قضايا اجتماعية

زواج القاصرات:وجه من وجوه الإتجار بالبشر
إعداد: جان دارك أبي ياغي

ينتهك حقوق الإنسان والعنف أبرز تبعاته

ظاهرة زواج القاصرات برزت بشكل لافت في لبنان في الآونة الأخيرة، ما يشكّل انتهاكًا واضحًا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويخالف أبسط القواعد التي يجب أن يقوم عليها الزواج.

 

حجم الظاهرة
في المبدأ، لا مسوحات ولا إحصاءات رسمية يمكن أن تعطي صورة واضحة عن ظاهرة الزواج المبكر في لبنان، أو بمعنى أدق، تزويج القاصرات. ففي ظل القصص التي صارت من يومياتنا عن هذا الزواج، لا يوجد سوى مسح يتيم أجرته إدارة الإحصاء المركزي بالتعاون مع منظمة «اليونيسف» عن «أوضاع النساء والأطفال في لبنان»، والذي يعود إلى العام 2009. ولكن، ماذا بعد خمس سنوات؟ وماذا بعد طفرة النزوح السوري وبعض القصص التي صارت بطلاتها قاصرات؟ لا تكفي هنا القصص التي تخرج مصادفة إلى العلن لتقدير حجم الظاهرة، فالقصص المختبئة أكثر بكثير.
المسح، على أهميته، يبدو ناقصًا الآن. وما بين 2009 و2014، ثمة فارق شاسع على الأرجح في الأرقام، حيث ترتفع حالات الزواج المبكر، ولا سيما عند أسر النازحين السوريين والأسر اللبنانية التي تعاني الفقر المدقع. لكن، قبل الدخول في تفاصيل المسح في ما يخص هذه القضية، ثمة ما يجب التذكير به: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يؤكد أن «من حق كل إنسان أن يوافق على زواجه بشكلٍ كامل لا إكراه فيه، مع الاعتراف بأن القبول لا يكون كاملاً ولا إكراه فيه عندما يكون أحد الطرفين المعنيين غير ناضج وغير قادر على اتخاذ قرار يتعلق باختيار شريك العمر». إلى الإعلان العالمي، ستأتي المادة 16 من اتفاقية «القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة». تلك التي تنص صراحة على الحق في الحماية من زواج الأطفال، بحيث «لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني، وتتخذ جميع الإجراءات الضرورية، بما في ذلك التشريعي منها، لتحديد سن أدنى للزواج ولجعل تسجيل الزواج في سجل رسمي أمرًا إلزاميًا».
هذا التذكير يفترض أن يكون في رسم الدولة اللبنانية التي تناقض نفسها في مواضع كثيرة، لعل أهمها تحديد سن معينة للانتخابات، إذ لا يجوز لمن لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره أن يمارس هذا الحق لأنه ببساطة لا يتمتع بالأهلية القانونية، فيما يترك سن الزواج بأيدي الطوائف التي يبيح معظمها تزويج القاصر، في سن البلوغ أحيانًا. أي في سن التاسعة. وهذا إن عنى شيئًا، فهو يعني انفصامًا. وكي لا يبقى الانفصام قائماً، مطلوب «من الدولة أن تقوم برفع سن الزواج، وعلى الطوائف في هذه الحال أن تلتزم بما تفرضه الدولة»، كما تقول المحامية ليلى عواضة.
وفي المسح الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي والذي تناول عيّنة من 7560 امرأة، يمكن أن نرى هذا الحضور بالنسبة المئوية لفتيات تزوّجن قبل بلوغهن سن الخامسة عشرة، وأخريات تزوّجن قبل بلوغهن سن الثامنة عشرة. بالنسبة إلى الفئة الأولى، يشير المسح إلى أن «2.1% من النساء اللواتي يبلغن (في وقت إجراء المسح) من 15 إلى 49 عامًا قد تزوجن قبل سن 15 عامًا»، في حين تزوجت «13,4% من النساء اللواتي يبلغن (حينها) من 20 إلى 49 عامًا قبل سن 18 عامًا». ومن خلال دراسة للفئتين العمريتين للنساء 15 49 و20 49، «هناك 16,7% من النساء في عمر 45 49 عامًا تزوجن قبل بلوغهن 18 عامًا، مقارنة بـ6,1% من النساء اللواتي يبلغن 20 إلى 24 عامًا». هذا يعني أن سن زواج الفتيات ارتفع بالمقارنة مع السابق، ولكنّ هناك عددًا كبيرًا من الفتيات القاصرات يتزوجن أو يتم تزويجهن بعمر مبكر، ومن خلال المشاهدة العيانية للفترة التي تلت تاريخ المسح المذكور، يمكن توقع أن عمر الزواج لدى الفتيات عاد إلى الانخفاض مجددًا.

 

في ضواحي العاصمة والأطراف
 أين تركزت النسبة الأعلى من الزواج المبكر؟ بحسب المسح، فإن النسبة الأعلى لمن تزوجن قبل سن الثامنة عشرة تركزت في ضواحي العاصمة «حيث بلغت النسبة 10,5%، يليها جبل لبنان 7,7%»، فيما سجل لبنان الشمالي النسبة الأعلى بالنسبة إلى المتزوجات ما قبل 15 عاما،ً «حيث بلغت النسبة 3,3%». ولهذا الأمر أسباب، منها «الفقر وحماية الفتيات وشرف الأسرة والحاجة إلى الاستقرار في فترات عدم الاستقرار الاجتماعي. وكل هذه عوامل مهمة تعرض الفتيات لخطر الزواج في سن الطفولة».
ثمة نقطة إضافية هنا، وهي تأثير مستوى تعليم الأم على زواج الصغيرات، إذ تبيّن الدراسة أن «نسبة المتزوجات في عمر أقل من 18 عامًا من أصل مجموع النساء في عمر 20 49 عامًا، تتدرج بين 19% لمن كانت أمهاتهن أميات، و23,1% للواتي تابعت أمهاتهن مستوى تعليميًا ابتدائيًا و9,8% و2% لدى من تلقت أمهاتهن مستوى تعليميًا متوسط وثانويًا وجامعيًا».

 

الزواج المبكر والعنف الأسري
بعيدًا عن النسب المئوية، لا بد من التطرق إلى مخاطر هذا الزواج وما سيترتب عليه، إذ يشير المسح إلى أن «تبعات الزواج المبكر حصول العنف، إذ يؤدي الفارق في العمر بين الزوج والزوجة - والذي يزيد في بعض الأحيان عن عشر سنوات - إلى رفع احتمالات العنف الأسري». أما الطامّة الكبرى فهي «ميل النساء اللواتي تزوجن في عمر مبكر إلى الاعتقاد بأن من المقبول أحيانا ًأن يضرب الزوج زوجته». وفي هذا الإطار، تشير النتائج إلى أن 9,7% من النساء في لبنان يعتقدن بأن للزوج الحق في ضرب زوجته، «وقد كان إهمال الزوجة لأولادها من أهم الأسباب التي تعطي الزوج هذا الحق، حيث بلغت النسبة 7,4%». على أن هذا المؤشر يختلف من منطقة إلى أخرى، حيث إن «ربع النساء في محافظة لبنان الشمالي يعتقدن بأن للزوج الحق في ضرب زوجته لأي سبب كان. أما في قضاءي بعلبك والهرمل، وجبل لبنان، فالنسب منخفضة جدًا في ما يتعلق بهذا المؤشر». وربما، قد يفسر هذا الأمر ما يحصل اليوم في شمال لبنان تحديدا،ً حيث ترتفع نسب الزواج المبكر.

 

تزويج القاصرات يندرج في جرائم الاتجار بالبشر
التزم الدستور حماية المواطنين والمجتمع، كما أن الدولة اللبنانية وقعت الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، لكن 14 مليون طفلة يمُتن سنويًا بسبب الاغتصاب والزواج المبكر، بحسب نتائج المؤتمر الدولي للاتجار بالبشر (فيينا / شباط 2014). هذه النسبة تجعل الحديث عن أهمية حماية القاصرات من الزواج المبكر تتخطى مسألة حرمان الفتاة التعليم وتحقيق الذات وغيره.. ذلك أن زواج القاصر يمثل واحدًا من أبشع أشكال العنف وأخطرها.

 

زواج القاصرات بين الشرع والقانون
ليس في القوانين اللبنانية سن معيّنة تحدد «أهلية» الفتاة للزواج، خصوصًا في ظل عدم وجود مفهوم موحد بين سن الرشد القانونية المطبقة بحسب القوانين المدنية، وسن الزواج المطبقة بحسب قوانين الاحوال الشخصية. ففيما القوانين اللبنانية تقرّ بعدم أهلية كل فتاة دون الـ18 عامًا لالتزام العقود (قانون موجبات وعقود) او للترشح والانتخاب (قانون الانتخاب) او حتى قيادة السيارة (قانون السير)، ما من قانون يحدد سنًا معينة لزواج الفتاة، الامر الذي يبرز تناقضًا لدى المشترع اللبناني، فكيف يعد كل فتاة دون الـ18»قاصرًا»، لكنها «أهل» لإنشاء أسرة؟! من هنا يسأل أمين سرّ الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية فادي كرم «لماذا يتغاضى المشترع عن زواج القاصر التي لم تبلغ سن الـ18، ولا يقوم بواجب حمايتها؟». ويرى أن «انكفاء الدولة عن واجب حماية القاصرات من الزواج المبكر يمثل مخالفة الدولة لدستورها وللمواثيق الدولية المبرمة من قبلها». في إشارة إلى أن الدستور التزم حماية المواطنين والمجتمع، كما ان الدولة اللبنانية وقعت الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، التي رأت ان كل شخص لم يبلغ الـ18 عامًا يسمى طفلًا، فضلًا عن توقيعه معاهدة منع الاتجار بالبشر.

 

«كفى عنف واستغلال»
تشير مديرة منظمة «كفى عنف واستغلال» زويا روحانا إلى أنه «من الممكن تصنيف الكثير من حالات الزواج المبكر كحالات الاتجار بالأشخاص»، استنادًا إلى المادة 586 من قانون معاقبة جريمة الاتجار بالأشخاص، الذي أقره مجلس النواب اللبناني العام 2011. فهذه المادة تعرّف الاتجار بالبشر بأنه يجري عبر اجتذاب شخص أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو إيجاد مأوى له، إما بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها، وإما بهدف استغلاله أو تسهيل استغلاله من الآخرين، الا أن اللافت أن الفقرة التالية من المادة نصّت على اعتبار أن «اجتذاب المجني عليه أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو تقديم المأوى له لغرض الاستغلال بالنسبة إلى من هم دون سن الثامنة عشرة، اتجارًا بالأشخاص، حتى لو لم يترافق ذلك مع استعمال أي من الوسائل المذكورة أعلاه (التهديد بالقوة أو استغلاله)». وطالما أن هناك العديد من المراجع التي يمكن من خلالها مكافحة ظاهرة تزويج القاصرات (قانون معاقبة جريمة الاتجار بالأشخاص والاتفاقيات الدولية لحقوق الطفل وغيرها)، لماذا لا تزال القوانين اللبنانية تعطي الغطاء الشرعي لحالات الزواج المبكر؟

 

حماية القاصرات
تقول المحامية العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية أرليت تابت، «إن موضوع حماية القاصرات من الزواج المبكر هو موضوع شائك، نظرًا إلى طبيعة النظام الطائفي في لبنان، ونظرًا إلى الاختلاف الكبير في تحديد سن الزواج بين الطوائف والمذاهب، وعدم وجود رقابة موحدة من اي سلطة على هذا الامر»، وتضيف: «إن الاختلاف الحاصل هو نتيجة تعدد قوانين الأحوال الشخصية والتشابك في تطبيقها وتنفيذها، وخصوصًا عند وجود اختلاف في الدين بين الزوجين».
يبقى أن نشير إلى أن جمعيات المجتمع المدني تسعى إلى القيام بحملة نشر للحد من هذه الظاهرة عبر التوعية على مخاطر الزواج المبكر والذي أثبتت التجارب مساوئه ومخاطره على النساء خصوصًا.