ذكراهم خالدة

سجل الخلود يُفتح مجدّدًا لأربعة شهداء
إعداد: داود رمال

الوزيرة عكر:الشهادة فخر كبير

العماد عون:الجيش لا ينتقم إنّما يطبق القانون

 

 

 

منذ أن رفع الجيش اللبناني شعار «الشرف والتضحية والوفاء»، فهو ارتضى عن سابق تصور وتصميم أن يضرب موعدًا دائمًا مع الاستشهاد، إعلاءً للحق والعدالة وذودًا عن الوطن لبنان. ولم يتقاعس جيشنا يومًا في أداء الواجب بكل حماسة وعنفوان، حتى تكاد لا تخلو ساحة من ساحات الوطن ومدنه وبلداته وقراه ودساكره من شهداء وجرحى رطّبوا الأرض بدمائهم الزكية.

 

عندما يوكل إلى أي لواء أو فوج أو كتيبة أو دورية مهمة أمنية، فإنّ عديدها ينطلقون وفي حسبانهم أنّهم قد لا يعودون سائرين على قدمين، إنما حدسهم وتجربتهم تقودهم إلى الخيار الأنقى والأعلى في السمو والفداء، فالتقدير الأعلى أن يعودوا مرفوعين على الأكف إلى مثواهم الأخير أو على حمّالات إلى مستشفيات العلاج. ونبع المجد المتدفق منذ سنوات طوال يمتد نهرًا مديدًا يلفّ لبنان بشلالات من الدماء الطاهرة والأنفس الزكية والأرواح المقدسة، التي جعلت من لبنان وطنًا عصيًا على الاضمحلال أو التحلل. وطن ازداد صلابة وقوة في مواجهة الأعاصير وعواصف الشر التي حاولت وما زالت، العبث بالكيان كما الإنسان.

 

موعد مع الشهادة
في كل جهات الوطن انتشروا وسهروا وصانوا الأمانة وأوفوا بالقسم، وضربوا موعدًا جديدًا مع العطاء والبذل بالأنفس والأرواح. وفي التاسع من شباط 2020، عند الساعة الثانية بعد الظهر حين بدأت الشمس تميل إلى جهة المغيب، وفي مدينة الهرمل – محلة المعلقة – العاصي، وأثناء قيام دورية من فرع مخابرات البقاع في الجيش اللبناني بمطاردة سيارة مسروقة من نوع هيونداي لون أحمر، رقم لوحتها 590739/B، يقودها المدعو علي مهدي دندش، والدته عواطف، مواليد 1987، حاول الأخير الفرار من أمام الدورية، فتمّ توقيفه وتبيّن أنّه أصيب بكسر في رجله اليمنى.
في أثناء مغادرة الدورية المكان اعترض طريقها المدعو خضر ابراهيم دندش، والدته بدرية، مواليد 1954، والمدعو جعفر شفيق الحاج حسن، والدته صبحية، مواليد 1988 يقود سيارة جيب نوع غراند شيروكي لون كحلي، من دون لوحات مطلوب بموجب عدة وثائق  لحيازته أسلحة حربية وادّعائه صفة أمنية وخطفه شخصًا، وبرفقتهما أشخاص مجهولو الهوية. أقدم المذكورون على إطلاق النار من أسلحة حربية مجهولة النوع والعيار، ما اضطر عناصر الدورية للرد على مصادر النيران، وأدى إلى استشهاد الرقيب أول علي اسماعيل، والرقيب أحمد حيدر أحمد، والجندي حسن عز الدين (نشرت «الجيش» خبر استشهادهم ونبذة عن كلٍ منهم في عددها السابق)، وإصابة كل من الرقيب باسل جعفر بطلق ناري في صدره والجندي ضياء ياسين بطلق ناري بقدمه اليمنى. في المقابل أُصيب المدعو خضر دندش بطلق ناري في رأسه ما أدى إلى مقتله على الفور، ونقل إلى مستشفى الهرمل الحكومي. كما أصيبت آليات الدورية بعدة طلقات نارية ، وسُلّم المدعو علي مهدي دندش إلى شرطة منطقة البقاع – فصيلة رأس بعلبك، ونُقل إلى مستشفى اليونيفرسال ومن بعدها إلى مستشفى تمنين للمعالجة.

 

عرس الأبطال
في العاشر من شباط 2020 الساعة العاشرة صباحًا كان الموعد مع عرس الأبطال الشهداء. ففي مستشفى البتول سُلّمت جثامين الرقيب أول الشهيد أحمد حيدر أحمد والجندي الشهيد حسن عز الدين لذويهم بعد إجراء مراسم التكريم، وفي التاريخ نفسه، الساعة العاشرة والنصف صباحًا في مستشفى دار الأمل الجامعي سُلّم جثمان الرقيب أول الشهيد علي اسماعيل إلى ذويه بعد إجراء مراسم التكريم. وتمّ دفن الجثامين في جبّانات الهرمل وعرسال وبريتال، في حضور حشد من الأهالي ورفاق السلاح، وممثلين عن نائب رئيس مجلس الوزراء وزيرة الدفاع الوطني زينة عكر وقائد الجيش العماد جوزاف عون، الذين ألقوا كلمات في عرس الشهادة تناولت مسيرة الأبطال الذين طعنتهم يد الغدر، وهم يؤدون واجبهم العسكري بكل تفانٍ وإخلاص وشجاعة، متحدّين الأخطار والصعاب.
ذلك هو قدر العسكريين، أن يبذلوا التضحيات الجسام، فيمضي من مضى ويبقى رفاقهم حاملين ذكراهم في وجدانهم، عازمين على الاستمرار في المسيرة، والقيام بالواجب كاملًامن  دون تردد، دفاعًا عن تراب الوطن وسلامة أبنائه. لقد أثبت الشهداء جرأتهم وإقدامهم وبطولتهم في سبيل حماية وطنهم وإخوتهم، باذلين أرواحهم، ملتزمين قسمهم العسكري، مصرّين على مبادئ الشرف والتضحية والوفاء حتى الرمق الأخير. مرة جديدة تدفع المؤسسة العسكرية ضريبة الدم الغالي، وتزفّ شهداءها المقدامين الغيورين على مصلحة وطنهم وسلامة إخوتهم وأهلهم. لقد ظنّ القتلة المجرمون أنّهم بمثل هذا العمل الغادر يستطيعون ترهيب الجيش وجنوده، لمواصلة جرائمهم المنظمة، من أعمال السلب والتجارة بالممنوعات، لكن الجيش لن يتهاون على الإطلاق مع العابثين بالأمن والمعتدين على الأبرياء وهم سيلقون بلا شك جزاءهم العادل.

 

الحضور المسؤول
ولأنّ دماء الشهداء لا تُعوَّض، وتضحياتهم لا تُقدَّر بثمن، وبطولتهم مصدر فخر واعتزاز، حرص كل من نائب رئيس مجلس الوزراء وزيرة الدفاع الوطني زينة عكر وقائد الجيش العماد جوزاف عون على زيارة عائلات الشهداء لتقديم واجب العزاء والمواساة بأبنائهم الذين قدّموا الأمثولة على التضحية والفداء.
وأشادت الوزيرة عكر بتضحيات الشهداء والتزامهم المطلق مبادئ الشرف والتضحية والوفاء، وقالت «الشهادة هي فخر كبير وإنّ ما جرى جريمة مروّعة، وقد عاهدناكم على تحمل المسؤولية وسنعمل مع قيادة الجيش لإحضار المجرمين إلى العدالة».
أما العماد عون فقد نوّه بمناقبية الشهداء وبطولاتهم وتفانيهم في أداء واجبهم العسكري، معاهدًا أنّ «دماءهم لن تذهب هدرًا وأنّ العمل مستمر لتوقيف باقي المتورطين وتسليمهم إلى القضاء»، مؤكدًا أنّه «على هؤلاء المجرمين والخارجين على القانون تسليم أنفسهم، وإلا فإنّ الجيش سيلاحقهم ويسلّمهم إلى القضاء المختص. والجيش لا ينتقم إنّما يطبّق القانون، ونحن نقدّر وقفة أهلنا الشجاعة وعدم احتكامهم إلى منطق الثأر. انطلاقًا من ذلك، وكما وعدت في السابق، أجدّد وعدي لكل عائلات الشهداء بأنّ دماءهم لن تذهب هدرًا».
هذه المواساة من أعلى مسؤولين في وزارة الدفاع والمؤسسة العسكرية تبرّد القلوب وتعمل على بلسمة الجراح، خصوصًا أنهّا ليست واجبًا يتيمًا، فقيادة الجيش تنظر بعين العطف والتضامن إلى أفراد عائلات الشهداء، وتعتبر أولادهم أولاد المؤسسة العسكرية، وستظل أبوابها مفتوحة أمامهم لإحاطتهم بأفضل سبل الرعاية والاهتمام، وذلك أقل ما يمكن فعله من واجب أخلاقي وإنساني تجاههم.

 

بطل آخر إلى القافلة
لأنّ نبع الشهادة لا ينضب، كانت المؤسسة العسكرية بعد أسبوعَين على موعد جديد مع التضحية، ففي أثناء قيام العريف أيمن مهدي المحمد بزيارة لأحد أصدقائه في الهرمل، تعرّض لكمين مسلح تخلله إطلاق نار أدى إلى استشهاده. شُيّع الشهيد في بلدته الرامة – وادي خالد – عكار في حضور حشد من المواطنين ورفاق السلاح وممثل كل من نائب رئيس مجلس الوزراء وزيرة الدفاع الوطني زينة عكر وقائد الجيش العماد جوزاف عون. وفي تأبينه الشهيد الذي طعنته يد الغدر، قال ممثل وزارة الدفاع وقيادة الجيش: ترك جرحًا عميقًا في قلوبنا وقلوب أهله وأصدقائه وأبناء بلدته، لكنّه سيبقى حيًّا في ضمائرنا، وهو الذي نذر حياته لرسالة الجندية، كرّس الجزء الأكبر من وقته وطاقته لخدمة الوطن وحماية شعبه. خسارتنا كبيرة وألمنا عميق، لكن التجربة أثبتت أنّ شهداءنا مصدر قوة لا تنضب، وأنّ تضحياتهم حافز دائم يدفعنا قدمًا بلا ضعف ولا تردد، وهذا عهدنا الذي لا نحيد عنه قيد أنملة. وليعلم أولئك الجبناء الذين اقترفوا هذه الجريمة، أنّ يد العدالة ستطالهم لا محالة، وأنّ الجيش لن يستكين حتى يقتصّ منهم أمام القانون في أسرع وقت ممكن، مهما حاولوا الهرب والاختباء.
رقدوا في الثرى، وكما نحن في الربيع يزهر بالألوان ويسطع بالبهاء ويتعطّر بالشذى العابق في الأرجاء، تراهم يستبشرون بفصول من سلام وطمأنينة لا مكان فيها للغدر والقتل والدماء، ويشرقون مع كل طلوع شمس ليبشروا بالفرح، ويخلدون إلى النوم مع كل مغيب على رجاء القيامة.

 

الشهيد أيمن مهدي المحمد
- من مواليد 16 / 7 / 1982.
- تطوع في الجيش بصفة مجنّد اعتبارًا من 3 / 1 / 2002.
- من عداد لواء المشاة الخامس- الكتيبة 53.
- حائز:
• وسام مكافحة الإرهاب.
• تهنئة وزير الداخلية والبلديات.
• تنويه العماد قائد الجيش أربع مرّات.
• تهنئة العماد قائد الجيش أربع مرّات.
• تهنئة قائد الكتيبة.
• تهنئة قائد اللواء.
- استشهد بتاريخ ٢٩ / ٢ /٢٠٢٠.