قضايا إقليمية

سفن الحريــة وإرهـــــــاب الـدولـــة الصهيـــونيـــــــة
إعداد: إحسان مرتضى
(باحث في الشؤون الاسرائيلية)

حاولت إسرائيل من خلال المجزرة أن تطبّق نظرية الرعب والردع لكبح مسيرة سفن الحرية الرامية الى فك الحصار عن غزة


ما يزال سيل الناشطين العالميين المنتمين الى الكثير الكثير من شعوب العالم ودوله، يتدفّق يوماًَ بعد يوم في اتجاه قطاع غزة المحاصر منذ نحو أربع سنوات على التوالي، وذلك على الرغم من الرد الوحشي الإسرائيلي الذي أودى بحياة العديد من المساهمين، وخصوصاً الأتراك، وأدى الى إصابة العشرات بجراح مختلفة. الفعل الإسرائيلي شكّل قرصنة دولية موصوفة داخل المياه الدولية، ولا سيما أن الناشطين جميعاً هم من المدنيين العزّل إلا من بعض الأدوية والأطعمة وحليب الأطفال التي جلبت لإغاثة الملهوفين المظلومين من سكان قطاع غزة، الذي تحوّل الى سجن كبير في الهواء الطلق تحت حراسة الجلادين الصهاينة  وأسلحتهم الفتّاكة.  
إن ما فعلته حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة في هذا السياق قد أذهل العالم وصدم الضمير الإنساني وأيقظه من صمته ولا مبالاته، وعرّى الوجه العنصري اللئيم لهذا الكيان المنفلت من عقاله والذي لا يقيم أي وزن أو اهتمام للرأي العام العالمي والقانون الدولي. وما فعلته هذه الحكومة ينطبق عليه بالضبط توصيف إرهاب الدولة الذي يعرّف قانوناً بأنه «تلك الأعمال الإرهابية التي تقودها الدولة من خلال مجموع الأعمال والسياسات الحكومية التي تستهدف الرعب بين المواطنين لإخضاعهم داخلياً أو في الخارج، من أجل تحقيق الأهداف التي لا تستطيع الدولة (أو لا تتمكن من) تحقيقها بالوسائل المشروعة، كما وهناك ايضاً تعريف مماثل لإرهاب الدولة وهو أنه «الإرهاب الذي تقوم به دولة أو تمارسه ضد نظام أو شعب يسعى للتحرر والتخلص من الاستغلال والسيطرة الخارجية». وثمة من بين الباحثين الحقوقيين من يميّز بين إرهاب المستضعفين وإرهاب الأقوياء المستكبرين. ومن المؤسف أنه في الواقع السياسي الدولي الراهن (القائم على النفاق والمصالح الذاتية الخاصة، بصرف النظر عن الحق والعدل والإنصاف)، تتجه أصابع الإتهام والتجريم والإدانة باستمرار الى ما يسمى «إرهاب الضعفاء» أي المقهورين والمسلوبي الحقوق، في حين تتم تبرئة إسرائيل وحماتها من مختلف أشكال الجرائم، بدءاً من استخدام القنابل العنقودية ومروراً بالقنابل الفوسفورية ووصولاً الى القنابل الذرية التي تحتجز الدول والشعوب الضعيفة كرهائن تفرض عليها كل شروط الإذلال والإجحاف المادية والمعنوية، بما في ذلك سلبها حرياتها وأراضيها عبر الإستيطان وحجة «التوسع الطبيعي» في هذا الإستيطان على حساب حقوق الشعوب الأخرى، كما يحصل في فلسطين وسوريا ولبنان بشكل خاص.
من هذا المنطلق يتبيّن أن ما تقوم به إسرائيل وحماتها والمتعاطفون معها بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وحق الناشطين الدوليين المؤيدين للعدل والسلام إنما يتناقض تماماً، من حيث المبدأ والممارسة، مع مبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وقواعده، ويفسح المجال أمام تصاعد قوانين شريعة الغاب والبلطجة الدولية. والجدير بالذكر أنه في الحقائق التاريخية المعروفة، لم يكن للعرب، وخصوصاً الفلسطينيين أي دور في اضطهاد اليهود في أوروبا والذي بلغ أوجه مع نازية هتلر في إبان الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي استغلته الحركة الصهيونية أبشع استغلال لتبرير ارتكاب المجازر البشعة بحق الفلسطينيين والشعوب العربية الأخرى وسلبها حقوقها وتشريدها من بيوتها، بالإستعانة بما توافر لها من إمكانات مالية وسياسية وإعلامية وعسكرية هائلة. فعمدت هذه الحركة الى تسويق نفسها بأنها الضحية المضطهدة وأنها واحة الديمقراطية المحاطة بصحارى الأنظمة العربية المستبدة. ولكن مع مرور الزمن وتزايد الجرائم الإسرائيلية وعنفها ووحشيتها، ما لبثت الحقيقة أن راحت تتكشف أمام أنظار العالم بأسره أكثر فأكثر، وما عمليات القرصنة البحرية الصهيونية في المياه الدولية في الآونة الأخيرة سوى رأس جبل الجليد في سلوك إسرائيل الإجرامي، ليس تجاه الفلسطينيين وحسب، بل ايضاً تجاه سائر شعوب المنطقة والعالم.
إن أكثر ما يقلق إسرائيل من قوافل فك الحصار، ليس المساعدات العينية التي كانت تحملها السفن للفلسطينيين، بل المغازي السياسية الكامنة في هذه السفن وركابها الذين ينتمون الى نحو خمسين جنسية عالمية، وفي مقدمة هذه المغازي ما يمثله هذا الدعم والتأييد من مظاهر الإعتراف الدولي الشعبي بحقوق الشعب الفلسطيني السيادية على أرضه وحقه الإنساني ايضاً في حرية تقرير مصيره، وهي حقوق تتوافق مع الشرعية الدولية والقوانين والأعراف المعتمدة في هذا الخصوص، وثمة أمر هام ايضاً يتمثّل في كون قطاع غزة يمتلك حالياً الكثير من مقومات السيادة المتمثلة في حكومة نظامية تديرها حماس، وفي امتلاك طريق تجاري بحري حيوي عبر المياه الدولية في البحر المتوسط، مما يؤذن بنهاية الحصار والعزلة المفروضين على الأراضي الفلسطينية المحررة، لا سيما في ظل أجواء التعاطف المتزايدة في الشرق والغرب على خلفية ما حصل في الحرب الظالمة على غزة والتي دعيت بإسم عملية «الرصاص المسكوب» وما رافقها من أعمال قتل ووحشية ومحاولات إبادة شعب من خلال محرقة الفوسفور الأبيض التي شهدها العالم أجمع عبر شاشات التلفزة العالمية.
إن ما تخشاه إسرائيل إذن من حملة أساطيل السلام المجردة من السلاح والمزوّدة ما يمكن تسميته «بالقوة الناعمة» أي قوة الحق والخير والسلام والمشاعر الإنسانية فحسب، إنما يكمن في أن يتمكّن الشعب الفلسطيني من انتزاع حقه في دولة، أو جزء من دولة، ذات سيادة، تشكّل الإنطلاق نحو المستقبل المشرق الذي يضع حداً لمظالم الإحتلال المزمن، ولهذا السبب بالذات أقدمت حكومة نتنياهو على ارتكاب إرهاب الدولة المتمثل في «المجزرة»، بحق المواطنين الأتراك على الرغم من علمها بما سيترتب عن ذلك من خسارة سياسية وإعلامية ومعنوية في العالم الغربي.
لقد حاولت إسرائيل من خلال هذه المجزرة أن تطبّق نظرية الرعب والردع لكبح مسيرة سفن الحرية الرامية الى فك الحصار عن غزة، ووقف محاولات حركات المجتمع المدني الدولي والنشطاء المعنيين بحقوق الإنسان ومحاربة العنصرية والإحتلال، خصوصاً إثر تأكدها من أن المنظمات والهيئات الدولية الكبرى ستبقى مشلولة كونها تقع تحت السيطرة الأميركية ومعاييرها المزدوجة. وفي هذا السياق انتقد الكاتب الشهير روبرت فيسك في صحيفة الانديبندنت البريطانية قادة الدول الأوروبية وأميركا بشكل خاص، واتهمهم بأنهم شركاء في المجزرة لما يبدونه من مرونة غير مقبولة مع إسرائيل ويتركونها بلا محاسبة، كما كانت عليه الحال في أعقاب حرب لبنان الثانية العام 2006 وحرب غزة العام 2008 وتقرير غولدستون الشهير الذي سعت أميركا وحلفاؤها في الشرق والغرب الى طمسه ووأده لمصلحة الحليف الصهيوني وممارساته الإرهابية والتعسفية.
لا شك بأن الحصار الصهيوني الجائر على قطاع غزة لا يشكّل البند الوحيد في قائمة بنود الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني، بل هناك ايضاً بنود هامة أخرى من أبرزها بند التوسّع الإستيطاني السرطاني بشراً وحجراً، ثم تهويد القدس والجدار العنصري واللاجئين والأسرى وما الى ذلك من سلسلة قضايا سياسية وإنسانية محقة، لم يكن من شأن أسطول الحرية سوى تحريكها وتظهيرها على الملأ بعد أن كادت تنسى في غياهب وظلمات لعبة الأمم المتعارضة مع قيم الحق والعدل والإنسانية.