رحلة في الإنسان

ساعتنا البيولوجية ومؤثرات العصر
إعداد: غريس فرح

حياتنا كبشر محكومة بالتوقيت. فنحن والزمن توأمان، تربطنا به إيقاعات تنبثق من داخلنا، لتسّير حياتنا، وتتحكّم بساعات نومنا ويقظتنا، وبصحتنا الجسّدية والنفسيّة. إنها ساعتنا البيولوجية التي تعيش اليوم خطر الاختلال.
ما هو هذا الخطر، وكيف يتحكّم بعقارب هذه الساعة؟


التوقيت يختصر كل شيء
من المعروف أن الكائنات الحيّة، وعلى رأسها الإنسان، تعيش متناغمة مع دورة الأرض اليومية. ما يعني أنها تستمدّ مقدرتها على التطور والبقاء، من معطيات توارد اللّيل والنهار المتولدة من هذه الدورة.
هذا التناغم بين الأرض ومطلق كائن حيّ، يحصل عبر ذبذبات تلاحق أطياف العتمة والضوء، وتعرف باسم إيقاعات السّاعة البيولوجية. وهي إيقاعات نمطيّة تؤمّن للحيوان النوم والثبات والتناسل، وتجدّد حياة النباتات عن طريق إخضاعها لدورات التلقيح القسريّة، وتبرمج حياة الإنسان عبر مراحل المدّ والجزر الفيزيولوجية. وهذا يجعلنا نعرف سبب تغيّر حرارة الجسم بين الليل والنهار، وانخفاض ضغط الدّم خلال الليل وارتفاعه في الصبّاح، ولماذا نشعر بالانزعاج من جرّاء تناول وجبة متأخرة في المساء، إلى ما هنالك من ظواهر ترافق حياتنا اليوميّة.
ما تقدّم يعني أن هذه الكائنات تخضع لسلوكيات يوميّة تعرف بالتواتر اليومي اللاّواعي. منها مثلاً أنّ بعض الحيوانات ينشط في النهار وينام في الليل، وبعضها ينام في النهار ويصطاد في اللّيل. وتظهر هذه السلوكيات أيضًا لدى النبات عبر عمليّة التبادل الضوئي. إلى ذلك، توجد أنماط سلوكية سنوية مثل هجرة الطيور في الخريف، أو وجود أوقات محددة من السنة للولادة لدى بعض الحيوانات. إلى ما هنالك من سلوكيات تتحكّم بها الساعة البيولوجية المشار إليها.

 

كيف يحصل ذلك؟
من أجل إرساء التوازن بين حاجات الجسم والمتغيرات الخارجية، تعمل السّاعة البيولوجية بطريقة نظامية وفق تغيرات الضوء. وهذا يحصل بواسطة نواة دماغية تعرف باسم النواة الما فوق تصالبيّة، وتعتبر ساعة الدماغ الرئيسة.
تقع هذه النواة في عمق ما بعد المهاد Hypothalamus، وتراقب باستمرار تفاوت مستوى العتمة والضوء، وتحضّر وظائف الجسم من أجل العمل وفق متطلباتهما. فضوء الصباح الساطع مثلاً يهيّؤها لاستقبال النهار، بينما تؤهلها العتمة للنوم. وهذا يحصل عندما تفرز الغدّة الصنوبريّة في الدماغ هرمون الميلاتونين. وهو هرمون يثير النعاس، ويؤمن الهدوء والراحة. في هذه الأثناء تتمدّد عضلات المثانة من أجل استيعاب المزيد من السوائل، مفسحة بذلك المجال أمام نوم عميق لا تقطعه الحاجة إلى النهوض. إلى ذلك، يفرز الكبد المزيد من الغلوكوز من أجل إنعاش الدماغ خلال النوم.
وهنا يطرح السؤال التالي: ماذا يحصل في حال واجهت الساعة البيولوجية ضوءًا ساطعًا في أثناء اللّيل؟
إنها تتأهب وتبعث رسالة إلى أعضاء الجسم مفادها الاستعداد لاستقبال النهار. وهذا يحصل في وقت تكون فيه هذه الأعضاء قد تحضّرت للنوم، الأمر الذي يحدث تشويشًا في الإيقاع النمطي المشار إليه، ويتسبّب بمخاطر صحيّة جسيمة.

 

ما الذي يحصل اليوم؟
إذا ما أخذنا بالاعتبار أن أجسامنا مبرمجة منذ الخلق من خلال علاقة مع دورة الأرض، نجد أن حياة الإنسان المعاصر، قد قلبت هذا المفهوم رأسًا على عقب. فالإنسان اليوم لم يعد يفرّق ما بين الليل والنهار، ولا يعير مطلق أهمية للتوقيت، فاللّهو والعمل يستمران حتى ساعات متأخرة من الليل. يضاف إلى ذلك، التعاطي مع الشاشات الإلكترونية بجميع أنواعها (حواسيب وهواتف محمولة) في المساء وقبل النوم، ما يعرّضنا لمعدّلات عالية من الأضواء الزرقاء الشبيهة بضوء الصباح. وهذه العادة هي من أكثر الممارسات العصرية خطرًا على أداء وظائف الجسم، وتعريضه للأمراض.

 

ما هي هذه الأمراض وكيف تحدث؟
لم يعط العلم أهميّة وافية للسّاعة البيولوجية قبل بداية السبعينيات، ولكن منذ ذلك الحين، دأب الباحثون على دراسة خصائصها وعواقب اختلالها. وحسب اختصاصية علم الأعصاب في جامعة كولورادو الأميركية، لورا فونكين، فإنّ أحدًا لم يكن يتصوّر ما لمخالفة قوانين الطبيعة من أضرار. وهذه الأضرار، على حد تعبيرها، تفوق تلك الناجمة عن تعاطي المخدرات. والأهم كما سبق وأشرنا، أنّ الأنظار تتجه اليوم إلى تداعيات التعرض العشوائي للضوء الأزرق، إلى جانب تناول الطعام في أوقات متأخرة من الليل، وكلاهما يتعارض مع أداء الجينات الوراثية المسيّرة لهذه الساعة، ويسهم إلى حدٍ كبير بانتشار ما يعرف اليوم بأمراض العصر. في طليعة هذه الأمراض، السرطان وأمراض القلب والشرايين والسكري والسمنة. ولا ينسى الباحثون مشكلة نقص الخصوبة التي يعانيها كثيرون من الإناث والذكور.

 

دور الجينات الوراثية
بحسب الباحث راسل فوستر، أستاذ العلوم البيولوجية في جامعة أوكسفورد، فإن السّاعة البيولوجية تعتبر متأصلة في جيناتنا. ما يعني أنها موجودة في كل خليّة من خلايا أجسامنا. وهذه الخلايا هي التي تسهم، بالتواصل مع السّاعة الرئيسة في الدماغ، في تنظيم وظائفنا الحيويّة على مدى الأربع والعشرين ساعة، عبر إفراز بروتينات تقوم بالمهمّة. لذا، فإن التعّمق في دراسة الجينات الوراثية للسّاعة البيولوجية، ربما يمكّن لاحقًا من علاج الكثير من الأمراض الناجمة عن اختلالها.
وبحسب الدراسة الأخيرة التي أجريت في جامعة كولورادو ونشرتها مجلّة العلوم الأميركية، فإنّ الدماغ لا يعتبر العضو الوحيد الحامل جينات السّاعة البيولوجية. والدليل، اكتشاف هذه الجينات في جميع أعضاء الجسم، حيث تعمل بالتنسيق مع الساعة الرئيسة، على تأمين توازنه بحسب متطلبات الطبيعة.
في هذا السياق، لا ينسى الباحثون خطر اختلال السّاعة البيولوجية على الذاكرة والسلوك والوعي. ومن هنا الدعوة إلى اتّخاذ تدابير وقائية خاصة بالعاملين في الدوام اللّيلي، وخصوصًا ما بين الثانية والرابعة صباحًا، أي في الفترة التي يحتاج خلالها الجسم إلى أقصى درجات الراحة والهدوء.
هذه وسواها من المعطيات التي تفرزها نتائج الدراسات الحديثة، تكشف لنا حقيقة مثيرة للاهتمام. ومفاد هذه الحقيقة، أن تشوّش إيقاع السّاعة البيولوجية لا يعتبر المسؤول الوحيد عن أمراض العصر، إلاّ أنه جدير كما يبدو، بتصدّر قائمة مسبّباتها، وهذا يضع الإنسان أمام خيار لا بد منه.
فهو على الرغم من تحدّيه المستمر لقوانين الطبيعة، يبقى عاجزًا عن مواجهة واقع أكبر بكثير من مكابرته وطموحاته. إنّه واقع مليارات السنين من التطوّر ضمن دورة هذا الكوكب.