إقتصاد ومال

ساحل العاج نموذجًا لكفاح اللبنانيين ولمعاناتهم
إعداد: تريز منصور

الأوضاع استتبّت لكن الأسئلة المقلقة ما زالت مشرّعة

 

نجح اللبنانيون أينما حلوّا في العالم، في إثبات قدراتهم المهنية والثقافية والإبداعية وحتى السياسية، وتمكّنت الجاليات اللبنانية في عدة دول من تشكيل جزء هام من اقتصاديات الدول المضيفة، كما في الإمارات والبحرين وليبيا وساحل العاج والبرازيل... تحويلات المغتربين المالية إلى ذويهم إضافة إلى استثماراتهم في لبنان، ساهمت إلى حدٍ بعيد في دعم الاقتصاد اللبناني. لكن النموذج السياسي ــ الاقتصادي، الذي يشجّع على الهجرة من أجل تأمين تحويلات مالية كبيرة تعفي السلطة من العمل على تطوير الاقتصاد الحقيقي وتنويعه، هو نموذج خطر، فضلاً عن كونه لا ينطوي على أية حماية للمهاجرين، حين يتعرضون لظروف صعبة في البلدان التي هاجروا إليها.
معاناة اللبنانيين الأخيرة في ساحل العاج ليست حدثًا فريدًا في مسيرة هؤلاء الاغترابية. فقد سبقها الكثير من المحطات والأزمات المشابهة، في ساحل العاج نفسها وفي بلدان أخرى من القارة التي تنام على انقلاب، لتصحو على آخر.
الأزمة انحسرت بعد أن سيطرت قوات الرئيس الحسن واتارا على الأوضاع في ساحل العاج. لكن الأسئلة المقلقة ما تزال مشرّعة.

 

حجم الجالية اللبنانية في ساحل العاج
يتجاوز عدد اللبنانيين في ساحل العاج الـ75 ألف نسمة، ليصل ربما إلى 90 ألفًا. 85 في المئة تقريباً منهم يقيمون في العاصمة أبيدجان، ويتوزع الباقون في 19 محافظة، تتكون منها البلاد. على أي حال فإن الجالية اللبنانية هي أكبر جالية عربية في ساحل العاج، التي يسيطر اللبنانيون على أكثر من 50 في المئة من اقتصادها ونشاطها التجاري والصناعي والخدماتي العام.
ويعمل اللبنانيون الذين بدأت هجرتهم إلى ساحل العاج قبل 100 سنة تقريباً في مختلف الحقول، وتأتي التجارة في طليعتها، ولديهم آلاف المصالح كالمصانع والمستشفيات والعيادات الطبية والفنادق والمطاعم. خلال الأزمة الأخيرة تعرضت مصالح اللبنانيين وممتلكاتهم لعمليات نهب وسلب منظمة وضخمة، لم تحدد حتى الآن الخسائر الناجمة عنها.
قبيل استفحال الأزمة في ساحل العاج غادرها نحو 2000 لبناني، متوجهين إلى لبنان، وفي شهر آذار الماضي، غادر 4 آلاف لبناني أيضاً، بعدما بلغت العمليات العسكرية والاعتداءات عليهم ذروتها. بينما لم يتح لكثيرين مجال المغادرة بسبب تفاقم الأوضاع، وفضل عدد كبير معايشة الخطر على التخلي عن جنى العمر.  

 

هل يؤثر انخفاض تحويلات المغتربين على الاقتصاد؟
لقد شكلت  التحويلات المالية التي يرسلها الشباب المغترب إلى أهله في لبنان رافعة للاقتصاد الوطني، وهذه التحويلات وصلت في نهاية العام 2010 إلى 8 مليارات و200 مليون دولار. وقد أثارت أحداث ساحل العاج الكثير من الأسئلة، وموجة قلق حول مستقبل اللبنانيين هناك، وبالتالي حول التأثيرات المحتملة على الاقتصاد اللبناني، خصوصًا أن التوترات شملت بلدانًا أخرى تستضيف أعدادًا لا يستهان بها من اللبنانيين.    
 وفي هذا الإطار أشارت دراسة أعدّتها البروفسورة تسوغيك كاسباريان، رئيسة المرصد الجامعي للواقع الاجتماعي والاقتصادي في جامعة القدّيس يوسف، إلى أن عودة المهاجرين والمغتربين طبيعية في ظل اندلاع الثورات في عدد من الدول، إلا أنه لا يمكن معرفة إن كانت القرارات الجماعية في العودة إلى لبنان هي نهائية أم ظرفية، وخصوصاً أن اللبنانيين يعملون على تأسيس مشاريع واسعة في الخارج، ويستثمرون بمليارات الدولارات في الدول التي تدور فيها النزاعات.
إن انعكاسات الاضطرابات الحاصلة في عدد من البلدان التي يوجد فيها لبنانيون ليست حادة على الاقتصاد اللبناني، بحسب ما يقول رئيس الجمعية اللبنانية الاقتصادية جاد شعبان الذي لفت إلى أن عودة اللبنانيين من هذه الدول ليست شاملة، وخصوصاً أن المغترب اللبناني تعوّد النزاعات والحروب، وبالتالي لن يترك أعماله في الخارج بسهولة. ويشرح شعبان أن الأزمة المالية العالمية الضخمة التي أصابت دول الخليج لم تنعكس عودة سريعة للبنانيين، وإنما لوحظ أن معظمهم بقي في هذه البلدان وأجرى تغييرات في الموقع الوظيفي، أو انتقل إلى دولة خليجية أخرى.
ويرى شعبان أن المشكلة الأساسية هي غياب الأرقام الإحصائية حول عدد المغتربين وتوزعهم في الخارج، لكن الأكيد أن النسبة الأكبر من الشباب الموجودين حالياً في لبنان يطمحون إلى الهجرة. ويشدد شعبان على أن توافر الأرقام عن اللبنانيين المهاجرين وسبب هجرتهم يساعد في معالجة سريعة لأوضاعهم حين يقعون في مأزق ما في دول الاغتراب، ويلفت إلى أن غالبية المهاجرين موجودة في الخليج وأميركا وكندا وجزء قليل في أفريقيا، بحيث تصل نسبة هؤلاء الى أقل من 10 في المئة، وعلى الرغم من صعوبة الحصول على أرقام تحدد حجم تحويلات المغتربين في دول النزاع، يلفت شعبان الى أن قيمة التحويلات الإجمالية تصل إلى ما بين 20 و25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا رقم ضخم نسبة الى حجم الاقتصاد اللبناني.
ويشرح شعبان أن تقدير حجم التحويلات لا يتم عبر القنوات المعتمدة لاستخراج الأرقام فحسب، إذ إن هناك تحويلات غير مصرّح عنها تدخل إلى لبنان ولا تحتسب، وبالتالي لا يمكن تحديد حجم المشكلة التي سيقع فيها الاقتصاد. إلا أن الأكيد أن المناطق الجنوبية في لبنان ستتأثر بأزمة أبيدجان، إذ إن تحويلات المغتربين هناك تستخدم في تأمين روافد مالية للعائلات الجنوبية، كما تساعد في عمليات البناء وتحسين الوضع المعيشي، مشيراً الى أن المشكلة ستكون مضاعفة إن كانت الأموال المستثمرة عبارة عن ممتلكات غير مسيّلة، بحيث إن الخسائر ستكون ضخمة على المغادرين إلى لبنان.
ويقول الخبير الاقتصادي الدكتور لويس حبيقة في هذا المجال، إن الأحداث الجارية في الدول العربية وأفريقيا تؤثر كثيرًا على  تحويلات المغتربين إلى لبنان. هناك أشخاص خسروا أعمالهم ومنازلهم، في أبيدجان وليبيا والبحرين، هؤلاء سوف تخفّ تحويلاتهم إلى لبنان، وقد يسحبون أموالا أرسلوها في السابق، ومن خسر عمله هناك، قد يبقى اكثر من عامين كي يعيد تحويل الأموال، أما من يعودون فسوف يشكلون مشكلة لاقتصاد البلد، لأن أوضاعه متعثرة ونزوحهم، وإن بأعداد  قليلة، سوف يسبّب مشكلة، فسوق العمل اللبناني ضيق جدًا، وبالتالي سوف ترتفع نسبة البطالة. ويشير حبيقة إلى أن من يملك أموالاً لدى عودته لا خوف عليه، يستطيع ان يفتح مصلحة، ولكن عادة يعود غير الميسورين، من الموظفين الذين لا أملاك لديهم.
ويضيف حبيقة: يقارب حجم تحويلات المغتربين الـ 8 مليارات دولار في السنة، وكانت تساهم في زيادة الودائع في المصارف، وفي شراء عقارات واسهم وسندات، واستثمارات... وهذا الرقم سوف ينخفض بالطبع، ولكن مع تحسن الأوضاع في ساحل العاج، سوف تعود كل هذه التحويلات.

 

حجم خسائر اللبنانيين في ساحل العاج
لم تنجز عملية مسح خسائر اللبنانيين في ساحل العاج، باستثناء ما تعكف عليه غرفة التجارة والصناعة اللبنانية هناك، والتي تأسست منذ سنة تقريباً، لكي تكون إطاراً جامعاً للهيئات الاقتصادية اللبنانية في أبيدجان. ولقد طلب من المؤسسات والمحال والمصانع تزويد الغرفة بلوائح تتضمن خسائرها جملة وتفصيلاً.
النيّة في المساعدة موجودة، هذا ما وعدت به الحكومة العاجية الجديدة. لكن  الأمر قد يكون صعبًا، ولا أحد يمكنه الاضطلاع بمهمة جسيمة كهذه، لا الأمم المتحدة ولا حكومة ساحل العاج، ولا الدولة اللبنانية.
لقد كانت الشركات والمصالح اللبنانية، أكثر عرضةً للسرقة والسلب والتخريب، وقدّرت أوساط الجالية الخسائر بمئات ملايين الدولارات. وهي تتركز في الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تمثّل نحو سبعين في المئة من مجموع المؤسسات اللبنانية. كما لحقت بالقطاع الصناعي اللبناني خسائر تشغيلية كبيرة بسبب التوقف عن الإنتاج لأسابيع طويلة. ولقد تضاربت المعلومات حول حجم خسائر القطاع الصناعي بين وزارة المغتربين التي تقدرها بـ 2 أو 3 في المئة،  وبين غرفة التجارة والصناعة اللبنانية في أبيدجان التي قدّرت الخسائر التشغيلية بنسبة تجاوزت الـ60 إلى 70 في المئة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتحوّل فيها لبنـانيّو ساحل العاج إلى ضحايا للعـصابات والمرتزقة، إذ تعوّدوا عند كل تغـيـير في السلطة أن تستـشري الفوضى وينعـدم الأمن، وكأنه قدر اللبنانيين أن يدفعوا عند كل مفصل، ثمنًا باهظًا وفي الكثير من الأحيان لا تكون الأيادي اليهودية بريئة «من دم هذا الصديق».