متاحف في بلادي

زكي ناصيف على كرسيه متأملًا قمر مشغره مرسلًا موسيقاه إلى الأجيال
إعداد: جان دارك ابي ياغي

أبساد حوّلت بيته إلى متحف

 

شدة الشوق والحنين إلى عروسه مشغره، وإلى دندنة أمه الحنون، أعادتا الروح إلى بيت زكي ناصيف المهجور الذي حوّلته جمعية تشجيع حماية المواقع الطبيعية والأبنية القديمة في لبنان APSAD إلى «متحف ومركز زكي ناصيف الثقافي». وهكذا عاد الفنان الكبير ليتربّع من جديد على كرسيه الخشبي عند المساء، ويتأمل قمر مشغره الذي تغنّت بجماله السيدة فيروز.
الزيارة إلى بيت شيخ الفولكلور اللبناني الذي يشبه الفنان الراحل بهدوئه وتواضعه، كانت عابقة بموسيقاه الساحرة تصدح في حنايا المكان والزمان باعثة الحياة والروح.

 

عودة الروح إلى البيت المهجور
في خطوة هي الأولى من نوعها، تولت «جمعية أبساد» في العام 2012 إعادة ترميم منزل الفنان الراحل زكي ناصيف، الذي يتقاسمه 23 وريثًا تنازلوا جميعًا عن ملكيته ليصبح متحفًا، يؤمه محبو الفن الأصيل ويخلّد ذكرى هذا الفنان الرائد. هذه الخطوة ترافقت مع أخرى للحفاظ على تراثه الفني الذي بات محفوظًا في الجامعة الأميركية.
بالتزامن مع الذكرى المئوية لميلاد زكي ناصيف، ومرور اثني عشر عامًا على رحيله، ها هو يعود إلى بلدته مشغره في المتحف الذي تمّ افتتاحه برعاية وزارتي الثقافة والسياحة، بينما تستمر النشاطات ضمن برنامج خاص في الجامعة الأميركية، لإبقاء تراث هذا المبدع حيًا في ذاكرة الأجيال.
ومن المعروف أن زكي ناصيف هو الذي أسس بموسيقاه مدرسة فنيّة عريقة اعتمد فيها على النمط الموسيقي التقليدي القديم، بروح جديدة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بفولكلور القرية اللبنانية، والتي ما زالت تشكل حتى اليوم عنوانًا للأطروحات التي تتناول الموسيقى الشرقية.

 

على كتف الوادي
عندما دخلنا منزل زكي ناصيف برفقة مديرة جمعية الأبساد السيدة رولى حسّون، أحسسنا وكأنه ماثل أمامنا من خلال موسيقاه وألحانه التي يعبق بها المكان. يتألف المنزل- المتحف المبني من الحجر الصخري الأصفر ذي النوافذ والأبواب المطلية بالأزرق من طابقين (وهذه كانت ميزة منازل العائلات الميسورة)، تزيّن واجهته الأمامية أربع قناطر تذكرنا بالبيوت اللبنانية القديمة، التي بناها الأجداد في أواخر القرن التاسع عشر. تبلغ مساحة البيت الإجمالية نحو 600 متر مربع، إضافة إلى باحة واسعة يسمونها «السطيحة»، وقد تمّ تحويلها إلى مكان تقام فيه الحفلات الموسيقية في الهواء الطلق وتتسع لنحو 250 شخصًا.
يشكّل الطابق السفلي ردهة الاستقبال حيث تعرض خرائط المنزل قبل الترميم وبعده، إلى لوحة كبيرة تعرّف «بجمعية أبساد» التي تأسست في العام 1960 مع الليدي إيفون سرسق كوكرن ودورها الريادي في الحفاظ على الأبنية التراثية القديمة في لبنان، التي تجسّد جزءًا مهمًا من تاريخ لبنان وهويته. واليوم تكمل المسيرة السيدة ريا الداعوق بعد توليها رئاسة الجمعية. وإلى جانب قاعة الاستقبال كافيتريا صغيرة واستراحة لزوار المتحف القادمين من بعيد.

 

آثار السنين والذكريات
من مميزات البيت، الدرج الصخري الطويل الذي يحمل آثار السنين وذكريات كثيرة. يؤدي الدرج إلى الطابق العلوي حيث كانت العائلة تعيش، هذا الطابق بات يضم كل مقتنيات زكي ناصيف من مخطوطات وأغراض شخصية.
وقد حرصت الجمعية في أثناء الترميم على الحفاظ على أدق تفاصيل البيت القديمة من الداخل والخارج ليعود إلى ما كان عليه أيام عاش فيه الفنان الراحل مع عائلته.
أول ما يطالعنا قاعة كبيرة تشكل القسم المركزي للمتحف المطل على الوادي، ومنها تتفرع ست غرف. نبدأ من غرفة ست البيت المفتوحة على المطبخ وقد تحولت اليوم إلى قاعة مؤتمرات تزيّن جدرانها لوحات فنية قدّمها للمتحف الرسام حبيب بردويل (ابن شقيقة زكي ناصيف)، وهي مستوحاة من سورة مريم في القرآن الكريم. وفي زاوية من زوايا الغرفة عرض كتاب «من أوراق زكي ناصيف» الذي أعدته الجامعة الأميركية عن سيرته الإنسانية وهويّته الفنيّة، وهو بخط يده.
ننتقل إلى حيث كانت غرفتا الطعام والمطبخ وقد أبقتهما المهندسة المتخصصة في علم الآثار الدكتورة ياسمين معكرون (المشرفة على عمليات الترميم والتأهيل والتصميم) على قدمهما، لأنّ المطبخ يمثل بخزاناته الخشبية وفرنه الحجري وأوانيه القديمة نموذجًا عن أصالة الريف اللبناني العريق. وقد تحوّلت هذه الغرفة إلى «معهد أبساد» لتعليم الموسيقى وتشجيع المبدعين، تديره المغنية الأوبرالية غادة غانم. وبالفعل، بدأت عملية اختيار الطلاب، وسيهتم أساتذة موسيقيون بتنشئة مواهب فنية جديدة يؤمل أن يكون بينها زكي ناصيف آخر.
ننتقل إلى الغرفة المجاورة التي أصبحت مركزًا سمعيًا وبصريًا، تعرض فيه مؤلفات ناصيف الموسيقية وصور فوتوغرافية تروي أهم مراحل حياته، كما نشاهد عرضًا لأفلام وثائقية ومقابلات تلفزيونية تروي تفاصيل مشواره الفني وأبرز محطاته.
المحطة الأبرز في الجولة كانت في غرفة نوم زكي ناصيف. في هذه الغرفة نجد: خزانته وسريره وأغراضه الشخصية وآلة البيانو التي كان يعزف عليها، الطاولة التي كان يُدَوِّن عليها نوتاته الموسيقية، أول فونوغراف عرفته المنطقة كان والده قد اشتراه، الراديو القديم، قبعته، لوحة زيتية له بريشة حبيب بردويل، وكرسيه الخشبي الذي كان يجلس عليه في المساء ليتأمل قمر مشغره من شرفة غرفته.
أما آلة البيانو القديمة التي تتوسط القاعة الكبيرة فتعود للموسيقي العالمي روسيني. ويستطيع زائر المتحف أن يستمع إلى أغاني الفنان الراحل وموسيقاه طوال فترة التجوّل في أرجائه.
انتقلنا إلى سطح المنزل الذي يطل على مشاهد طبيعية جميلة جدًا، وقد تحوّل إلى مركز ثقافي لإقامة الحفلات إحياءً لموسيقى زكي ناصيف.

 

نموذج انمائي
لم تكن عملية إعادة ترميم المنزل واسترجاع خصوصيته سهلة، إذ تطلّب الكثير من الجهد والبحث والتفتيش عن تاريخه. فحالته قبل الترميم كانت سيّئة جدًا بفعل عوامل الطبيعة وهجرة أهله له. من جهتها، أملت مديرة الجمعيّة أن «يمثّل هذا الإنجاز الإنمائي في منطقة البقاع الغربي نموذجًا يحتذى به في التعاون بين أصحاب الأبنية القديمة المرتبطة بكبار المبدعين في وطننا، وبين الخيّرين القادرين على تشكيل نقطة تحوّل في إنماء الحس الثقافي والتربية الموسيقية في كل المناطق اللبنانية.
وتمنّت السيدة حسون على كل من يملك أي قطعة من مقتنيات زكي ناصيف، التواصل مع الجمعية ليصار إلى حفظها في متحفه. كما أنّ المساعي لم تتوقف لإدراج المتحف على خريطة لبنان السياحية، لتبقى ذكرى ناصيف راسخة في الذاكرة وتنتقل إلى أجيالنا المقبلة.
نشير إلى أن المتحف سوف يكون مجهزًا بممرات ومداخل خاصة بالمعوقين، ويفتح أبوابه كل أيام الأسبوع (صيفًا وشتاءً)، مقابل رسم دخول تشجيعي (3000 ل. ل). أما بالنسبة إلى زيارة طلاب المدارس فتكون بناء على موعد مسبق.

 

شيخ الفولكلور اللبناني

ولد شيخ الفولكلور اللبناني في الرابع من تموز 1916 في مشغرة، ودرس في الجامعة الأميركية في بيروت في الثلاثينيات من القرن العشرين. منذ طفولته عشق الشعر والموسيقى الشعبيّة (الزجل، المعنّى، العتابا، الميجانا، أبو الزلف...). وأخذت حواسه الموسيقية تتناغم مع النغمات الروحانية، عن طريق الاستماع إلى تلاوة الشيخ سلامة حجازي لآيات القرآن الكريم، وإلى التراتيل الكنسية المارونية والبيزنطية. وفي وقت لاحق، عمل على تنمية هذه الأحاسيس من خلال ألحان الدبكات الفولكلورية والرقصات الشعبية والأغاني التراثية.
إنضم إلى فريق إذاعة الشرق الأدنى التي انتقلت بعد العام 1948 من يافا إلى لبنان، وشكّلت حاضنًا لكبار الموسيقيين اللبنانيين مثل الأخوين رحباني، وفيلمون وهبه، وتوفيق الباشا.
في بداية الخمسينيات، شارك زكي ناصيف في تأليف «عصبة الخمسة» التي ضمّت إليه: الأخوين الرحباني وحليم الرومي وتوفيق الباشا وفليمون وهبه، وهم أركان التجديد في الغناء الشعبي اللبناني.
وُصف «بشيخ الفولكلور اللبناني»، وتربت على ألحانه وأغنياته أجيال، ومن هذه الأغنيات «طلوا حبابنا، ويا عاشقة الورد، وراجع يتعمر لبنان (التي تحولت إلى نشيد)، إضافة إلى مئات الأغنيات الأخرى بأصوات أشهر المطربين والمطربات، ومنهم: فيروز، وديع الصافي، صباح، نجاح سلام، ماجدة الرومي، وغيرهم.
بعد وفاته في العام 2004، أنشأت الجامعة الأميركية في بيروت «برنامج زكي ناصيف للموسيقى» للحفاظ على تراثه الموسيقي، وتكريمًا لتلميذها الذي صار من أعمدة الموسيقى اللبنانية. ولهذه الغاية، قدّمت العائلة أرشيفه الموسيقي المؤلف من 1100 قطعة موسيقية وشعرية إلى الجامعة التي وضعته في «مكتبة يافت»، على أن توضع نسخ عنها في متحف مشغره تشمل معظم الأعمال التي قام بتنفيذها.