بلى فلسفة

ساعة عمتـي
إعداد: العقيد أسعد مخول

بقي العالم حتى النصف الثّاني من القرن التاسع عشر خاضعاً في ضبط توقيته الزّمني لنظام شمسي غير موحّد، وكان ذلك يختلف بين منطقة وأخرى وفقاً للموقع الجغرافي لكلّ منهما، ووفقاً لانحناء المحور الذي تدور عليه الأرض، وللسرعة غير الثّابتة لهذه الأخيرة في حركتها حول الشّمس.

 ويحكى أنه كانت في فرنسا، حتى أواسط القرن العشرين، آلات بثلاثة عقارب: واحد للساعات، وثان للدقائق حسب توقيت باريس، وثالث للدقائق حسب التوقيت المحلي لكل مدينة أو قرية أو مكان. وكان من مظاهر الصراع التاريخي بين فرنسا تلك، وبين بلاد الإنكليز، صعوبة كبيرة في إقرار توقيت موحّد لكامل أوروبا، فهناك نظام باريس وهناك نظام غرينتش الذي تحدّده ساعة "بيغ بن" العملاقة المشهورة. خلال ذلك كان الصناعيون يزدادون دقّة وأناقة في ابتكار الساعات، حيناً للمعصم وأحياناً للجيب، ومرة للجدار ومرّات للساحات العامة فوق التماثيل الجميلة المنصوبة.

وكان العلماء، ولا يزالون، في صراع مع الكواكب، من القمر الى الشّمس الى المرّيخ... ويخشى الشعراء والفنّانون أن يتمكّن هؤلاء من الوصول الى الزهرة نفسها والإساءة إليها في يوم من الأيام ­ وهي الكوكب الأبعد والأنور والأجمل ­ فيحيدون بها عن دوائر الخيال، ويحوّلونها الى صخور وأتربة ساكنة هامدة لا نور فيها ولا ظلال، ولا مظهر من مظاهر الشاعرية والعشق والوجدان.

وقد ربط النّاس السّاعات على معاصمهم بالمعدن والجلد والقماش، كما صارت لهم ساعات ذوات أجراس ومنبّهات تدفعهم الى اليقظة من نوم اللّيالي، يعاتبونها ويلومونها إن قصّرت في الواجب أو استرسلت في الرقاد مثلهم، ف"يغيظونها" باقتناء ساعات بديلة أشدّ حرصاً وأكثر حداثة وأمتن معدناً وأحسن صنعة، طيّبة الأصل والفصل، مرتفعة المهر، شهيرة الاسم، مليحة العنوان. كما كانوا يتبادلونها في الأعياد هدايا وتذكارات وفي الظنّ أنها تحيي ذكرى الغائب في أذهان أهله، وتحفظ وَلَهَ العاشق في فكر محبوبته كنبض الفؤاد ودفق الدم في الشريان.

في ذلك كلّه لم يكن بمقدوري أن انتقل بعمّة لي في الرّيف الجميل الى عالم الحضارة هذا، فبقيت وفيّة مخلصة للشمس، ولولا صَلاتها وتقواها لحسبتها وثنية من الزمن الغابر، لم يعرف التوحيد إليها سبيلاً.

كانت عمتي تنتظر تكسّر الأشعة السماوية على حجارة بيتها لكي تحسب الوقت وتعدّه على أساسها، قارئة الأرقام الوهمية في ساعتها تلك المخلوقة من "الحجر الخالص" مستغنية كامل الاستغناء عن ساعاتنا التي كنا ندّعي أنّها من "الذّهب الخالص"، تتحدى التحطّم، وتنجو من الماء، ولا تخطئ في حساب الزمن.

وكنا حين نسأل عمتنا عن الوقت أسرعت إلى مدخل بيتها ونظرت الحجارة التي تعلو عتبة بابها وأطلقت رقماً صعباً: نحن الآن في ما قبل الظهر، أو نحن في ما بعد الظهر... وهكذا...

ولم تكن العمّة لتقتنع بأيّ شكل من الأشكال بمسايرة النّظام العالمي في الانتقال إلى ما يعرف بالتّوقيت الصيفي في مطلع الرّبيع من كل عام، لأنّ ساعتها الحجرية تلك لم تكن لتقفز من حجر إلى حجر دفعة واحدة، بل كانت تتهادى ثانية بثانية ودقيقة بدقيقة, حتى نهاية الصيف حين كنا نعود ونجد عمّتنا راضية مطمئنّة في هدوء من أمرها داخل السرب الذي حدنا عنه وقفزنا فوق نظامه، فتساورنا الحيرة: هل تحسب عمّتنا خارج السرب مع أنّها بقيت فيه وحافظت على نظامه رافضة التعديل والتلاعب والتحوير؟

وكان يروى، من باب الطرفة، أنّه عند الساعة الثانية من صباح 15 حزيران 1916، تاريخ اعتماد ذاك التوقيت المزوّر، أن ذهبت سيدة فرنسية من صديقات العصافير الى حديقة لوكسمبورغ في باريس لتقديم فتات الخبز لطيورها، فوجدتها حاضرة جاهزة منتظرة رغم أنّه كان من المفروض أن تكون في وكناتها وأن تتخلف ساعة كاملة عن الحضور قياساً على التوقيت القديم، فأصابتها الدهشة وتساءلت: كيف عرفت العصافير التّوقيت الجديد يا ترى؟

أمّا سبب حصول التعديل فهو سعي أصحاب الأرقام للتقتير في استعمال الطّاقة (المستخدمة في الإنارة على وجه الخصوص) ، ومن أجل توفير القرش وخدمة الاقتصاد، وبحجة اعطاء العمّال مزيداً من الوقت لـ"التمتّع بنور الشمس" بعد نهار من التّعب، فاعتمدوا هذا التوقيت في فصلي الربيع والصيف. وكان هذا المبدأ ولا يزال صارماً ظالماً مشوّهاً لحركة الزّمن، إذ كيف يقفز التوقيت ستّين دقيقة دفعة واحدة؟ وكيف يكون لنا أن نرضى بتغيير موعدنا اليومي مع الشمس، عروس الصباح الأزلية، ساعة كاملة، مع أن من عادة الأحباب عدم التسامح في ما يصيب المواعيد من خلل؟

 

وقد كان لي حوار مع عمّتي حول نظامها الشّمسي الخصوصي، أذكر منه الآتي:

-­ كيف تحدّدين الوقت عندما تحجب الغيوم نور الشّمس؟ ­

- قالت: عندها لا أعود حاسبة للوقت حساباً، وتختلط عليّ الأمور، وتفاجئني الأحداث، فأضيع.

­- وأياً من الأوقات تحددها لك هذه الطريقة البدائية يا عمّتاه؟

- ساعات النّهار، ساعات النّهار... أما الصّباح فلا يحتاج الى دليل، والمساء هو الآخر تعرفه الكائنات جميعاً فيناديها النّوم الجميل، ويجتهد السكون في غمر الوجود.

-­ إن كان هذا حسابك للساعات، فكيف تحسبين الأيام والشّهور؟

- عندي في الأيام: اليوم والأمس وما قبل الأمس، وعندي الغد وما بعد الغد. أما في الشّهور فعندي: كوانين وشباط للمطر، وعندي نوّار للربيع، وعندي شهر الحصاد وتموز للصّيف، وأيلول وتشارين لمواسم العنب والتّين.

-­ لم تذكري نيساناً، فكأنك لم تقعي ضحيّة لواحدة من "كذباته البيضاء" في وقت من الأوقات؟

- تكفيني "الكذبات السوداء" في كامل الأوقات.

 ­- هل تعملين في النّهار وفي اللّيل؟

 -­ ما دمت عاملة في النّهار، فلا داعي لأن أعمل في ما عداه.

 -­ متى ولدتِ؟

 -­ ولدتُ وجارتنا ميّاسة في شهر الحصاد.

 -­ وكم السّاعة الآن؟

 ­- عنـدي الغـروب على البـاب، أما ساعـتك أنـت فلا علم عنـدي حولها.

 ... وأزفت ساعة عمّتي، وبكيناها، ولم تكن بعد قد لفّت معصمها بساعة أَرثها بعد رحيلها. وكان الإرث أكبر من ذلك وأبقى... كان السعي الدّائم الى الحرية، وكان أيضاً الجدار الحجري الذي لا تغيب عنه الشمس... ولا القمر!