ضيف العدد

رياح جنوبية
إعداد: اميلي نصر الله

جاءت مع الربيع.
تسلّلت من خياشيم الأبواب والنوافذ, هادئةً, حانية.
شعرتُ بها, تنتقل فوق رموش عينيّ, تفتحهما, تلامس جبيني, وتغرس بين الحاجبين كلمة سرّها.
رياح جنوبية..
آه.. كم اشتقتُك..
فجأة تأتين, تجتاحين كياني, حاملة عبير الصعتر, وبخور مريم, ونكهة الكروم وعطر الزيتون. ناقلة اليّ, ذلك العالم القديم, الذي ما عرفت عالماً أقرب منه الى شغاف القلب.

سألوني:
­ ما سرّها؟.. تلك المنطقة, ما سرّها, تحملينها مع كل خطوة من خطوات العمر, وتسيرين؟.. تحملينها في سواد العينين؟..
قلت لهم:
­ أستعير أقوال المتصوفين, لأردّ على السؤال, أقول لكم:
­ الذين يعرفونها, لا يتحدثون عنها. والذين لا يعرفون ينشرون الكلام.
قالوا:
­ ولكنها ليست من المناطق السرية الغامضة في الكون. أرض, وصخور وبضعة أشجار, وربما ينبوع ماء منسي عند سفح الجبل.
أجبتهم:
­ وينابيع, تتفجر وتتدفق ملء القلب والعينين. وأرض تنبت الزيتون وسنابل القمح, وتفتح الذراعين, تأخذك بين ذراعيها الى أعمق منابع الحنان, وتغرسك هناك, فلا تعود تطلب من وجودك سوى النعاس الأخير, والإلتحام بها الى أبد الدهر.

وصمتوا...
عند آخر نقطة على السطر, أغلقوا دفتر الأسئلة, وتركوني, في غرفة من مدينة تليق بها كل الأوصاف.. ومدينة سعت لتمحو لوعة تسيل من القلب, وحنيناً يقطر ملء الشفتين, وشظايا بريق, يطفر من العينين. وحاولت أن تمسح بأناملها السحرية قطرات بلورية, تغتنم كل فرصة لتتساقط بصمت.
آه, ما أعذب دمعاً يسيل توقاً إليك!..
من مكاني البعيد أبعث الرسالة. أُحمّلها طيور السنونو, كي تغرسها في عشّ لها, تحت حاجب الباب الشرقي, أو في عباب شجر اللوز العتيق.
ولكن, ماذا بوسع الرسالة أن تفعل؟ ماذا يمكنها أن تقول؟
هل تدخل غرف الدار, تتفقدها غرفة, غرفة, وتمسح الأبواب العتيقة, بأنامل الشوق؟ وتقبّل الجدران؟ تقبّل الجدران؟!...
والرسالة, هل تتوقف عند باب تهاوت مفاصله, واندثر طلاؤه, وظلّ برغم عسف الزمن, وطول الهجر, ظلّ يشدّ أوصاله, كي لا يسمح للعواصف بأن تتسرّب الى الداخل, ولا يترك الفرصة للزلازل, كي تخلخل الأسس الثابتة, من الجهات الأربع؟...
والرسالة هل تعبر المربّع وتجلس حيث ديوان الضيوف, وموقد لم يبق فيه سوى الرماد؟...
أو تتوقف, عند باب كل غرفة, وتسمع الأصداء العابرة إليها, من ذلك الزمان البعيد, حاملة صخب الصغار, و"هيصة" الأفراح, والحكايات المغروسة فوق مصاطب السمر؟...
وكيف للرسالة أن تفتح عينيها, وتضمّ مشاهد طوتها الأيام, أو تسرّبت من خصاص الأبواب؟.. وتسجّل صور الوجوه البعيدة والقريبة. وجوه الراحلين والمغتربين, والذين يحجّون إليها مع كل رفّة عين؟...
ولن تعرف الرسالة طريقها الى ذلك المقعد القديم, قرب النافذة المطلّة على فتحة الوادي وحمى السنديان.. لن تبصر الفتاة الصغيرة تجلس ساعات من نهاراتها ولياليها, تتأمّل تحوّل الفصول, ونموّ الشجر, وتحصي الطيور الراحلة, والغمام الطموح, المتسابق لبلوغ قمة حرمون, أو تطويق القمر.
وتتأمل شيخ الجبال, في شمخته المهيبة, حين ترتفع عمّة الثلوج فوق رأسه, أو بعد إنحسارها, مخلّفة صلعته الجرداء, صامدة, تعارك الزمن, وترقب عودة الفلاحين, مع الغروب, وعودة الرعاة وقطعانهم, والصبايا القرويات, بأثوابهن الزاهية, والجرار الفارغة, أو الجرار الملأى بالماء والأحلام فوق أكتافهن.

والرسالة, يمكن أن تتعثّر بأذيال ثوب الجدّة العجوز, الجالسة فوق كرسيها الهزّاز, في يدها مسبحة صلاة, وفوق شفتيها إبتهال.
وهي تصلي:
للأطفال والشباب تصلي. لمن حضر, ومن غاب عن العين. للمقيمين والمسافرين في البحر والبر.. للأصدقاء وللأعداء, تصلّي.
ومع كرّات المسبحة, يتساوى الجميع.. ولا يعود هناك فرق بين وجه وآخر, وبين اللحظة واللحظة.
تقول لها الرسالة:
­ أذكرينا في صلاتك يا جدّة.. أذكرينا.
وتتلفت العينان الحاملتان هموم الزمان.. تتلفتان لتحددا مصدر الصوت, ثم تعود المرأة, فتتابع حوارها مع خط نور, نابع من الأعماق.

الى هذا الخط, خذينا, وفوق مساره ثبّتينا, يا جدّة.. فقد تغلغلت أيام الحزن, حتى لامست الأعماق, ومسحت الفرح, وغرست مكانه بقع الصدأ.
ونحن, من هذه الزاوية المتوارية, خلف أبواب الحديد, وجدران الإسمنت والرماد, نمدّ إليك أيدينا, كي تساعدينا, في العودة الى الجذور.
وفي العودة الى دار عتيقة, أمينة على الأسرار والذكريات. ردّينا إليها, وأوصدي خلفنا الأبواب.

وتهبّ الرياح الجنوية, مع عودة فصول الدفء. تعود فتلفح وجهي, وتفتح عينيّ, تمسح من بين الرموش, الحزن والنعاس, وتقرأ عليّ رسالة الجواب.
تقول لي:
­ الدار تنتظر. الأبواب سوف تظلّ موصدة, والنوافذ لن تفتح للشمس والنور. وأحلام الصبية الصغيرة قابعة في صندوق مقفل, والجدّة تغرس, في مسبحتها, حبة جديدة مع شروق الشمس كل صباح.
وتقول الرسالة:
­ الأرض تحفظ لكم كل شيء؛ الوعود والأحلام, والكلمات المغروسة فوق صدرها, كحبّات الياقوت. والفصول تتناوب على حراستها, وتحميها.
والأرض تـعـد بـأنـها سـوف تـظـل تنـبـت القـنـدول والقـبّار, وتحجــب فرحـهـا, وذهـب السنابـل, الى أن تعود زنـود تشتاقـها, وتعـرف بأي اللغـات, تخـاطبـهـا.
وتعود شتلات, اقتلعت من فوق صدرها, وغرست في مطارح الغربة والصقيع.
والأرض إذا وعدت وفت... تقول الرسالة, فبلّغوا عنها كل السائلين والمنتظرين, عند أعتاب الزمان. طمئنوهم, بأنها باقية على العهد, أرضهم القديمة, حلم الطفولة ومثوى الأجداد.

حفنة رياح جنوبية, حاملة عبق الوزّال, وشذى الصنوبر والصعتر, وبخور مريم. هبّت عليّ عند المساء. تسرّبت من خلال كل الحواجز, وتغلغلت عميقاً بين شغاف القلب, وأيقظت الذكريات...
آه.. لو تبقى غافية الذكريات!...