربالين واحد للبرغل الناعم وآخر للخشن».
أما عن بدل الطحن فتقول سعاد إنه كيلو مقابل «طبة» مطحونة، أو طبة مقابل «شنبل» مطحون. (الطبة تساوي تنكة أو غالوناً كبيراً، والشنبل يساوي عشر طبات أو حوالى 150 كلغ).
وتشدّد سعاد على ناحية أخرى في المطحنة وهي حفاظها على البيئة إذ أنها تعتمد على المياه في عملها، أي على مياه نبع رشعين المتدفق غزيراً تحتها، وليس على المحروقات التي عدا عن أنها تلوّث البيئة فهي تنثر متساقطاتها على الغلال».
ورافقتنا مضيفتنا في رحاب مطحنتها تشير شارحة الى أدوات منزلية تراثية: هنا نمليّة - البراد قديماً - لحفظ المأكولات بعيداً عن الحشرات والقوارض - وطبق الخبز، وهناك صندوق الغلة، وهنالك صندوق العروس حاوي جهازها، وغيرها.
وانتهت رحلتنا في الطاحونة وخرجنا وصوت سعاد يردّد: «يجب الحفاظ على هذه المطحنة الأثرية فترمّم وتجدّد مع الإبقاء بالتأكيد على هندستها وأدواتها القديمة. هي حياتي وحياة رشعين، وقد تكون الوحيدة العاملة على الماء الى الآن».

 

رحلة العودة
وتابعنا رحلتنا نتفقّد معالم رشعين فتوقفنا أمام كنيسة مار يوحنا المعمدان نتأمل روعتها وجمالها. فقد بنيت العام 1892 على يد المعلم بولس الشدياق يمّين من زغرتا الذي حل مكانه بعد وفاته المعلم جرجس المعراوي من زغرتا، وقد تعاون مع الأهالي في عملية البناء فحملوا كباراً وصغاراً، شيباً وشباباً على ظهورهم وأكتافهم الماء والحجارة. أما أخشاب قالب العقد فكان الأهالي يقطعونها من البساتين ويطرحونها في النهر ويلاقونها في أقرب مكان الى الكنيسة ليجروها بالحبال أو يحملوها على الأكتاف ويضعوها بين يديّ المعلم. يبلغ علوها 10.50 أمتار، وعرضها 11.80 متراً. دخلناها متأملين روعة بنائها وصورة مار يوحنا المعمدان التي رسمها الفنان اللبناني العالمي صليبا الدويهي.
ومن مار يوحنا المعمدان الى مار يوحنا دنحي حيث يقوم مزاره المتهدّم ومن دون سقف. وكان المؤمنون يحجّون اليه في مناسبة عيد قطع رأس مار يوحنا في شهر آب من كل عام. ويجري البحث حالياً في ترميم هذا المزار.
وانتهت رحلتنا بمشوار على مجرى نهر رشعين انطلق من النبع حيث تنتصب أشجار الصفصاف والحور باسقة حارسة لأغلى جوهرة، وانتهى في أحد المطاعم المنتشرة على مجرى النهر دعانا مضيفنا وشقيقه الدكتور جان الى مأدبة غداء تذوقنا خلالها الكبة الزغرتاوية والخبز العربي الخارج من الفرن الى المائدة تواً.
وهكذا ومع انحدار الشمس الى بيتها عدنا الى بيتنا وطعم الذكريات يدغدغ قلوبنا ومياه رشعين تدعونا الى العودة مرة ثانية.

 

تصوير: العريف اول يحيى خضر

 

المدارس في رشعين
حتى العشرينيات من القرن الماضي لم يكن في رشعين أي مدرسة رسمية، باستثناء مدرسة تحت السنديانة، حتى أسس الأب اغناطيوس نجيم بمساعدة الآباء اللعازاريين مدرسة درّس فيها 45 سنة الى جانب بدوي رشيد نجيم مدرّس اللغة العربية، واسحق أنطونيوس الدرجاني مدرّس اللغة الفرنسية.  أما أول مدرسة رسمية فقد أنشئت العام 1944 وكان أول أستاذ فيها يوسف الخوري العكريني.
في الخمسينيات دُشّنت مدرسة ثانية في بيادر رشعين ثم أغلقت في السبعينيات والعام 2000 افتتحت ثانوية في البلدة.


أول مجلس بلدي
أول مجلس بلدي في رشعين انتخب العام 1955 واستمر حتى العام 1965 وترأسه الدكتور أنطوان نجيم.

 

نهر رشعين صالح لممارسة الكانوي كاياك
قام وفد يضم خبراء في مجال الأنهار باستكشاف مواقع جديدة في لبنان لممارسة لعبة الكانوي كاياك، وقام بالتعاون مع نادي السلام - زغرتا باختبار نهر رشعين حيث تبيّن أنه يملك المواصفات المطلوبة التي تسمح بممارسة رياضة الكانوي كاياك.

 

الزاوية
سميت منطقة الزاوية بهذا الإسم لأنها كانت تشكل طرف الزاوية الشمالية «للبنان الصغير» (أي قبل العام 1920) وكانت نقطة التقاء البحر بجبل لبنان.
نهاية القرن الثالث عشر، وبعد انكسار الصليبيين، اجتاح المماليك الجزء الساحلي من الزاوية وأفرغوها من سكانها الأصليين الذين هاجر قسم كبير منهم الى قبرص.
وفي إبان الاحتلال العثماني للبنان العام 1516، عرف سكان الزاوية عهد تجدّد، فقُدّم الى سكان إهدن منطقة سمّوها «زغرتا» ليقضوا فصل الشتاء فيها.
ووفقاً لأول إحصاء أجراه العثمانيون العام 1519 بلغ عدد القرى في الزاوية 19 قرية تضم 4860 ذكراً (كان الذكور فقط عهد ذاك يدخلون الإحصاء)، وفي إحصاء ثانٍ العام 1571، ارتفع عدد القرى الى 26 قرية، وعدد الذكور الى 5280 ذكراً.

 

أسماء وعائلات
• الأسماء الأكثر شيوعاً في رشعين هي: حنا ومشتقاته - أنطوان ومشتقاته - سركيس وباخوس - سايد وسيدة.


• عائلات رشعين:
بيت الزاعوق - الداعوق - يوسف - حنا - الطراف - حبيتر - الدرجاني - عبود - شديد - الحداد - عويس - حديد - الخالد - وهبة - مسلم - النشمي - ميرنان - هدلا - جرجس - مرشد - الحكيم - العكاري - البركندي - نجيم - قديسي - صهيون - اسطفان - معربس - صافي - الشدياق - قبعيتي - الموراني - الغريب - الترس - سيسوق - أشمر - حبق - ناصيف - المبيض - رستم - معتوق - فارس - فرح - القناتي - طنوس - الجميل - أيوب - قشمر - جعجع - الحاج - برمو - أبو موسى - عبيد - عبد المسيح - البدوي - كرمية - قرطباوي - ساسين - ضاهر - همدر - يونس - لحود - راضي - الأبرص - جبور - بركات - ونسا - العلماوي - خليل - الرحباوي - الياس - العاصوني - نصور - شمعون - مانانيان - قصاميان - موسى - رزق الله.