العوافي يا وطن

زيتون وعسكر
إعداد: إلهام نصر تابت

وصلنا إلى الضيعة. إنّه آخر أيام تشرين الأول. يوم مشمس تكسر حدة شمسه نسائم الصنوبر الآتية من الحرج المطل على بيتنا.

ما من أحد في المنزل، لكن المفتاح في الباب، ورائحة «اللوبية بزيت» تأتي من الداخل. إذًا لا بد أنّهم بالقرب من البيت في «حقلة» الزيتون. نظرة من على «السطيحة» أثبتت أنّ تخميننا صحيح. جميعهم هناك، الكبار والصغار، إنّه موسم الزيتون، موسم مبارك يتشارك فيه الجميع.

اندفعنا إليهم، كانت تلك المرة الأولى التي تطأ فيها قدماي أرض «الحقلة» منذ 44 سنة. سبقني الدمع إلى الأرض ما أن أصبحت تحت أول شجرة. كانت واحدة من تلك الأشجار المعمرة التي طالما قطفنا ثمارها. إنّها زيتونة أخي ناجي. كان للأشجار أسماء، أعطت أمي لكل منا زيتونة تحمل اسمه. أما الأخيرة التي تفصل بين أرضنا وأرض الجيران فاسمها المصرية، حبوبها شديدة المرارة لكنها سخية بالثمار وبكمية الزيت التي تعطيها.

رافقتني زوجة أخي في جولة، لاحظت أنّ حقلة الزيتون باتت أكبر، فيها الكثير من الأشجار الفتيّة التي زُرعت خلال سنوات ماضية. رحت أعد الأشجار القديمة واحدة، واحدة، أتذكر أيام القطاف حين كنا صغارًا. منذ 44 سنة لم تطأ قدماي هذا التراب، ولم تلمس أصابعي حبة زيتون على شجرة. في هذا التراب دم كثير.

أمي وإخوتي والأقارب تصالحوا مع الماضي. تجاوزوا الخوف. باتوا يأتون إلى أرضهم، ويودعون تعبهم فيها تحية لأرواح من سقطوا في تلك الليلة الرهيبة.

مضى النهار بسرعة، كانت الغلال مباركة وفيرة، وكانت أصوات العسكريين في الثكنة الملاصقة لأرضنا ترافقنا طوال النهار. تلك الأصوات تولت معالجة الخوف المقيم في أعماقي وفي ضيعتي منذ تركناها في واحدة من ليالي تشرين الأول 1976. تركناها مذبوحين وخلفنا عشرات القتلى الأبرياء.

أصوات العسكريين وأصوات آلياتهم وضعت حدًا بين الماضي والحاضر. اليوم ليس كما الأمس. إنّهم هنا بقربنا فعل أمان وضمانة.

كان من المفترض أن نعود إلى بيروت مع غياب الشمس، لكننا لبّينا الدعوة للمبيت في الضيعة بكل طيبة خاطر. كانت تلك أول ليلة أمضيها في بيت طفولتي، وأنام ملء جفوني. في الصباح استعدت مشهد الشمس تشرق من بين أقدام الصنوبرات العتيقة في الحرج القريب. شعرت أنني تصالحت مع الوجع القديم، ومع الخوف العميق، واستعدت ذكريات جميلة كانت ترقد تحت الكابوس الرهيب.

نعم، أصوات العسكر وحبات الزيتون أعادا تركيب الصورة. وضعا الحد بين أمس موجع وحاضر فيه من الأمان ما يسمح لأهلي بأن يغادروا البيت ويبقون بابه مفتوحًا...

 

العوافي يا جيشنا.

العوافي يا وطن.