دراسات وأبحاث

سباق التسلّح الدولي بين هواجس الأمن والطموح السياسي والمصالح الاقتصادية
إعداد: العميد المتقاعد الدكتور أحمد علو

«حين تشعر الدول بنسبة أقل وأقل من الأمان، فإنها تضاعف جهودها اكثر وأكثر لتكديس الأسلحة في ترساناتها الى الحد الذي يكفي لإخافة العدو وردعه، ولكن تراكم القدرات العسكرية الكبيرة يزيد فقط من الشعور بعدم الأمن، وهذا ما يؤدي الى سباق تسلح عنيف وبدون نهاية».
«جوزف كاميللري» في كتابه «أزمة الحضارة»

 

تسعى الدول، في كل الأزمان، لتعزيز أمنها، وحماية نفسها ككيان سياسي وسيادي بين غيرها من الدول، والعامل الاعتباري والمهم بالنسبة اليها، هو بأي وسائل يمكن تحقيق هذا الهدف؟ إن الزمن، الذي كانت فيه الدول تؤمن أمنها ببناء قواها العسكرية فقط، قد مضى، ذلك أن الإمكانات المتوافرة في التسلح العصري، لم تترك لأي دولة الأمل بالاعتماد على العامل العسكري وحده، لأن سباق التسلح وأسلحة الدمار الشامل لم تترك لأي منها المجال لأن تربحها، ولأن أي حرب نووية تندلع، ستضع الحضارة البشرية تحت الخطر المباشر،  ولن يكون فيها رابح، ذلك أن المخزون الهائل من الأسلحة الفتاكة يمكنه تدمير كل شيء على الأرض. لذلك صار واضحاً أن أمن الدول يمكن أن يتحقق من خلال الوسائل السياسية، اكثر منه عبر الوسائل العسكرية، خصوصاً أسلحة الدمار الشامل (النووية والكيماوية والجرثومية والاشعاعية وغيرها). فامتلاك هذه الأسلحة (وإن كانت اصطلاحاً عسكرياً يعني القوة والأمن لمن يمتلكها)، يعني أيضاً صعوبة القدرة على استخدامها، لما لتأثير ذلك من خطر على مستعملها أولاً، وهكذا فإن هذا الاصطلاح إتخذ بعده العسكري، في استخدامه سلاحاً سياسياً للتأثير في العلاقات الدولية، وفرض الأمن الجماعي، ورسم السياسات العالمية والاستراتيجيات المختلفة.
يشغل موضوع أسلحة الدمار الشامل اليوم حيزاً مهماً في التداول السياسي بين الدول، ويعتبر محركاً للتوجه السياسي والعسكري خصوصاً للولايات المتحدة الاميركية باعتبارها «زعيمة العالم اليوم».

 

سباق التسلح النووي  (Nuclear Arms Race)

كانت الولايات المتحدة الاميركية الدولة الاولى في العالم التي افتتحت العصر النووي، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حين قامت بأول تفجير نووي في صحراء «نيومكسيكو» في 16 تموز 1945، وأتبعت ذلك بإلقاء قنبلتين ذريتين على اليابان، في 6 آب و9 آب من العام نفسه، نتج عن فظاعة تدميرهما استسلام اليابان، وعن ترجيع صداها دوي هزّ دول العالم في سياساتها واستراتيجياتها، وهذا ما دفع الدول الكبرى الى خوض سباق هائل للحصول على السلاح النووي.
وعلى خلفية الصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب وتصاعده، تصاعدت وتيرة هذا السباق في فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وحلفائها، والاتحاد السوفياتي السابق وحلفائه. لقد حولت الأسلحة النووية صراع الشرق والغرب الى صراع يمسّ كل فرد في العالم المعاصر، وعاشت البشرية مأزقاً وجودياً، لأنها ستكون اولى ضحايا أي حرب تندلع، كما أدى سباق التسلح النووي الى أزمة مستمرة في حياة دول الشرق والغرب، فالدول النووية وقعت أسيرة منطق هذا السباق الذي طوّر قوانينه الخاصة، بمعزل عن ارادة الدول نفسها، والتي أضحت تدور في حلقة مفرغة، فكلما تم تطوير أسلحة جديدة وتضاعف عددها وحجمها، إزداد شعور الدول النووية بعدم الأمان، وهذا الشعور المتزايد بالاحساس بالخطر كان بدوره ينمي سباق التسلح، ويزيد من حاجة الدول الى طلب المزيد من الأسلحة النووية الجديدة، وهكذا تحول سباق التسلح الى عنوان للعلاقات الدولية، ومؤشر لنمط سلوك الدول، وتعاملها في ما بينها. وأصبح التسلح قراراً للتأكيد على حاجة، وتلبية لوظيفة، أو إستجابة لتحدٍ، ولم يعد اصطلاحاً عسكرياً يعني تكديساً لطائرات ومدافع ودبابات وأسلحة دمار شامل فحسب، بل تحول الى سياسة واستراتيجيا وصار يحمل مضامين أمنية، ونمطاً للعلاقات، تسعى الدول وخصوصاً الكبرى منها لفرض سلطتها وهيبتها من خلال تحقيق سبق فيه مهما كلف الثمن.
وفي هذا الجو الواقع على حافة التفجر، واندلاع الحرب، قدمت الدول، الكثير من امكاناتها، وبددت الكثير من ثرواتها القومية في سبيل التسلح، وانخرطت في سباق محموم للتسلح سعياً وراء «هدف سام» هو تحقيق أمنها.
وبذلك تحول سباق التسلح الى وحش يلتهم ما يجده أمامه من وفورات وإنجازات اقتصادية، وتقدم صناعي، وعلى حساب تنمية مجتمعات هذه الدول ورخاء شعوبها. كما أدت حمى هذا السباق، والتنافس على تطوير الأسلحة الى إنعكاس في البنية الفكرية والعسكرية للدول نتج منها:
أ - تطور الاستراتجيات العسكرية للدول.
ب - تأثر السياسات العامة للدول بالسياسات العسكرية.
ج - تأثر السياسات الخارجية والعلاقات الدولية بهذا التطور وانعكاس ذلك على التزام الأعراف والقوانين الدولية.
د - تطور العقائد العسكرية للدول والكتل الدولية، لتتماشى مع كل تطور تقني.
لقد دفع التنافس النووي ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، ورغبة كل منهما في إحراز قصب السباق، والتفوق في امتلاك النوع والكم الأفضل في مجال التسلح، دولاً أخرى الى امتلاك أسلحة نووية، وذلك خوفاً من تهديد كل من هاتين الدولتين غيرهما من الدول، ويرى روبرت مكنمارا (وزير دفاع أسبق للولايات المتحدة خلال ستينيات القرن الماضي) «ان تاريخ البرامج النووية في دول مثل الصين، والهند، وباكستان، وحتى فرنسا، جاء نتيجة التهديد النووي، الدول غير النووية، بحيث أصبح دافعاً لها لامتلاك أسلحة نووية».

 

نزع السلاح (Disarmament)

على الرغم من أن التسلح حق سيادي يكفله القانون الدولي والعلاقات الدولية، الا أن هناك ضوابط تعارفت عليها الدول في تعاملها مع هذا الموضوع، وظهرت الى الوجود اصطلاحات لكل منها معناها المحدد، فهناك اصطلاح نزع السلاح (Disarmament) ومراقبة التسلح (Arms Control) وعدم الإنتشار (Non proliferation ) والحد من التسلح (Arms Limitation) وغيرها.
شكل موضوع نزع السلاح مجالاً واسعاً للجهود الدولية المتفق عليها للتخفيض والإلغاء النهائي لكل أشكال الحرب، وقد صار اليوم مبدأً أساسياً من مبادئ القانون الدولي حيث تحدد شرعة الأمم المتحدة الطرق الواجب إتباعها لنزع السلاح، وذلك من خلال جهازين رئيسين من أجهزة المنظمة الدولية: الجمعية العامة ومجلس الأمن، كما تضم الأمم المتحدة لجنة تعرف باسم لجنة نزع السلاح (Disarmament Commission) تتألف من أعضاء الأمم المتحدة كافة.
- نزع السلاح التام: أول وسيلة قانونية دولية لإقرار نص يعتبر أن نزع السلاح الشامل والعام، هو الغاية النهائية لعملية مراقبة التسلح، كان قرار الجمعية العامة الرقم 1378تاريخ 1959/11/20 الذي أصبح في ما بعد جزءاً لا يتجزأ (Embeded) من عدد من الاتفاقات العديدة الأطراف، كإتفاقية موسكو سنة 1963 التي تحرم التجارب النووية بوسائطها الثلاث، واتفاقية عدم إنتشار الأسلحة النووية سنة 1968.
وفكرة نزع السلاح الكامل، كانت واضحة منذ العام 1961 ما بين الولايـــات المتحــدة والاتحـــاد الســـوفــيــاتي، وذلك من خلال مفاوضات حول المبادئ المقبولة لنزع سلاح تام، وقد نصت الفقرة الثالثة على:
أ - تسريح القوات المسلحة، وتفكيك الانشاءات العسكرية وخاصة القواعد.
ب - القضاء على مخزون الأسلحة النووية والكيماوية والجرثومية.
ج - تدمير وسائط إيصال أسلحة الدمار الشامل.
د - إلغاء المنظمات والوكالات والمعاهد المخصصة لتنظيم الجهود العسكرية، والتدريب العسكري.
يرى صمويل هانتغتون: «أن نزع السلاح بشكل كامل يتطلب شكلاً من أشكال الحكومة العالمية، التي تردع أمة من الاعتداء على أخرى، ففي عالم منزوع السلاح، وبدون حكومة مسلحة تسليحاً كافياً لمنع الاعتداء بين الأمم، فإن الاختلافات العقائدية والمصالح، قد تؤدي بسهولة إلى تجدد النزاع العالمي وخطر الحرب، ولكن أي حكومة عالمية قادرة على منع النزاع العالمي قد تتحول الى ديكتاتورية مطلقة». ربما يجانب هذا القول الحقيقة في عالم القطب الواحد الذي نعيشه اليوم.
- مراقبة التسلح (Arms Control): حلت مراقبة السلاح محل نزع السلاح في مفردات الخبراء منذ ستينيات القرن العشرين، وكانت تعني هامشاً أوسع للعمل اكبر من نزع السلاح لأنها تتضمن خطوات تفرض التوازن، وتساعد في تجنب الحوادث، ولكن كان من الصعب فصل موضوع مراقبة السلاح عن المشاكل السياسية ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كما أن الدولتين استعملتا الموضوع للدعاية في أغلب الأحيان، وحتى نهاية الحرب الباردة. والحفاظ على السلم والأمن الدوليين خلال هذه الفترة تم عبر إقامة توازن للقوى، والردع النووي المتبادل بين القطبين، وقد تم توقيع عدد من المعاهدات بينهما سالت 1 و2 ثم ستارت 1 و2، وغيرها من المعاهدات والاتفاقات، التي كانت تهدف الى الحد من انتاج الأسلحة النووية ووسائطها ومراقبة نشر أي سلاح جديد من صواريخ وغواصات نووية.
لقد أدت عملية مراقبة السلاح والتسلح دوراً إيجابياً يمكن تقديره عبر أبعاد ثلاثة:
أ - الردع الثابت: وذلك بتأمين قوى كافية ومعقولة لردع الخصم من القيام بمغامرة سياسية غير محسوبة جيداً قد تؤدي الى الحرب.
ب - مراقبة سلاح ثابتة: من خلال إقامة علاقات عسكرية متبادلة بين الدولتين، تسمح بمراقبة البناء العسكري والموارد العسكرية لكل منهما.
ج - تثبيت الأزمات: بإيجاد شكل من أشكال القوى عند الطرفين تمنع أياً منهما، وقت الأزمات من القيام بالضربة الاولى.
وفي الواقع، استطاعت تدابير مراقبة الأسلحة أن تفتح الباب بين الطرفين لمحاولة بناء الثقة، من خلال الاتصالات اكثر من تغيير واقع القوى العسكرية على الأرض، الذي حافظت الدولتان على توازنه، هذا التوازن الذي قال روبرت مكنمارا عنه: «إن التوازن، لا يعني التساوي المطلق في الوسائل المتاحة، وإنما يعني قدرة كل جانب على الرد، بتدمير الآخر بيقين مناسب».

 

البعد الحقيقي لسباق التسلح

يرى البعض أنه لو كانت العلاقات بين الدول مبنية في أساسها على الثقة الكاملة في نوايا بعضها البعض، لما كان ثمة داعٍ للتسلح، ولما وجدت مشكلة نزع السلاح بالصورة التي نعرفها.
إن الشك المتبادل يشكل عائقاً كبيراً على طريق نزع السلاح النووي وغيره، وهذا يؤدي الى المبالغة في طلب المراقبة والتفتيش وتعقيداتهما، ويتحول الى حلقة مفرغة، ومأزق سياسي وفني، لم تتمكن الدول من تجاوزه حتى الآن. كذلك فإن العوامل الفنية والسياسية، ليست هي الوحيدة في إعاقة عملية نزع السلاح، ذلك أن للمؤسسات العسكرية البيروقراطية، والتوجهات السياسية والعقائدية لقادة الدول في العالم، دوراً أساسياً في ذلك، إلا أن السبب الأهم، هو تلك الشبكة المعقدة من المؤسسات، والصناعات العسكرية المعنية مباشرة بإنتاج وتطوير الأسلحة المختلفة، والتي تتدخل باستمرار لإحباط أي مشروع لنزع السلاح في العالم، وهي «كارتل» ضخم من المجمعات الصناعية العسكرية، تتألف من الدوائر العسكرية الرسمية ووزارات الدفاع، والصناعات الحربية الخاصة، والوكلاء الذين يروجون هذه الأسلحة، ويعقدون الصفقات المربحة بين الدول والمصانع.
إن هذه المجمعات العسكرية الصناعية، تقف ضد أي تخفيض في الأسلحة، وتحارب الأفكار التي تروج لنزع السلاح النووي وغيره، وهي تمتلك قدرات وامكانات مالية ودعائية هائلة توظفها في تغذية التوترات الدولية، والتأثير في صناعة القرارات، ورسم السياسات الدفاعية للدول من خلال فرق تضعها في وزارات دفاع الدول الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة الاميركية، وإذا عرفنا أن حجم مبيعات هذه المؤسسات والمصانع السنوية يبلغ آلاف مليارات الدولارات، وان اقتصادات عدد من الدول الكبرى يعتمد على هذه الصناعة، لأدركنا البعد الحقيقي لسباق التسلح، وطوباوية حلم نزع السلاح، وجدوى مراقبته!

 

المراجع:
- العلاقات السياسية الدولية: اسماعيل صبري مقلد - دار ذات السلاسل - الكويت 1985.
- العالم المعاصر والصراعات الدولية: د. عبدالخالق عبدالله - عالم المعرفة - عدد رقم 133- الكويت 1989.
- ما بعد الحرب الباردة: روبرت مكنمارا - ترجمة محمد حسين يونس - دار الشروق/عمان/ ط1 العام 1991.
- أزمة الحضارة: جوزف كاميللري - منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي - دمشق 1983.

the realities of arms control : by Harvard Nuclear study group. Samuel Huntington and others- international Conflic and conflict management- printice Hall of Canada- 1984 Ontario.