في مواجهة الحياة

زوجات الشهداء في مواجهة الحزن والأيام مناضلات يليق بهنّ الفخر والاعتزاز (2)
إعداد: جان دارك أبي ياغي - ندين البلعه خيرالله

... وعاد إليها مستشهدًا، فكيف تواجه غيابه المضني؟ الحزن رفيق دربها، الوجع يدمغ كل الأيام، المحطات الصعبة كثيرة، لكنها مع كل ذلك وأكثر منه، تنهض... تستوي في مواجهة حزنها ووجعها والحياة. تحيي ذكرى رجل كان شريك عمرها وأخذته الشهادة منها. تتصالح مع الغياب لتصنع منه خبزًا لأولادهما ومقلعًا ينبت فيه رجال ونساء يفتخر والدهم من عليائه بهم، كما يفتخرون بشهادته.
في ما يلي إضاءة على قصص وتجارب عاشتها زوجات ضباط استشهدوا ليحيا الوطن، قصص قد تختلف تفاصيلها من بيت الى آخر، لكنها أيضًا تتشابه كثيرًا، حيث المرأة زوجة الشهيد، أم، وأب وأكثر...


ليليان النّداف: الحياة تستمر والإرث يبقى
هي زوجة وأم... وأب! حرمتها الحياة بالتواطؤ مع الإرهاب، من شريك عمرها وركن بيتها. اعتادت غيابه شبه الدائم عن المنزل ولكنّه كان يعود... لم تكن تعرف أنها ستخسره وأن الحياة تدعوها إلى نضال لا ينتهي في مهبّ الرياح والمخاطر، لتحمي عائلتها التي أسّستها مع حبيب عمرها الشهيد، لكن هذا ما حصل.
ليليان دميان الندّاف، زوجة العقيد الشهيد ميلاد الندّاف الذي استشهد غدرًا بتاريخ 3/1/2000 في معركة الضنية، هي أمّ لصبيَّين وفتاة، كان عمر كبيرهم 14 سنة حين خسروا والدهم.
«فجأةً صحوت في مطلع عام جديد ولم أجد حبيب عمري إلى جانبي... أصابتني صدمة جعلتني مستسلمة للمرض لأكثر من خمسة أشهر. ولكن بقدرة قادر، وبفضل الصلاة وإحاطة المقرّبين لي، عدتُ لأقف من جديد من أجل أولادي لأربّيهم وأبقي ذكرى والدهم حيّة في ما بيننا.
باتوا هم كل حياتي، وبمساعدة والدتي وشقيقتي، إلى جانب شقيقة زوجي الوحيدة التي كانت بمثابة أختٍ لي أيضًا، استطعت أن أكمل هذه المسيرة الصعبة، وأنا مدركةٌ جيّدًا أنّ ميلاد يرافقنا بالروح حتى لو لم نستطع رؤيته. ولا أنسى أيضًا الدعم الذي قدّمه لنا شقيق زوجي الأستاذ حليم الذي احتضن أولادي جوزف وإيليو ومهى بكلِ عطفٍ ومحبة، وعاملهم كأولاده ليعوّضهم عن غياب أبيهم البطل».

شهيد يستشهد من جديد!
ترتسم ابتسامة على وجه ليليان وهي تتحدّث عن جوزف ابنها البكر، الذي قرّر متابعة مسيرة والده وهو خير خلف. الغصّة كانت كبيرة في عرسه بسبب غياب والده «ولكننا الآن ننتظر ميلاد الصغير! والحياة تستمرّ»، أمّا إيليو الذي كان طفلًا حين استشهد والده فهو أيضًا يرغب الآن بالإنضمام إلى صفوف المؤسسة، ومهى، على طريقتها، تعبّر عن حبّها للجيش من خلال المشاركة بالنشاطات الداعمة له.
«الله يحمي الجيش... كلّما وقع شهيد في صفوفه، يكون في منزلنا حزن كبير وعزاء، وكأن ميلاد استشهد من جديد»، تقول ليليان، مؤكّدة أن استشهاد ركن العائلة يحمّل كل فرد فيها إرثًا ينتقل من جيل إلى جيل، ويساهم في ترسيخ العلاقة مع المؤسسة العسكرية.
وتلفت السيّدة الندّاف إلى الدعم الذي تقدّمه قيادة الجيش لعائلات الشهداء واحتضانها لها. أمّا كلمتها الأخيرة فكانت دعوة كل زوجة شهيد إلى التعالي على جراحها، إن لم يكن من أجل نفسها فمن أجل أولادها وعائلتها التي هي بأمسّ الحاجة إلى وجودها، قويّة وواعية وقادرة على مواجهة الصعاب التي ألقتها الحياة على كاهلها.
 

ليا العاقوري: صوت الوطن في داخله كان الأقوى
عندما ناداه الواجب، كان يمسك علم بلاده بيد، وبالأخرى سلاحه. أما في قلبه، فحب كبير لوطن آمن به، ولأهل وزوجة وعائلة ورفاق... الحب الأول قاده إلى الشهادة... وشهادة المقدم المغوار الشهيد صبحي العاقوري، تستمر نابضة بالحياة في يوميات عائلته، وفي المؤسسة التي تحمل اسمه تخليدًا لذكراه.
التقت ليا بزوجها في صيف العام 1998 عندما حملته الصدفة لزيارة بلدته دير الأحمر في قضاء بعلبك، والتي لم يكن يتردد إليها باستمرار، إذ كان يعيش في منطقة غدير مع أهله حيث ترعرع وتابع دراسته. جمعتهما قصة حب تكللت بنعم أبدية قالاها في 15 تشرين الأول من العام 1999، وتعاهدا على الحب والاحترام والتفاهم، فتعاونا على «الحلوي والمرّة». وهكذا أسّسا عائلة مكوّنة من أربعة أولاد.
عندما انتسب إلى المدرسة الحربية، كان حلمه أن يكون ضابطًا طيارًا لكنّ مسار الأحداث في التسعينيات غيّر وجهة اختصاصه إلى المدرّعات فصنّف الأوّل بين رفاقه. التحق بعدها في فوج المغاوير، ووضع نصب عينيه هدفين مقدّسين: العمل والعائلة. فأخلص للمؤسسة التي حمل شعارها لواءً، أمّا المأذونيات فكان معظمهـا مع العائلــة.
ككل زوجات الضباط، عانت ليا صعوبات النهوض بمسؤوليات العائلة في ظل اضطرار زوجها إلى الغياب عن البيت لتلبية واجبه الوطني. خلال معركة الضنيه عاشت أوقاتًا صعبة، كان الإتصال الهاتفي الوسيلة الوحيدة المتاحة للتواصل معه والإطمئنان إليه. عندما تتذكر تلك المرحلة تتساءل كيف مرّت ومع ذلك لم يكن للتذمر من مكان في حياتها لأنها كانت تتفهّم شغف صبحي لرسالته، التي صارت في ما بعد رسالتها.
 
لا تخافي
في يوم من أيام أيار العام 2007، كانت الساعة تشير إلى الخامسة فجرًا عندما رنّ هاتف صبحي العسكري الذي طلب منه الالتحاق بثكنته في مهمة عاجلة. ترك زوجته وأولاده ونفّذ الأمر. في اليوم التالي، اتصلت به زوجته لتستوضح الأمر فأخبرها أنّ إرهابيين اعتدوا على حاجز للجيش في الشمال وقتلوا عناصره، وأقفل الخط. للوهلة الأولى لم تقلق ليا كثيرًا نظرًا الى المهمات الصعبة التي ينفّذها فوج المغاوير في مثل هذه الحالة. بدأ القلق يساورها عندما بدأت شاشات التلفزيون تبث أخبارًا عن خطورة معركة نهر البارد. في البيت كانت معركة «حرق أعصاب»، وكلما سقط شهيد للجيش، كان البيت يغرق في مزيد من الحزن والألم والخوف. كان يقول لها: «أنا صبحي لا تخافي». أصيب في المعركة للمرة الأولى في كتفه ونقل إلى المستشفى للمعالجة. وعلى الرغم من نصيحة الأطباء له بالخلود إلى الراحة لم يرتَح إلا يومًا واحدًا عاد بعده والتحق برفاقه حتى قبل أن يفك القطب. أصيب مرة ثانية وثالثة، وفي كل مرة كان يعود إلى المعركة في اليوم التالي. «كان الوطن يناديه ولم يكن يسمع في داخله إلا صوت هذا الوطن»، تقول زوجته. طوال فترة المعركة السوداء، كما تسميها، لم يأتِ الضابط المغوار لزيارة عائلته إلا نادرًا جدًا. لكنه لم يفوّت عيد ميلاد ابنته الكبرى جويس. اتصل بزوجته ليلة العيد وطلب إليها أن تحضّر ما يلزم للاحتفال، وأعلمها بقدومه في اليوم التالي. تتوقف برهة عن الكلام، تدخل قي صمت عميق وتجهش في البكاء، «كانت المرة الأخيرة التي يأتي فيها زوجي إلى البيت ونحتفل معًا بعيد ابنتنا».
بعد تلك الليلة لم يعد يردّ على مكالماتها فخطه دائمًا مقفل، إلى أن وردها خبر إصابته من جديد ونقله بمروحية عسكرية إلى مستشفى رزق. وقع الخبر عليها كالصاعقة، فهو لم يتصل بها ليطمئنها أن إصابته طفيفة وليست خطيرة، كما كان يفعل في كل مرة. لا تعرف كيف وصلت إلى المستشفى، وعندما دخلت غرفته كان في غيبوبة تامة وقد أصيب إصابات حرجة في جسمه والحروق تغطي يده اليسرى وعينه. لم يكن علاجه سهلًا في لبنان، فنصحهم الأطباء بنقله إلى فرنسا. كانت مستعدة للذهاب إلى آخر الدنيا بحثًا عن بصيص أمل يعيد صبحي لها ولأطفاله الأربعة. حزمت حقائبها وسافرت معه في رحلة العذاب التي استمرت 28 يومًا وهو ممدد على فراش الألم يصارع من أجل الحياة. في إحدى المرات أفــاق من غيبوبتــه، وابتســم لهــا من أعمــاق قلبــه، فعاودهــا الأمــل.
على الرغم من حالته الحرجة، لم تفارق مساحة التفاؤل الأيام الصعبة التي أمضتها في فرنسا، لكن اليوم المشؤوم حلّ. اتصلوا بها باكرًا من المستشفى وطلبوا منها الحضور فورًا، وكانت الكأس المرّة التي شربتها عندما أخبرها الطبيب المعالج أن قلبه توقّف في أثناء نقله من غرفة العمليات بعد خضوعه لعملية جراحية لتنظيف الجروح. سألت الطبيب: «هل توفي صبحــي؟»، فأجابهــا بكــل هــدوء: «نعم ســيدتي».
في يوم 8 أيلول من العام 2007، رحل المقدم المغوار تاركًا وراءه أربعة أطفال: جويس سبع سنوات، جو خمس سنوات، كلوي ثلاث سنوات، وكريستي سبعة اشهر. لم يكن سهلًا على الوالدة إطلاع أطفالها على خبر استشهاد والدهم. لكن بالإيمان والصبر والاتكال على الله، استطاعت أن تتخطى تلك المرحلة العصيبة من حياتها، وهم اليوم يفتخرون بأن اسم والدهم كتب في سجل الخلود.

الجيش والعائلة والمؤسسة
في يوم من الأيام قال لها: «إن رحلت يومًا ما يا ليا، أعرف أنكم ستكونون بأمان لأن الجيش لن يترككم وسيكون عائلتكم الكبيرة». وهكذا كان. لم يترك الجيش عائلة صبحي كما باقي عائلات الشهداء الذين وقف إلى جانبهم عند كل مفصل. أما الشهيد فظلت روحه ترفرف في المؤسسة التي تحمل اسمه تخليدًا لذكراه. فالزوجة انتفضت على جراحها وأكملت مسيرة النضال.
على أثر استشهاد مغوارها البطل المقدم الشهيد صبحي العاقوري، قررت عائلته إنشاء مؤسسة تحمل اسمه تخليدًا لذكراه وخدمة لأبناء شهداء الجيش الذين راحت المؤسسة تحمي خطواتهم وتتنفس معاناتهم وتبلسم جراحهم... فهي تجوب المناطق اللبنانية حاملة الفرح إلى مئات الأولاد، بمناسبة وبغير مناسبة، إلى المشاريع والنشاطات التي تنفّذها مع المجتمع المدني وبدعم من أصحاب الأيادي البيضاء الممدودة دائمًا لاحتضان أولاد العسكريين الشهداء، وبدعم من مؤسسة الجيش بشخص قائدها العماد جان قهوجي الذي آمن بأهدافها السامية فاحتضنها لتنعم بحماه...
 

يمنى مرشاد: شهادته وسام فخر واعتزاز
أحبّته لأنّه كان ضابط مدفعية في الجيش. لم تشكّ يومًا بإخلاصه لوطنه ولجيشه ولقسمه. لكنها لم تدرك يومًا، أنه في لحظة الخيار الحاسمة سوف يختار الوفاء لقسمه لا لزوجته وولديه وأهله وأصدقائه. اليوم، تفتخر يمنى زوجة الرائد الشهيد خالد مرشاد بأنها زوجة ضابط بطل، وإن رحل.
التقت يمنى بالملازم الأول خالد مرشاد في صيف العام 2000 في مدينة عاليه بينما كانت تمضي إجازتها الصيفية في لبنان، إذ كانت تعيش مع أهلها في أفريقيا. منذ صغرها، كانت تحب الجيش وقلبها يرقص للبذة العسكرية، إلى أن وقعت في شباكها، فأغرمت بخالد غرامًا تكلل بالزواج في العام 2001، وأنجبا دانيال وليا. كانت السنوات الست التي عاشاها معًا مليئة بالحب والسعادة والاحترام المتبادل. كان همّه تأسيس عائلة وبناء مستقبل زاهر لها من دون مساعدة أحد، وكانت إلى جانبه في أحلامه، فتابعت دراسة الحقوق في جامعة القديس يوسف في بيروت، من دون أن تهمل أدق تفاصيل حياته العسكرية وأغراضه الخاصة.
تبددت الأحلام بسرعة... فالبلاد غرقت في الأزمات، من موجة الاغتيالات، وصولًا إلى حرب تموز في العام 2006 حيث كثرت تدابير حجز العسكريين وبات غيابهم عن عائلاتهم وضعًا قائمًا معظم الوقت. من جهتها كانت يمنى تخشى وهي حامل أن لا يتمكن زوجها من رؤية ابنته، فكانت تلجأ إلى الصلاة.
عندما استشهد في العام 2007 كان عمر طفلته عشرة أشهر، وكان من المفترض أن يحتفل في اليوم التالي بالعيد الخامس لميلاد ابنه البكر دانيال.
 

مسيرة الشجاعة والبطولة
تميّزت مسيرة الرائد خالد مرشاد العسكرية بالمناقبية والجرأة والإقدام، فكان موضع تقدير رؤسائه واحترامهم في فوج المدفعية الأول. وحين امتدت يد الغدر والإجرام إلى ربوع الوطن، واجه بشجاعة الأبطال كيد الإرهاب وحقده الأسود، وكان ينكر أمام زوجته أمر مشاركته في المعركة إلى أن انكشف أمره. وفي اللحظة الحاسمة قال لها: «أرجوك لا تطلبي مني عدم الذهاب لأن نداء الواجب أكبر، أريد أن أودعكم فإحساسي يقول لي بأني سأموت». كانت كلماته كصاعق كهربائي حوّلها إلى لوح من الثلج. وهكذا كان. بتاريخ 13/6/2007 سقط في ساحة الشرف شهيدًا مرفوع الهامة، عنفوانه يحاكي جبل الباروك وشموخ أرزه.
عانت يمنى قساوة الحياة مع ولدين صغيرين يستفقدان لوالدهما في كل لحظة وفي كل مناسبة. دانيال، بات يكره احتفالات المدرسة لأن والده ليس حاضرًا. فيلجأ إلى جدته ويبكي في أحضانها... أما ليا التي بلغت اليوم الثماني سنوات، فتسأل دائمًا: «لماذا ليس لدي أب كرفاقي؟».
تعتبر يمنى أن ما تعانيه اليوم مع أولادها هو المرحلة الأصعب في حياتها، فقد فقدت السند واضطرّت لتأدية دور مزدوج، وهي تشكر أهلها وأهل زوجها على وقوفهما الدائم إلى جانبها ومساندتها في تربية أولادها.
«لم تعد تحلو لي الحياة بعد استشهاد خالد»، تقولها والدموع تنسكب من عينيها شلالات. تشعر بالغصة تخنقها حين تلتقي زوجات ينعمن بحماية أزواجهنّ، لكنها تستدرك وتقول: «الله يوفق الجميع». كان الزوج والأب، وصار الحبيب الذي تفتخر بشهادته، بشهامته، وبإخلاصه لشعار المؤسسة «شرف، تضحية، وفاء».
 

تخليدًا لذكراه
إحياءً لذكرى الرائد الشهيد خالد مرشاد، أطلقت قيادة الجيش اسمه على المبنى الجديد لمستوصف موقع بيت الدين في احتفال أقيم برعاية قائد الجيش. وفي مبادرة لترسيخ مآثره في الذاكرة الجماعية لأجيال الوطن، أقيم نصب تذكاري للرائد الشهيد في مسقط رأسه نيحا- الشوف في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاده بحضور ممثل عن رئيس الجمهورية وقائد الجيش وفاعليات سياسية واجتماعية.
ترى يمنى مرشاد أن زوجة الشهيد تجني «ثمار البطولة» فخرًا وعزة، لكنها في الوقت نفسه تكون الشهيد الحي في نضالها مع عائلتها، ومهما طال الزمن فهو سيبقى بطلها وبطل أولادها الذين سيكبرون على ذكراه، وبطل لبنان الذي من أجله استشهد.
 

قيادة الجيش بيتنا الثاني
تشكر يمنى قيادة الجيش «على دعمها الدائم لعائلات شهداء الجيش، فهي عائلتنا الثانية والبيت الذي نلجأ إليه عند الضيق. لولاها لما توظفت في جهاز إسكان العسكريين حيث أهتم بملفات شهداء الجيش (ضباط وأفراد) الإسكانية من الناحية القانونية». وإذ تخص بالشكر قائد فوج المدفعية الأول، وقائد فوج المغاوير وكل رفاقه الضباط على محبتهم، تقول ختامًا: «شهادته دفاعًا عن تراب الوطن في ساحة الشرف كانت وسام فخر واعتزاز على صدر عائلته وأهله ومحبيه وأبناء بلدته».
 

راغدة حرفوش: ما زال حاضرًا بيننا
بين دور الأم الحنون التي تخاف على أولادها (جوني وسابين وجويا)، ودور الأب الصارم الذي يستخدم القسوة ليمدّهم بالصلابة والقوة في مواجهة الحياة، تؤدّي راغدة نجم دورها المزدوج. هي زوجة الرائد الشهيد روجيه حرفوش (استشهد في عدوان تموز 2006)، وهي تتابع مع عائلتها مسيرة فيها الكثير من قسوة الحياة بغياب رفيق العمر، ولكن فيها أيضًا الكثير من الأمل والإصرار والإعتزاز.
«ترك غيابه غصّةً ترافقنا في كل المناسبات، من القربانة الأولى لجويا إلى الأعياد، واحتفالات التخرّج... جوني تابع المسيرة وتخرّج من الكلية الحربية ضابطًا يفتخر به والده من عليائه. لقد أصرّ على ذلك على الرغم من ممانعتي في بادئ الأمر خوفًا عليه، فأنا لا أريد أن أخسر إبني الوحيد كما خسرتُ والده!».
تتذكّر راغدة: «أوقات وجوده في المنزل كانت أقلّ من أوقات غيابه عنه بسبب طبيعة الخدمة في المؤسسة، ولكنني كنت راضية متفهّمة، فهو كان الأساس والسند، ومصدر الأمان». وتضيف: «لم أعتد غيابه بعد، وأحاول ألاّ أشعر أولادي بغياب والدهم، بل عوّدتهم على استشارته وكأنه ما يزال حاضرًا بيننا. أنا مازلت أشعر أنه مسافر وسوف نلتقي به يومًا ما».
«غياب الأب صدمة كبيرة، ومهما بلغت الأم من صلابة وقوة، فهي بحاجة إلى الدعم معنويًا وماديًا. وإذا كان تكاتف العائلة مصدر أمان لزوجة الشهيد، فإن احتضان قيادة الجيش لعائلات الشهداء يظل الركيزة الأساسية التي تستند إليها هذه العائلات»، وفق ما تقول السيدة راغدة.
وفي الختام تعلن: «نحن نصلي في جميع المناسبات لراحة نفس شهيدنا وأنفس جميع الشهداء، علّ هذه الصلوات تحمي شبابنا، وعسى أن تكون قافلة الشهداء الأخيرة في عرسال هي خاتمتهم، فلا يخسر ابن والده، ولا أم ابنها، ولا زوجة رفيق عمرها!».

ندى الغراوي: رفضت الحياة... ثم نهضت من أجل ابني
السيّدة ندى سالم زوجة الرائد الشهيد وليد الغراوي (استشهد في 8/5/1990) تستعيد قصّتها المؤثرة، منذ لحظة تعرّفها إلى زوجها البطل الشاب.
«كنّا من دينَين مختلفَين، وعلى الرغم من معارضة الجميع لعلاقتنا، تمسّكنا أكثر بمستقبلنا معًا وواجهنا كل العراقيل حتى استطعنا أخيرًا أن نصبح تحت سقفٍ واحد برضى العائلتَين. أذكر أنني ولدتُ ابننا جميل في الليلة التي توفيَت فيها والدة وليد، وبعد خمسة أشهر استشهد. كان زوجي مهدّدًا وفي خطرٍ دائم، وقد استشهد مع اللواء فرنسوا زين في المدرسة الحربية خلال الحرب التي خاضها الجيش ضدّ الميليشيات المسلّحة.
في البداية رفضتُ الحياة بدونه، حتى أنني رفضتُ إبني، وفقدتُ جزءًا من ذاكرتي. ولكن بعد فترة، وفي حادثةٍ كادت تخسرني ابني، عدتُ إلى وعيي وتذكّرتُ الوعد الذي كنتُ قد قطعته لوليد بأن أبقى متيقّظة وأنتبه لإبننا في غيابه. تلك الحادثة أعادتني إلى الحياة، فنهضت ووقفت من جديد لأرعى إبني بكل ما أوتيت من عاطفة وقوة، فأصبح هو كل حياتي.
 

ذكريات
تستعيد ندى بعض الذكريات... وتقول: في الذكرى الأولى لزواجنا، جاء وليد هاربًا من الخدمة تحت القصف، حاملًا قالب حلوى، ووعدني بأن يعوّض عليّ هذه المناسبة... ولكنه استشهد بعد شهرٍ!
لا بد للحياة أن تستمرّ على الرغم من ألم الخسارة. بعد فترة كانت لندى انطلاقة جديدة في الحياة حيث تزوّجت شقيق زوجها فكان خير حاضن لابنها جميل، الذي منحته الحياة فرصة أخرى ليكون له «بابا» كسائر الأولاد. أنجبت ندى من جديد ونعمت بدفء عائلة فيها أربعة أولاد يتذكّرون «بابا وليد الشهيد».
جميل كبر وأصبح شابًا متعلّمًا، وهو ما زال حتى اليوم، حين يلتقي بأحد معارف والده، يسأله أن يخبره عن بطولاته وشجاعته وشخصيّته. وعلى الرغم من أنه كان طفلًا رضيعًا حين استشهد والده، فهو صورة طبق الأصل عن أبيه الذي ظلّ حاضرًا بيننا دائمًا. تعترف ندى: «أشعر أنّ قلبي أصبح قاسيًا بسبب ما عانيته من قسوة القدر، لكن أمام استشهاد فرد من المؤسسة العسكرية، أشعر بحزنٍ عميق وكأنني أعيش لحظات استشهاد وليد من جديد».
وتضيف قائلةً: «الجيش هو المؤسسة الأثمن في لبنان، وولاؤنا هو لهذه المؤسسة ومعها الصليب الأحمر اللبناني فقط لا غير... هكذا ربّينا أولادنا على رفض أي انحيازٍ لأي حزبٍ أو جهةٍ سياسيّةٍ معيّنة».
في ختام حديثها تدعو السيّدة ندى كل النساء اللواتي خسرنَ أزواجهنَّ إلى «التحلّي بالقوة والقبول بقدرهنَّ»، فزوجة الشهيد عليها «أن تتابع المسيرة من أجل عائلتها ومن أجل زوجها الذي يرعاهم من فوق». وهي تشكر قيادة الجيش «التي لا تزال حتى اليوم تولي أهميّةً لشؤون عائلتنا، وقد كرّمتنا منذ فترة بإقامة نصبٍ تذكاري لوليد».
 

هلا صعب: اليأس ممنوع
السيّدة هلا رئيف شعبان زوجة الرائد الطيار الشهيد باسم صعب (استشهد بتاريخ 20/2/1991)، أمّ لولدَين كان للأكبر بينهما من العمر ثلاث سنوات، أمّا الصغير فكان عمره سنة و8 أشهر، حين استشهد والدهما في مهمّة شاء القدر أن ينفّذها علمًا أنه لم يكن دوره في الطيران حينها!
«كان خبر استشهاد باسم فاجعةً كبيرة في حينها، ولكنني اضطررت إلى البقاء في وعيي الكامل من أجل أولادي، فقد قلت في نفسي، لن أتحالف مع القدر ضدّ أولادي! الصعوبة الأولى التي واجهتها، وقد كنتُ في عمر الـ23، كانت في تأمين منزلٍ يأوي ولدَي فقد كنا نعيش في أحد مساكن الجيش قبل استشهاد زوجي. كانت عمليّةً متعبة جدًا ولكنني في النهاية تمكّنت من تأمين قرض وقد أصبح ملفّي مرجعًا في ما بعد في المصرف المركزي».
كان على هلا أن تتّبع أسلوبًا قاسيًا في تربية أولادها الشباب، وتقول: «كنتُ أنهيهم عن البكاء حين يُذكَر والدهم، وأفهمتهم أنه حاضر معهم في كل زمان ومكان حتى لو لم يروه. صنعتُ أرشيفًا لصور والدهم وأبقيته متاحًا أمامهم يعودون إليه كلّما رغبوا في ذلك... هم شباب ولم يكن بإمكاني أن أتهاون في تربيتهما، أردت أن يكونا صلبين قويّين. كما أنني لم أشعرهم يومًا بأنهم يتامى الأب أو أقلّ من غيرهم بشيء. وقد ساعدني في ذلك أخوتي وأخوة باسم الشباب الذين أحاطوهم وحضنوهم».
السيّدة صعب من هواة المغامرات والرياضات الخطرة، ولكنها لم تكن تمارس أيًا من هواياتها حين كان ولداها صغيرَين، فقد كانت تشعر بأنها ستظلمهما إن أصابها مكروه. أمّا الآن وقد أصبحا ناضجين، فهي تسافر وتمارس كل ما ترغب به من نشاطات رياضية... «يتناسى الإنسان حزنه ويركض وراء الحياة من أجل من يحبّهم»، تقول.
وتتابع قائلةً: «الجيش هو مرجعنا الوحيد، والقيادة لم تتركنا يومًا. شجّعتُ إبني على الإنخراط في صفوف المؤسسة العسكرية ولكنه لم يفلح في ذلك... أمنيتي الوحيدة له هي أن تحضنه المؤسسة وتنظر في وضعه لتبقيه تحت جناحيها».
وفي كلمة لنساء الشهداء، تقول السيّدة هلا وقد ارتسم الحزن في عينيها: «اللي راح راح، ويا ليت الحزن والبكاء يعيدهم إلينا... لا تتحالفنَ مع الزمن والقدر والإرهاب على أولادكم، إبقَينَ قويّات وثابتات من أجلهم، تحلَّين بالصبر والقوة، فاليأس ممنوع!».