بلى فلسفة

ريش فوق التراب
إعداد: العقيد اسعد مخول

إنّها المرة الأولى التي أتمنّى فيها اليباس لشجرة, لكنّها ليست الأولى التي أتمنّى فيها زوال العافية من أصابع الصيّادين, كائنة ما كانت جاذبية قبّعاتهم, وجيوب ستراتهم المحشوّة بالحديد والنّار.
لعنتُ تلك الشجرة رغم أنها مثقلة بالثمر مزدانة بالورق. لقد رأيتُ فيها فخّاً بشعاً يستدعي العصافير الى حتفها على يدَي واحد من القتلة المحترفين. قاتل يختبىء في الحِمَى, موجّهاً قبّعته الى ما وراء رأسه إفساحاً للرؤية, وتضييقاً للرؤيا, يتأنّى في حركاته تيسيراً للإيقاع بالضيوف القادمين الى شفير الغضون. يطلق النّار, ويخفّ الى التقاط الضحايا هامدة ساكنة, ثمّ يكوّمها فوق بعضها, فيما كانت إمرأة تحوم حوله, توحي إليه بحسن الأداء, وبراعة الصّنيع, فلعلّ إيحاء هذه المخلوقة يتخطّى الفن والأدب الى كل حدث في الحياة, من هنا ما قيل: “فتّش عن المرأة” من أجل معرفة السّبب والعّلة للنتائج والمحاصيل... وفي الطرف الآخر وقف ولد ناشئ يتطلع الى الشجرة وهو يلتهم ما تُسلّمه إياه تلك السيّدة من الثمار. كنت أرى في خيالي امتعاضاً عميقاً ينتاب الشجرة من أعلى الغصون الى أخمص الجذور, فهي مضطربة محرجة حائرة في أمر ضيوفها: القتلة منهم... والمقتولين. لكنْ, ما بالنبات حيلة, إنه لو تدخّل في ما لا يعنيه لانهالت عليه الفؤوس, وأُضرمت في قلبه النيران, من يدري؟!
كانت الضحايا تزداد. بعضها ترقص أشلاؤه على الخصر, وبعضها الآخر يتم تجميعه في إحدى الحفر الصغيرة. يلقي صيادنا “المكروه” عصفوراً فوق الآخر من دون اهتمام, ويعيد النظر الى الأعلى, يصغي قليلاً الى النغم الصادح بين الأوراق الخضر, ثم يطلق النار مذكّراً بقول الرّاجز:
والطّير قد يسوقه الى الموتِ إصغاؤه الى حنين الصّوتِ
كنت أتأمل هذا المشهد قائلاً لنفسي: هل نضب الطّعام في الحوانيت, فنزل هذا الرجل الى الشجرة شاهراً سلاحه, طالباً القوت لأنثاه ومولودها؟ أو, هل ضاق بطنه وهو أشبه ما يكون ببطون الحوامل عن ابتلاع الأجساد الكبيرة وكتل العجين السميكة, فطلب العصافير الصغيرة؟ أم أن تلك الفرائس ستكون لإبنه, الضّاري النّاشئ, يدرّبه بواسطتها على الانتماء الى أكلة اللّحوم ومصاصي الدّماء؟ فكّرت بإطلاق الصوت نحوه لمنعه من الاستمرار في مذبحته, لكنني خشيت أن يصوّب سلاحه الى وجهي وهو في حمأة الموت تلك, فكم من مرة حاول إنسان أن يردع ثوراً هائجاً عن نطح كائنات المزرعة, فاستدار نحوه وغرز قرنيه في صدره... كما خشيت أن تلتفت إليّ إمرأته مؤنّبة محتقرة, خصوصاً وأنها لن تجد عندي بأس بعلها, وشراسته, وقدرته المسلّحة, واستعداده الواضح لضرب حسن العصافير, و”كأنه في جفن الرّدى وهو نائم” كما قال المتنبّي الكبير.
وفيما أنا “مأخوذ ومردود”, انبرى مقاتل من فوق إحدى الشرفات مواجهاً حديدها بيديه الإثنتين, ملقياً جسمه على ساقه اليمنى, دافعاً اليسرى الى الخلف وكأنّه يستعد للانطلاق في الفضاء. قال للصيّاد حليفاً مؤازراً متضامناً: “على الغصن الآخر, على الغصن الآخر... أنزله, أنزله... أقتله”. وكأن اللّه حرم العصفور من حاسة السمع, ومن نعمة الحذر والانتباه... لم يهتم بما يحاك بين الحليفين الجبّارين. لم يغيّر موقع الخطر المسكون بالشياطين, وكاد أن يبدأ الغناء لفرط بساطته وبراءته, لولا أنّ طلقاً نارياً عاجله فأرداه وأسقطه حتى مستوى أقدام البشر, منقاره بين الحصى, وريشه فوق التراب.
عدت بذاكرتي المتعبة الحزينة الى إحدى المرّات التي رأيت فيها امرأة ريفية معصوبة الرأس, مشدودة الخصر, تمشي في الغابة وهي تضع فأساً على ردفيها وقد أمسكت كل طرف منها بيد. كان من الواضح أنها تفتش عن شيء ضائع, أو أنها تتوعّد كائناً عدواً. كنتُ آنئذٍ في استراحة الى جوار إحدى الصّخور مع أحد الأصحاب, نظرتْ الراعية إلينا نظرة عابرة, وأكملتْ مشوارها الهادئ.
قلت لصاحبي هامساً: “إمرأة تحمل فأساً؟!”, أدركَتْها العبارة, فالتفتتْ على مهل, وحدّقتْ بنا وقد حمّلتْنا, الإثنين, مسؤولية هذا “التّصريح”, قائلة:
­ الفأس؟ إنها تعينني في قتل الثعبان, أمس قتلتُ واحداً.
­ يبدو أنك تفتشين عن شيء ما.
­ نعم, أفتش عن خروف ضائع.
­ كم خروفاً لديك؟
­ خمسون.
­ قد تجدين المفقود في إحدى زوايا المزرعة. أعيدي عدّ القطيع.
­ أنت لديك أولاد: هل تخطئ في عدّهم؟
­ ... منذ متى أضعته؟
­ منذ أسبوع.
­ إذاً, من الصّعب العثور عليه.
­ نعم. لكنني أكرّر المحاولة كل يوم.
­ قد يكون فريسة أحد الوحوش.
­ إنّ ذلك أسهل عندي من أن يضمّه أحد الرّعاة الى قطيعه.
... مضت الراعية, وعدت الى ذاتي أسألها: هل انّ الصورة التي نراها لراع يلاعب خروفاً صغيراً لا تعدو كونها تهيئة لوليمة مستقبلية يفيض الدسم خلالها حول الشّفاه, ويسيل فوق الذقون؟ إنني لم أرَ جفناً يهتز لهذه الراعية وهي تتحدث عن إنقضاض الوحش على خروفها المفقود, مفضّلة ذلك على ضمّه الى أحد القطعان. لكن تشدّدها لن ينسيني “غلاظة” الصيّاد القنّاص, ولعل في ذلك موقفاً أقلّ سلبيّة من المرأة, أو... تفريقاً بين العصفور والثعبان, وهما متساويان لدى بعض “المحلّلين” ممّن لا يعنيهم ما قاله أبو العلاء المعري حين عُرض عليه ديك للطّعام:
“استضعفوك فأتوني بك, هلاّ أتوني بشبل الأسد؟”.