كبار يرحلون

سعيد عقل: مئة عام للشعر في أسطع اشراقاته
إعداد: هيام كيروز


الكتابة عن سعيد عقل أمر شائك: إذ كيف يمكن مقاربة هذا الهرم من دون الشعور بأنك تبقى بعيدًا عن الإحاطة بمسيرة كاملة تراوح بين الإبداع الشعري والتأليف النثري والفلسفي، وبحياة تندرج تحت ألوية الغزارة والتنويعات الصادمة والمشرّعة للتاريخ في أدق منعطفاته، وللغزل في أرقى تجلّياته، وللشموخ في أرفع مقاماته، وللأدب في أسطع إشراقاته، وللقلق في أوسع تهدجاته، وللسياسة في أقسى معادلاتها...؟

 

عمارة شعرية بين ورد الكلمات ومرمى النار
كيف يمكن العثور على مفاتيح هذا الخصب الفكري الشامل الذي سقى ما يقارب القرن، ورَصْدُ مناحي شخصية الثائر، المفتخر، العاشق والأديب؟ وهل تكفي صفحات للدخول في القنوات التي تؤدي إلى مقاربة «الشاعر والاقتصادي واللاهوتي والعالم»، كما يصفه الأديب عباس بيضون!! (جريدة السفير، 29/11/2014).
لم يتوقف سعيد عقل عند حدّ، وعلّق عمارته الشاهقة بين ورود الكلمات ومرمى النار، بين القدرة الهائلة على التلاعب بالصور، وإضفاء طابع سوريالي على الوقائع الراهنة، ملتزمًا آفاقه الذاتية للتخلص من عبء الخيارات المطروحة.
لا يختزل سعيد عقل بنتاج كثيف وحسب، بل هو نتاج يتخطى وطأة التخوم الجامدة ليعانق إيقاعات متوقّدة الرؤى لازمته في أرستقراطية لغته، لغة طوّعها إبداع فكره، فتجلّت في دواوينه ومسرحياته وقصائدة كما في نثره وتحديّاته التاريخية.

 

اختراق المعايير
منذ بداياته، رفد سعيد عقل الأدب والشعر بدم الحداثة، بل بنبرة الغرابة، بجرأة تخترق المعايير وتطيحها وفق معطيات جمالية مدهشة وآسرة في آن. وكأنما في سأم من الجمود، اندفع في منطقه حول المفهوم الجمالي للوجود، متقدمًا، ناقرًا على أوتار التمرّد، ومعيدًا خلق العالم بواسطة الكلمة المتوهجة. وبالرغم من اللغط الذي أثارته نزعته اللغوية المتألقة، تابع ابتكار تقنيات شعرية، واسمًا المرحلة، بل عصرًا كاملًا بإبداعه، مما حدا بالشاعر زاهي وهبي إلى القول في رحيله:
«سعيد عقل مفترق صعب في الكتابة الشعرية العربية، ولو شئنا أن نرسم خطًّا مستقيمًا من ذرى المتنبي قبل ألف عام ويزيد لارتطم هذا الخط عند وصوله إلى زمننا الراهن بقمّة سعيد عقل وقيمته الشعريّة» (جريدة الأخبار 29/11/2014).

 

الأوطان والمدن
حبّه للبنان، بل شغفه به وتمجيده لتاريخه، لم يحل دون صوغه قصائد لبلدان أخرى، كسوريا، والأردن والعراق ومصر وفلسطين والسعودية (مكّة) والهند (في قصيدة مهداة إلى الرئيس نهرو). فمن «سائلي يا شآم» إلى «غنيت مكة» و«عملاق مصر» إلى «أغنية الحجر»، ثمّة معانٍ وطنية تزكّي الأفكار العظيمة وتلهب الكلمات والقوافي. ومن الغنائية التي تتوالد على شكل دوائر ماء، إلى العصب القومي، مسارٌ ينزع قشرة الواقع وتداعياتها ويتدرّج في سياق حبكات أسطورية تاريخية مسرفة في دفق الصور وشجو الإيقاع.
الحدث السياسي أدى في إحدى مراحل حياته دورًا في بلورة توجهٍ قائم على الوجدان الوطني وترجمته في سياق بدا للبعض نقضًا حادًا للإرث الأصيل، وانشطارًا عن حتمية الوحدة التاريخية، لكن حسبه أنه انبنى على أنقاض الواقع المزنر بالحديد والدم.
سعيد عقل، الظاهرة الفكرية، مجنون «العبقرية اللبنانية»، دخل الغياب الأبدي، وبغيابه «لا يخسر الشعر وحده، بل تخسر الحياة نفسها الكثير من ألقها، وتخسر الأرض الكثير من هوائها النظيف، وينخفض منسوب الجمال، وتنكمش الجغرافيا اللبنانية والعربية على صقيعها وأوحالها...»، كما كتب الشاعر شوقي بزيع في جريدة السفير في 29/11/2014.

 

أمة في رجل
لكن، على الرغم من قسوة الغياب، فالشاعر الذي هو «أمّة في رجل ومدرسة فكر» (الشاعر جورج شكور – جريدة السفير – 29/11/2014)، لم يستنفد كل معطياته، وسيستمر في إثارة الإشكالات وفي طرح عناوين الصنعة الفنيّة. عمارته التي ضربت جذورها في الإرث الأدبي اللبناني والعربي تغري بكشف علامات أدبه الفارقة للغاية، وتحرّض على استنباط الشطحات المضيئة في شعره ونبراتها المتوهجة اعتزارًا وتألقًا.
قامته التي قارعت الآلهة، لن تنفكّ تدعو إلى الطواف في حركته اللغوية الدؤوبة وفي نسيج قصائده المكوكب وموسيقاها، وفي محاولة القبض على تلك الومضات، بل الشرارات التي تركض كالخلايا من أول النتاج حتى نهايته، للتعرّف إلى تلك القامة التي لم تحني رأسها يومًا، ولم تهادن انقيادًا لضرورات مرحلية.

 

بالغار كُللت يا كبير الشعراء
يوم ودّع لبنان سعيد عقل تقدم الأكاليل إكليل من السيدة فيروز يحمل عبارة: «بالغار كُللت يا كبير الشعراء»، وبين صوت فيروز وشعر سعيد عقل، حكايات محفورة في وجدان ملايين العرب. فقد حمل صوتها شعره وطاف به القلوب والارجاء. ومن جهته كتب الكثير عن فيروز وصوتها وكان يصفها دائمًا بالإلهة. وحين لحن الأخوان الرحباني قصائده، فضّل الألحان على كلماته، وبالطبع فضّل صوت فيروز على الموسيقى والكلمات كما يقول زاهي وهبي.
من قصائده التي غنتها فيروز ولحنها الأخوان رحباني: «حملت بيروت» و«يا شام عاد الصيف» و«خذني بعينيك» و«سائليني» و«شام يا ذا السيف» «قرأت مجدك» و«سيفٌ فليشهر» و«يارا» و«أردن» و«عمان في القلب» و«فتحهن عليي» و«من روابينا القمر» و«غنيت مكة» و«مشوار» و«مرجوحة» و«يبقى المسا» و«لاعب الريشة» و«دقيت... طل الورد عالشباك» و«لمين الهدية».
في الثّلاثينيّات (1935) أصدر سعيد عقل «بنت يفتاح» المأساة الشعريّة، وهي أولى مسرحيات لبنان الكلاسيكيّة ذات المستوى، وقد نالت يومذاك جائزة «الجامعة الأدبية». وفي الفترة ذاتها كتب قصيدة «فخر الدين» المطوّلة التاريخية الوطنيّة.
في العام 1937 أصدر «المجدلية» التي بمقدّمتها غيّرت وجه الشّعر في الشرق، وفي 1944 أطلت مسرحيّة «قدموس»، عمارةً شعرية ذات مقدمّة نثريه رائعة. بعد ثلاث سنوات أصدر ديوان «رندلى». في العام 1954 صدر له كتيّب «مشكلة النخبّة» الذي يطالب فيه بإعادة النّظر في كلّ شيء من السياسة إلى الفكر والفن. أعقبه (1960) كتاب «كأس الخمر» وهو يتضمّن مقدّمات وضعها لكتب منوّعة. وفي العام نفسه صدر «لبنان إن حكى»، كما صدر أيضًا كتاب «أجمل منك؟ لا...». بعد ذلك صدر «يارا» (1960) ثم «أجراس الياسمين» (1971) و«كتاب الورد» (1972) و«قصائد من دفترها» (1973) و«كما الأعمدة» (1974). ومن كتبه «خماسيّات» وهو مجموعة أشعار باللغة اللبنانية وقد صدر في العام 1978، وأعقبه «خماسيّات الصبا» باللغة الفصحى (1992).
كذلك أصدر سعيد عقل في العام 1971 ديوان شعر باللّغة الفرنسيّة اسمه «الذّهب قصائد» وهو كتاب جامع يحمل خلاصة ما توصّل إليه فكره في أوجِ نضجه.

 

سعيد عقل والمؤسسة العسكرية
بين سعيد عقل والمؤسسة العسكرية علاقة عميقة تعود إلى الرئيس الراحل اللواء فؤاد شهاب، الذي أولى كبار المفكرين عناية وتقديرًا قلّ نظيرهما. فقد أنشئت آنذاك لجنة برئاسة الدكتور قسطنطين زريق تولت اشتقاق مصطلحات وتسميات مبتكرة للعمليات والاختصاصات في القطاعات العسكرية. وهكذا تمّ ابتكار مصطلح «مجوقل» مثلًا، والذي وضعه الشيخ عبد الله العلايلي أحد أعضاء اللجنة التي ضمت أيضًا سعيد عقل ومنصور الرحباني والشيخ فؤاد حبيش صاحب «دار المكشوف».
على أن هذه المصطلحات التي أغنت مفردات السلاح، لم يقتصر استخدامها على الجيش اللبناني،  بل استعانت بها المؤسسات العسكرية في دول المنطقة.
كذلك شارك سعيد عقل في وضع كتاب التنشئة الوطنية والانسانية بطلب من قيادة الجيش، والذي اعتمد لتنشئة العسكريين لسنوات طويلة، وكان له من دون شك دور كبير في ترسخ القيم والمبادئ التي يتحلى بها الجيش اللبناني.
من هنا نفهم هذا التواصل والتفاعل بين محتضني التراث اللبناني وبين الجيش، حيث نشأت الملاحم، وتمّ تخليد ذكرى أعلام وقادة. فنُصب فخر الدين يتصدّر باحة وزارة الدفاع، وليس بعيدًا من هناك قامت المدرسة الحربية في ثكنة شكري غانم.