بيروت تقاوم

رغم الكارثة والدمار: مراكبنا عالمينا...
إعداد: تريز منصور
تصوير: نبيل اسماعيل

«مرفأ بيروت لن يركع، وذلك بفضل الجيش اللبناني، الذي تخطّى واجبه الوطني، وأسهم بعودة الحياة إلى مرفأ بيروت بكل طاقته الإنتاجية تقريبًا، وذلك في وقت قياسي، وبقدرة قادر»...

بهذه الكلمات المفعمة بالأمل والامتنان والمعبّرة عن صلابة الإرادة اللبنانية اختصر رئيس ومدير عام إدارة واستثمار مرفأ بيروت باسم القيسي واقع مرفأ بيروت بعد نحو ١٠ أيام على وقوع الكارثة، ماسحًا فرضية خطر نشوء أزمة أمن غذائي في لبنان. وهذه الأزمة كانت من بين الهموم التي لاحت في الأفق لحظة وقوع الكارثة، مضافة إلى الأزمة الاقتصادية وجنون أسعار السلع منذ عدّة أشهر.

 

سجّلت لحظة الانفجار في مرفأ بيروت نقطة مفصليّة في تاريخ لبنان الإنساني والاجتماعي والاقتصادي، وذلك نظرًا إلى أهميته ودوره الحيوي. فهو من أهم الموانئ في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وأكبر نقطة شحن وتخليص بحرية في لبنان، تمرّ من خلاله قرابة ٧٠٪ من حركة التجارة الصادرة من البلاد والواردة إليها.

يقع مرفأ بيروت في منطقة استراتيجية تربط بين الأسواق التجارية لكل من آسيا وأوروبا وأفريقيا، ممّا يعني تقليص مدة رحلات الملاحة التجارية مقارنة مع طرق أخرى. وهو يرتبط بشكل مباشر مع ٥٦ ميناء في القارات الثلاث، ويستقبل ويصدّر البضائع بالتعاون مع ٣٠٠ مرفأ حول العالم.

ونظرًا لموقعه الاستراتيجي، كان هذا المرفأ - الذي افتُتح في العام ١٨٩٤- يُستخدم لاستيراد المواد الأساسية من دول العالم وتصديرها عبر الداخل اللبناني إلى دول الشرق الأوسط.

 

ركيزة اقتصادية

يُعتبر مرفأ بيروت ركيزة أساسية للاقتصاد اللبناني، إذ إنّه يؤدي دورًا أساسيًا في عملية الاستيراد والتصدير، وبالتالي في تحريك العجلة الاقتصادية اللبنانية.

يتألف مرفأ بيروت من أربعة أحواض ويضم ١٦ رصيفًا، والعديد من المستودعات وصوامع تخزين القمح (الإهراءات) التي تؤمّن أفضل شروط التخزين.

بين العامين ٢٠٠٥ و ٢٠١٨، نمت حمولة البضائع عبر المرفأ بمتوسط سنوي ٤.٦٪، فارتفعت من ٤.٤٨ ملايين طن إلى نحو ٨ ملايين. وخلال العام ٢٠١٨، استقبل المرفأ قرابة ٧.٠٥ ملايين طن من السلع تمثل نسبتها ٧٢٪ من إجمالي واردات السلع عبر البحر، مقابل صادرات بقرابة مليون طن تمثل ٧٨٪ من إجمالي حجم الصادرات. وبلغ عدد السفن التجارية التي نفّذت عمليات شحن أو تخليص للسلع في العام نفسه نحو ١٨٧٢ سفينة، إلا أنّ الرقم الأكبر يعود للعام ٢٠٠٩ بواقع ٢٤٠٠ سفينة تجارية.

تراجعت حركة التجارة في مرفأ بيروت خلال العام الماضي، وذلك بسبب التطورات الاقتصادية السلبية في البلاد، وتراجع حجم الطلب المحلي على الاستهلاك. وتُظهر بيانات المرفأ أنّ إجمالي إيراداته خلال ٢٠١٩ لم تتجاوز ٢٠٠ مليون دولار، مقارنة مع ٣١٣ مليونًا عام ٢٠١٨، في حين لم تتجاوز الإيرادات ٩٠ مليونًا عام ٢٠٠٥.

 

نافذة الشرق لن تغلق

يُطمئن المدير العام الجديد لإدارة واستثمار مرفأ بيروت السيد باسم القيسي في حديث لمجلة «الجيش» إلى وضع المرفأ رغم ما أصابه من أضرار، ويقول: مرفأ بيروت نافذة الشرق الأوسط، وهو لن يركع على الرغم من المأساة الحقيقية التي ألمّت به جراء انفجار نيترات الأمونيوم.

في الثالث عشر من آب الفائت عاد مرفأ بيروت إلى العمل، ولم يتم تحويل البواخر التي كانت ترسو في منطقة البضائع العامة إلى مرفأ طرابلس، كما كان قد تقرّر في اللحظات الأولى من الانفجار. فبعد إعلام الشركات بجهوزية مرفأ بيروت، أفرغت تسع بواخر حمولتها من البضائع ومن بينها القمح، وهذه الحمولة تكفي لثلاثة أشهر، وبالتالي لن يكون هناك من أزمة قمح أو طحين. لكن الضرر الذي لحق بالإهراءات منع تخزين القمح وبالتالي تمّ نقله مباشرة إلى الشاحنات الخاصة بالمطاحن وبعض المخازن الخاصة».

 

كيف استطاع المرفأ العودة إلى العمل بهذه السرعة؟

يوجّه القيسي شكرًا عميقًا لقائد الجيش العماد جوزاف عون، ويكشف أنّه قال له: «المرفأ رئة لبنان والشرق الأوسط وأنا كمسؤول لن أتركه. أضع كل إمكانات الجيش وقدراته من أجل عودته إلى العمل». وأضاف القيسي: كان همنا أن نعيد تشغيل التفريغ والتحميل وتأمين وصول المساعدات، حرصًا على عدم حصول أزمة على صعيد المواد الغذائية. وأخبرنا العماد عون بذلك فقال: لن أسمح بالتقصير في حق أي لبناني، سنقوم بواجباتنا بما لا يتعارض مع الإجراءات القضائية.

وأوضح القيسي أنّ الجيش قام بجهود جبارة وقام بتنظيف الباحة الثالثة والأرصفة ١١و١٢و١٣التي دخلت إليها البواخر لتفريغ القمح والحديد. كما أزال الركام من الرصيفين ١٤ و١٥ وكان العمل فيهما صعبًا. وفي الخلاصة، خلال أسبوع اعتبارًا من ١١ آب دخلت إلى مرفأ بيروت ٢١ سفينة ١٢ منها تنقل حاويات، و٩ تنقل بضائع، بالإضافة إلى ٦ بواخر دولية. وهذا ما أذهل المجتمع الدولي الذي لم يكن يتوقع أبدًا أن نعود إلى العمل بهذه السرعة، وقد وصلَنا شكر من امستردام وهامبورغ.

 

قيمة الأضرار

في ما يتعلق بالأضرار، يوضح القيسي أنّ عملية المسح تتمّ بالتعاون مع الجيش اللبناني، متوقعًا ألا تتعدى قيمتها الـ ٤٠٠ مليون دولار. فهي طالت بشكل أساسي الحوض الثالث، حيث تسبّب الانفجار بإحداث حفرة بعمق ٤٣ مترًا، أدّت إلى تسرّب المياه إلى المرفأ. لكن هذا الحوض لا يشكل سوى ٣٠ ٪ من حجم التجارة، إذ إنّه لا يُستخدم إلا لتفريغ بعض سفن المساعدات كالتي تصل إلى الجيش اللبناني، وبعض سفن الخدمات...

طالت الأضرار المستودعات القديمة وجزءًا من البنية التحتية للمرفأ ومن بينها الإهراءات. أما الأحواض من الـ١١ لغاية الـ١٦ فلم تتضرّر وإنما كانت مغطاة بالركام وقد تولى الجيش تنظيفها.

وإذ جدد شكره للجيش اللبناني الذي تخطى واجبه الوطني وأسهم في إعادة الحياة إلى مرفأ بيروت بسرعة قياسية، شكر القيسي أيضًا موظفي المرفأ الذين رغم المصاب الأليم الذي أصابهم، عملوا باندفاع لا يوصف. كما شكر الجهات الدولية التي أعربت عن رغبتها بتقديم المساعدة موضحًا أنّ الصيغة النهائية التي ستحدّد الجهة التي ستساعد في إعادة إعمار مرفأ بيروت وصوامعه الشهيرة لم تتضح بعد.

وأكد القيسي أخيرًا أنّ مرفأ بيروت عاد إلى خريطة الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكذلك إلى خريطة الملاحة العالمية، وبدأ باستقبال السفن من دون أي تأخير أو أي عوائق تُذكر. كما ترحّم على أرواح الشهداء الذين سقطوا في انفجار المرفأ، وخصوصًا الشهداء الأربعة، وهم من عداد حرّاسه.

 

إهراءات المرفأ التي حمت جزءًا كبيرًا من بيروت

حمت إهراءات القمح في مرفأ بيروت جزءًا كبيرًا من المدينة، وأنقذت الآلاف من الموت. هذا ما أكدّه قائد فوج الهندسة في الجيش العقيد روجيه خوري، وكذلك أحد المهندسين المشاركين في وضع الخرائط والمشاركين في التنفيذ المهندس غبريال أسيون مع مجموعة من زملائه أمثال مصطفى درنيقة ورودولف الياس وغيرهم...

كلام أسيون جاء خلال إحدى المقابلات التلفزيونية إذ أكدّ فيها أنّ إهراءات القمح المدمّرة اليوم كانت من أكبر الإهراءات في الشرق الأوسط.

يتضمن البناء النهائي للإهراءات ما مجموعه ١٠٤ صوامع، بسعة إجمالية تصل إلى ١٢٥ طنًا من الحبوب.

وهي عبارة عن ثلاثة صفوف. الصفّ الذي تضرّر بالكامل هو المحاذي للجهة الشرقية، في حين حافظ الصفان الآخران على تماسكهما، وقد امتصّا عصفَ الانفجار، لكنّهما يحتاجان اليوم إلى الكشف عن متانة أساساتهما.

وضع رئيس الجمهورية الراحل شارل حلو وأمير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح حجر الأساس لصوامع الغلال في ١٦ أيلول ١٩٦٨، وانتهى العمل فيها في العام ١٩٧٠.

صَمّمت الإهراءات مجموعة هندسية سويسرية Bühler Group، وهي شركة متخصصة بالإنشاءات الكبرى. وتمّ تلزيم أعمال الباطون لشركات لبنانية، بينما أنجزت شركة برومستاف التشيكوسلوفاكية أعمال البناء، وذلك بإشراف الشركة السويسرية.

ونشر موقع Idnes الإخباري التشيكي، في ٦ آب ٢٠٢٠، تقريرًا عن العمل الذي أنجزته شركة البناء الكبيرة Prumstav في بناء صوامع الغلال في مرفأ بيروت. ونقل عن جان زيكموند Jan Zikmund من مركز أبحاث التراث الصناعي بكلية الهندسة المعمارية في الجامعة التقنية التشيكية، قوله: «بينما بلغت سعة أكبر صومعة في ما كان يعرف آنذاك بتشيكوسلوفاكيا ٩٢ ألـف طـن، فإنّ صوامـع بيـروت يمكـن أنّ تخـزّن نحـو ١٢٠ ألـف طـن مـن الحبــوب».

وأفاد الموقع أنّ أعمال بناء صوامع الغلال في مرفأ بيروت «كلّفت ٢.٥ مليون دولار». وأنّ ارتفاعها ٦٣ مترًا. تتألف سعتها الاستيعابية من ٤٢ صومعة أسطوانية، بقطر داخلي ٨.٥ أمتار، وسماكة الجدران ١٧ سنتم، والارتفاع ٤٨ مترًا. وقد ارتكز الجزء الأكبر من أعمال البناء على هياكل خرسانية (إسمنتية) مسلّحة.

 

مرفأ طرابلس

يُعتبر مرفأ طرابلس ثاني أكبر المرافئ اللبنانية بعد مرفأ بيروت، تليه مرافئ صور، وصيدا، وجونية، وشكا، والجية، وتُعتبر الخمسة الأخيرة مرافئ متخصصة بأنواع محدّدة من التجارة.

بعد الانفجار توجّهت الأنظار مباشرة إلى مرفأ طرابلس لسدّ الفراغ وتجنيب البلاد أزمة غذائية. وفي هذا الإطار، أكدّ المدير العام لإدارة واستثمار مرفأ طرابلس الدكتور أحمد تامر أنّه تمّ رفع جهوزية المرفأ استعدادًا لاستقبال البواخر التي كانت ترسو في مرفأ بيروت.

وأوضح الدكتور تامر أنّ الدولة اللبنانية استثمرت في مرفأ طرابلس حوالى ٣٠٠ مليون دولار على مدى ١٨ عامًا. وأنّ لديه كامل القدرة اللوجستية والبحرية لاستقبال أكبر بواخر العالم، واستيعاب حوالى ٥ ملايين طن في السنة، علمًا أنّه يستقبل ما يقارب مليوني طن سنويًا.

ولمرفأ طرابلس القدرة على استقبال ٢٣٠ ألف حاوية سنويًا زيادة عن معدله الحالي البالغ ٧٠ ألف حاوية، في حين أنّ طاقته الكاملة تبلغ ٣٠٠ ألف حاوية سنويًا.

 

الكويت تتكفّل بإعادة بناء الإهراءات: وجع لبنان وجعنا

أعلن سفير دولة الكويت عميد السلك الديبلوماسي العربي عبد العال القناعي، أنّ الكويت ستعيد بناء إهراءات القمح في مرفأ بيروت «لتظل عنوانًا شامخًا للأخوة، ولكيفية إدارة العلاقات بين البلدين الشقيقين: يحترم أحدهما الآخر ويشعر الأخ بأخيه».

وضمن برنامج «قد الكلمة» مع الزميلة وداد حجاج عبر «إذاعة لبنان»، قال القناعي: «ارتأينا أنّ أفضل طريقة وأنسب مجال للبدء بالمساعدات المادية، هو إعادة بناء الإهراءات التي توفر المخزون الاستراتيجي من القمح للبنان الشقيق».

وردًا على سؤال قال القناعي: «التزمت الكويت تقديم ٤١ مليون دولار لمساعدة لبنان، منها ٣٠ مليون دولار كالتزامات مسبقة و١١ مليون دولار هي المساعدات الإغاثية والعلاجية والغذائية».

وتوجه القناعي إلى اللبنانيين بالقول: «وجع لبنان هو وجع كل كويتي وكويتية، وننقل تعازينا وتعازي الحكومة والشعب الكويتي إلى لبنان الشقيق، بضحايا هذا الانفجار الشنيع. ونتمنى للجرحى سرعة الشفاء، ونقول لكم: الكويت إلى جانبكم دائمًا وأبدًا».