سقوط جدار برلين: تقويمات وانطباعات

سقوط جدار برلين: تقويمات وانطباعات
إعداد: أ.د. ميشال نعمة
أستاذ جامعي

ما فتئ تاريخ العام 1989 يُكتب إلى اليوم، ويشهد على ذلك فيض الكتب التاريخية المراجِعة. والحقيقة محيِّرة ولكن الجدير بالذكر أن وراء القوى التاريخية المحتومة العاملة زمن الأزمات، تكمن قرارات مهمة في لحظة خاصة مشوَّشة. وليست السنوات العشرون في قياس التاريخ زمنًا طويلأً، بيد أن سقوط جدار برلين يبدو وكأنه عصر آخر. فالغبطة والجرأة والإثارة التي رافقت الحدث أُلحِقَت في الحال بالتهكم والخوف والشك الناجمة وفق بعض المراكز، على الأقل، عن الإنتصارية الأميركية.

على الرغم من السلوك الجديد الذي يبدو أن انتخاب باراك أوباما قد أرساه، مرَّ وقت طويل قبل أن يسمع العالم أن الولايات المتحدة تتكلَّم على نفسها ثانية كأمة «لا غنى عنها»، أو على طريقة حياة أميركية كرائدة لنهاية التاريخ. وهذا أمر مؤسف للغاية لأنه يبدو أن الدروس المكتسبة من أوروبا خلال القرن العشرين سائرة إلى النسيان، أي أن ليس ثمة شيء كالتنافس الدائم بين الأمم، أو أن الجيران، أيًا تكن العقبات، يمكن أن يكونوا شركاء، أو أن انعدام العلاقات يمكن أن يكون الاستثناء وليس القاعدة، أو أن السلام يصنع في آن من فوق إلى تحت ومن الأسفل إلى الرأس، وأن القضايا العالمية مثل البيئة والجريمة والتجارة تعالج بشكل أفضل في إطار إقليمي مع مؤسسات تشجِّع حسن الجوار الجيدة في حين توضع، في الوقت عينه، معايير أعلى للآخرين للمنافسة.

بالنسبة إلى الأميركيين، بشكل خاص، المقدار الكبير من نجاح أوروبا كان يعود إلى الثقة بالأوروبيين والسماح لهم بالحصول على الكثير من السمعة الحسنة. وقد تطلَّب الأمر نصف قرن من التدمير الواسع على يد الأوروبيين لتحويل المذكور آنفًا إلى حقائق مقرَّرة يطالب بها القليل اليوم. ولكنه، مرة ثانية، يبقى هو القضية الرئيسة في أوروبا وأميركا.

هوى جدار برلين في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 1989 مسجلاً نهاية عصر وبداية آخر. ويتذكَّر أناس وقليلون فعلاً الألمان الغربيين والشرقيين يوجِّهون ضرباتهم من أجل الحرية، حاملين مطارقهم الثقيلة إلى ذلك الحاجز الذي كان يفصل في ما بينهم لأكثر من ثلاثة عقود.

تقدِّم الذكرى العشرون لتلك اللحظة التاريخية مناسبة للتفكير مليًا بحدث استثنائي، واستخلاص دروس قد ترشدنا اليوم.

 

يبدو لنا اليوم، وكأن سقوط جدار برلين كان حتمية تاريخية. فعلى الرغم من أن الأمم الأوروبية نفسها حارب بعضها البعض الآخر معظم القرن العشرين، فهي تتعاون اليوم في القضايا الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وعلى الرغم من استمرار التوترات بين واشنطن وموسكو، وبين روسيا وبعض جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابق، فثمة تعاون على مستوى القضايا غير المتخيّلة العام 1989. ومن الطبيعي أخذ ما حدث يومذاك كأمر واقعي.

هل صحيح أن الحضارة ستفنى تحت وابل متقِّد من الذرات؟ بعض مراقبي السياسة الخارجية ما زال يعتبر أن الدبلوماسية الأميركية ما كانت معقدة كثيرًا. ويمكن إيجازها كالآتي: إذا كان الروس مؤيدين فالأميركيون معارضون، والعالم كان في حرب، باردة كانت أم لا، وقد كان يمكن أن تكون أكثر سوءًا. ومن ناحية ثانية، من الحكمة تحليل السياسة الأجنبية من خلال مشهد دور الرؤساء الأفراد. لذا يمكن أن يكون ثمة تكتيك مخفي ومقاربة لتبرير مقولة أن الحرب الباردة ما كانت لتنتهي كما انتهت لولا خطة الزعماء بدءًا من هاري ترومن، مرورًا بالإستراتجية البعيدة المدى التي أكَّدها جون كندي وتحدي رونالد ريغان لغورباتشوف. واستمر تسعة رؤساء، ديمقراطيين وجمهوريين، لأكثر من 40 سنة، ثابتين في مخطط ضد الإمبراطورية السوفياتية. وكانوا قادرين على فعل ذلك لأن الأميركيين كانوا بسطاء جدًا في ما يختص بالعلاقات الدولية والسياسات العالمية. وخلال تلك الفترة، كانت الولايات المتحدة تعاني وخز ضمير متناميًا وهي تواجه اضطرابات داخلية. فعلى الرغم من واقع أن الإدارة الأميركية حاولت جاهدة كبح انتشار الشيوعية، لكنها فشلت عدة مرات لا سيما في فيتنام. ولكن في النهاية، إنتصر المخطط الأميركي، وأعلن الأميركيون انتشار الديمقراطية في أكثر من خمسين دولة.

مع سقوط جدار برلين إنهار عقد الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية. ومن غير الضروري إضافة القول إن الرأسمالية هي التي إنتصرت في اليوم المحتوم الذي شهد توحُّد الألمانيتين في إلمانيا واحدة. وبعد عشرين سنة من هذا الحدث العظيم دارت مناظرات العديد من المفكِّرين حول السؤال الآتي: هل انتصار الرأسمالية أمر جيد؟

 

بعض النقاط التاريخية

إن سقوط جدار برلين يعني انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية ولاحقًا في الإتحاد السوفياتي العام 1991. هذا الجدار الذي فصل بين ثقافتين، لا بل قسم شعبًا واحدًا، هوى بطريقة سلمية ولم تهدر أي نقطة دم. لقد كان نتاج سيناريو ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين قرَّرت مناطق الاحتلال الأربع مصير إلمانيا. فالمناطق الثلاث التي احتلها الحلفاء - فرنسا، بريطانيا، والولايات المتحدة - شكَّلت إلمانيا الغربية، في حين عُرفَت المنطقة الرابعة الواقعة تحت الإحتلال السوفياتي يإسم إلمانيا الشرقية.

إرتفع جدار برلين العام 1961 ليشير إلى الفصل بين النمط الإقتصادي الأبطأ للحكم الشيوعي الألماني والتقدم العظيم لرأسمالية إلمانيا الغربية. وقد جعلت التعليقات غير الرسمية للموظف الإلماني الشرقي السابق غنتر شابوسكي حول اقتراح إنهاء الحظر المفروض على الإنتقال من برلين الشرقية إلى برلين الغربية، الجميع يفكر أنها قادت إلى سقوط الجدار. وكذلك يُعزى إلى رئيس الإتحاد السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، رأس حربة التغيير في بلاده، الفضل في إيجاد جو مساعد على إعادة توحيد ألمانيا في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، عندما اندفع الآلاف نحو جدار برلين وهدموا تلك البنية التي كانت تعني الركود الإقتصادي للشعب.

ثمة خرافة تسري بين بعض الإقتصاديين الذين يمدحون الإقتصاد الريغني مفادها أن عناد رونالد ريغن وتصلبه ضد الشيوعية أجبرا الإتحاد السوفياتي على الخضوع. وكانت عواقب هذه الخرافة كبيرة: مرة بعد مرة ناشد صقور ما بعد الحرب الباردة ريغن أن يعارض التفاوض مع أعداء أميركا، ويبرِّر التهديد إن لم يكن الإستخدام الحالي للقوة. هناك مسألة واحدة فقط: الخرافة كاذبة تمامًا تقريبًا. وبعد عقدين، شرع معظم المحللين السياسيين في نشر ما كان معظم المؤرخين المراجعين يعرفه وهو أن ريغن لم ينهِ الحرب الباردة لأنه كان صقرًا، وإنما لأنه تحول حمامة.

من المؤكد أن ريغن استهل رئاسته صقرًا: لقد رفع موازنة الدفاع، و ابتدع «حرب النجوم»، وأطلق على الإتحاد السوفياتي اسم «امبراطورية الشر»، وهذا ما يعرفه محافظو ريغن ويحبونه اليوم. ولكن ما نسوه بكل صراحة هو أن ريغن بدأ يتخلّى عن خطه الصلب باكرًا في العام 1984 أي قبل سنة من تبوء غورباتشوف سدَّة الحكم. وفي خطاب دراماتيكي في كانون الثاني/يناير 1984، تخلَّى ريغن عن عدائيته المتسرِّعة السابقة للمفاوضات، معلنًا أن «لا يحب واحد منا نظام الآخر ليس سببًا لعدم التفاوض». وكذلك لم يدع إلى تقليص الأسلحة النووية وحسب وإنما أعلن أن «حلمي هو رؤية اليوم الذي ستختفي فيه الأسلحة الذرية عن وجه الأرض». ومن تلك اللحظة وحتى نهاية فترة رئاسته، وكما وثَّق بث فيشر ومؤرخون آخرون، تكلَّم ريغن على التهديد السوفياتي أقل مما تكلم على خطر الحرب النووية، ولم يعد يطلق البتة على الإتحاد السوفياتي إسم إمبراطورية الشر.

لماذا هذا التحوُّل؟ في البدء، لأن مستشاري ريغن خشوا ألا يعيد الأميركيون انتخابه ثانية في حال استمر بخطه المتصلِّب. فالعام 1984، كان الجمهور الأميركي ينعطف بحدَّة ضد التعاظم العسكري لريغن، وبشكل واسع لأنه بعد ثلاث سنوات من دون مفاوضات والكم الكبير من الكلام الميَّال إلى الحرب، بات يروِّعه ويرهبه إحتمال وقوع حرب نووية. والسبب الثاني للتحول هو أن ريغن نفسه عُرِف عنه خوفه من وقوع مثل هذه الحرب. والسبب الثالث هو اعتقاد الرئيس الأميركي الأسبق بأنه بسبب دعايته العسكرية الواسعة والمكثَّفة سوف تستطيع الولايات المتحدة، في النهاية، أن تفاوض من موقع قوة.

في بادىء الأمر، لم تذهب بعيدًا جدًا اقتراحات ريغن لأن نظرية نظيريه السوفياتيين، يوري أندروبوف ثم قسطنطين شرننكو، كان لكل منهما قدم في القبر، لذا كان يقول ساخرًا: «سأستمر محاولاً التفاوض مع الزعماء السوفيات، وسيستمرون هم بالوفاة على أيامي». ولكن عندما تسلَّم غورباتشوف السلطة مطلع العام 1985، أطلق ريغن على الفور مفاوضات جديَّة حول نزع السلاح، حتى على الرغم من أن غورباتشوف لم يكن قد أعلن أبدًا عن إصلاحاته الإقتصادية الداخلية، وأنه ترك أوروبا الشرقية تهيء نفسها للحرية. وعصر ذاك، كان تقريبًا كل واحد من المعلِّقين والسياسيين الأميركيين المحافظين البارزين يقول إن ريغن كان مخدوعًا. وجاء في الصفحة الأولى من صحيفة «وول ستريت جورنال» أن «على المؤرخين يومًا ما أن يشرحوا ما الذي جعل السيد ريغن يتحوَّل إلى مناصر طوباوي لنزع السلاح النووي». وعندما وُقِّعَ اتفاق نزع السلاح INF (معاهدة نزع السلاح النووي المتوسط المدى) مع غورباتشوف العام 1987 - قبل سنتين من سقوط جدار برلين - قارنت صحيفة «واشنطن تايمز» ريغن بنيفيل شامبرلين. أما اليوم فيدَّعي المحافظون أن ريغن كان دائماً صقرًا، ولكنهم عصر ذاك، كانوا يعلمون جيدًا أنه تحوَّل إلى حمامة، وهو نفسه يعلم بذلك أيضًا. ففي القمة الأولى التي عقدها مع غورباتشوف همس في أذن نظيره السوفياتي «أراهن على أن المتصلِّبين في بلدينا ستنفطر قلوبهم عندما نتصالح».

 

مقارنة

يعتبر البعض أن نهاية الحرب الباردة كانت تحوُّلاً تاريخيًا أعظم من أحداث 11 أيلول، ولكن الجدال يستمر حول أسبابها. فالجزء الأكبر من السبب يرتبط بميخائيل غورباتشوف الذي أراد إصلاح الشيوعية وليس إستبدالها. ومع ذلك تضاعفت إصلاحاته بسرعة كما كرة الثلج داخل ثورة مسيَّرة من أسفل أو بالأحرى موجَّهة من فوق. فعندما وصل إلى سدة السلطة العام 1985، حاول غورباتشوف فرض النظام على الشعب السوفياتي كطريقة للتغلب على الركود الإقتصادي السائد آنذاك، ولمَّا كان النظام غير كافٍ لحل المشكلة أطلق فكرة البريسترويكا، أو «إعادة البناء»، غير أن البيروقراطيين استمروا يعارضون أوامره. ولكنه، من أجل هز كراسي هؤلاء لجأ إلى استراتيجية الغلاسنوست، أو الحوار المفتوح والدمقراطة. ولكن ما إ ن سمح الغلاسنوست للشعب أن يعبر عمَّا يفكر فيه، إنبرى من يقول «لا نريد الإستمرار». وفي صيف العام 1989 منح الأوروبيون الشرقيون درجات كثيرة من الحرية ورفض غورباتشوف إستخدام القوة لقمع التظاهرات. ولكن في تشرين الثاني/نوفمبر خرق جدار برلين.

وتبقى ثمة أسباب أكثر عمقًا. أحدها كان القدرة الناعمة للأفكار الليبرالية، فلقد ساعد نمو الإتصالات العابرة للحدود القومية والمباشرة في إنتشار الأفكار الليبرالية، ومنحتها حقيقة إثبات نجاح الإقتصاد الغربي جاذبية إضافية. يضاف إلى ذلك أن الميزانية الدفاعية السوفياتية الضخمة بدأت تؤثر على مظاهر أخرى في المجتمع السوفياتي. فالعناية الصحية تراجعت ومستوى الوفيات تزايد في الإتحاد السوفياتي (الدولة المتطوِّرة الوحيدة التي حدث فيها ذلك). وأخيرًا حتى العسكريين أدركوا العبء الثقيل الذي سبَّبه التمدُّد الزائد للإستبداد.

في الأساس، كانت الأسباب العميقة لانهيار الإتحاد السوفياتي رفض الإيديولوجية الشيوعية وسقوط الإقتصاد السوفياتي. وكان هذا الأمر سيحدث حتى من دون غورباتشوف. فمع بداية الحرب البادرة، تمتَّع الإتحاد السوفياتي والشيوعية بمقدار كبير من القوة الناعمة، فقاد العديد من الشيوعيين المقاومة ضد الفاشية في أوروبا، وآمن شعب كثير بأن الشيوعية هي موجة المستقبل. بيد أن هذه القوة السوفياتية الناعمة تقلَّصت مع إزالة الستالينية العام 1956 والتي فضحت جرائمها، ومع القمع في المجر العام 1956، وتشيكوسلوفاكيا العام 1968، وبولونيا العام 1981، ومع نمو تبادل الأفكار الليبرالية عبر العالم. وعلى الرغم من أن النظرية الشيوعية تهدف إلى إرساء نظام عدالة طبقية، حافظ أتباع لينين على قوتهم في الداخل بفضل نظام أمن دولة قاس تضمن عمليات تطهير قاتل، غولاغ، مراقبة واسعة، واستخدام مخبرين. وكان الأثر الواضح لهذه التدابير القمعية خسارة شاملة للإيمان بهذا النظام.

وراء كل هذا، كان ثمة أنهيار للإقتصاد السوفياتي عكس ضعف قدرة نظام التخطيط المركزي السوفياتي على الإستجابة للتغيير في الإقتصاد العالمي. لقد أنشأ ستالين نظام إدارة مركزية للإقتصاد شدَّد على صناعات المعادن الثقيلة والمداخن. لقد كان جامدًا عديم الفائدة. وكما أشار الإقتصادي جوزف شوميتر، الرأسمالية هي تدمير خلاَّق، طريقة للإستجابة بكل مرونة مع موجات التغيير التكنولوجي الأساسية. ومع نهاية القرن العشرين، كان التغيير التكنولوجي الأساسي في الثورة الصناعية الثالثة بروز المعلومات كمورد أكثر ندرة في اقتصاد ما، وكان النظام السوفياتي بشكل خاص غير قادر على إدارة المعلومات. وكانت السرية الغامضة لنظامه السياسي تعني أن دفق المعلومات كان بطيئاً وثقيلاً.

إن العولمة الإقتصادية أوجدت اضطرابًا في الإقتصاد العالمي عند نهاية القرن العشرين، بيد أن الإقتصادات الغريبة باستعمالها أنظمة السوق كانت قادرة على تحويل العمل إلى خدمات، وإعادة تنظيم صناعاتها الثقيلة والتحوُّل إلى عالم الكمبيوتر. ولم يستطع الإتحاد السوفياتي عصرذاك أن يستمر. فمثلاً عندما وصل غورباتشوف إلى السلطة العام 1985 كان هناك 50 ألف جهاز كمبيوتر شخصي في الإتحاد السوفياتي في حين كان عددها في الولايات المتحدة ثلاثين مليونًا. وبعد أربع سنوات إرتفع العدد إلى 400 ألف و40 مليونًا على التوالي. ووفق اقتصادي سوفياتي، وحوالى نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، %8 فقط من الصناعة السوفياتية كانت متناغمة مع المعايير الدولية. ويصعب كثيرًا الاستمرار قوةً عظمى عندما لا يكون ما نسبته 92 بالمئة من الصناعة غير متناغم.

إن العبر للحاضر واضحة، فعندما تستمر القوة العسكرية مهمة، وتضطلع لغة ريغن المنمَّقة الطنانة ببعض دور، يكون من الخطأ لأي دولة أن تسقط دور القدرة الإقتصادية والقوة الناعمة.

ينسب أحيانًا إلى تروتسكي القول «إن الثورة مستحيلة إلا إن كانت محتومة». إنها ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي يكون فيها تروتسكي على خطأ، وكزعيم لحركة ثورية شديدة التنظيم كانت تراقب القيصر يسحق ثورة العام 1905، كان يعرف بالتأكيد الأفضل. فلقد كان ثمة هدف للأحداث التي كانت يومذاك مشوَّشة ومشكوكًا فيها، وأخيرًا مترابطة منطقيًا بحيث تبدو محتومة عندما تُحفر مرة في كتبنا. واليوم توحي مقاربة مرفوضة أيضًا بأن مثل تلك الأحداث كانت محتومة. وفي الواقع لم تكن لا هذا ولا ذاك، وادعاء التعذُّر هو أكثر قابلية للسماح. أجل، لقد كان واضحًا أن الاستياء بين دول حلف وارسو كان بدأ يطفو. وعصرذاك غالبية الذين كانوا يؤمنون بأن الثورة محتومة، يبدو أيمانهم ولو إستعاديًا صعب التأييد. وعندما أزفت ساعة الحسم، الجيش نفسه الذي كان يطلق النار على مجتازي الحدود طوال سنوات أوقف ناره.

 

مسألة رومانيا

إن المسألة الرومانية هي اكثر استثنائية، وحتى أفضل مثال في التاريخ عن الميل إلى تحوير إتجاهات وطباع الأفراد الذين وجدوا أنفسهم في المكان والزمان الحاسمين. ففي 10 كانون الأول/ديسمبر 1989، ثمة نتيجة منطقية تكوَّنت من أن ثورة مجهضة في مدينة تيميشوارا، التي معظم مكانها من الاتنية الهنغارية، قُمِعَت، وأن قوات الأمن وحزب تشاوتشسكو كانا وراء العملية. وكان تشاوتشسكو قد وقف على شرفة قصره أمام حشد من آلاف الأشخاص اختير معظمهم، من دون أدنى شك، بكل دقة بالإعتماد على الموالين للتباهي بسلطته: لا نعلم البتة لماذا رجل غاضب واحد بين الآلاف يتصرَّف بقوة وعزم ليصيح بكلمات التجديف ضد الطاغية الأكثر إرهابًا في أوروبا. وفيما كان يلعن الطاغية كان آخرون في ذاك الحشد إما يقهرون خوفهم أو يتصرَّفون بغضب اليأس. وكان الخوف في عيون تشاوشيسكو وكأنه يدرك معنى تلك اللحظة التي فيها يتحوَّل مؤيدوه ثوَّارًا ساخرين. إن التاريخ كله هو محتوم بالإدراك المؤخَّر ولكن ما نقبله كمحتوم اليوم كان إختباريًا مؤسسًا كما الأبراج إذا توقعت تلك اللحظة قبل أن تحدث. ويمكننا القول إن الشعب لا يحب أن يُحرم ويُقمع، ويُخنق صوته أو يُظلم، وأنه حتمًا سوف يحس بذلك، وسوف ينمو إحساسه مع الزمن. ولكن من يخطىء بين حتمية المعارضة والحتمية السائدة، عليه أن يسأل أي ناجٍ من ساحة تيان أن مين، أو أي مواطن من رانغون، لاسا أو بيونغ يانغ. وإذا أراد الشعب التحرر والحياة حسب رغباته فالشجاعة تُعوِزُه. وفي بعض الأحيان التشجيع يكفيه، وفي أخرى لا.

لقد شهدت هنغاريا قبل ثمانية أشهر من سقوط جدار برلين ما كان، استعاديًا، بداية نهاية النظام السوفياتي. وآنذاك ما كان أحد يفهم معنى 15 آذار/مارس 1989: جمهور من المتظاهرين يقدرون بمئة ألف تدفَّقوا على الساحة التي تحتضن تلفزيون الدولة الهنغارية في بودابست، وكانوا يحملون الأعلام الهنغارية رافعين عريضة تطالب بالحقوق الديمقراطية.

كانت صرخة بعيدة من بودابست، حين كان يبدو وكأن الوجود السوفياتي في أوروبا الشرقية سيدوم إلى ألف سنة. ومع ذلك، كبرت تظاهرة 15 آذار/مارس المتوعِّدة، ولم يستجب الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف إرضاءً لتعليمات حكام هنغاريا الشيوعيين، وقال: «لا نعلم ماذا نفعل بها» ولم يكن المخرج أكيدًا. إنها هنغاريا في نهاية الأمر، حيث قمع الإتحاد السوفياتي العام 1956 وبكل قسوة، ثورة ضد النظام بدأت عندما حاصر متظاهرون راديو الدولة في هنغاريا.

بدأت النتيجة النهائية تدخل دائرة الوضوح بعد شهرين عندما أزالت هنغاريا سياج الشريط الشائك عند حدودها مع النمسا، وأمرت الحراس بعدم إطلاق النار على من يريد العبور. وبعد ذلك بأشهر سقط جدار برلين، وبعد سنتين تفكَّك الإتحاد السوفياتي وإن يكن بأقل عدد من الصور التذكارية. وقبل أن ينتهي العقد الثامن من القرن العشرين، غدا فيكتور أوربان، أحد الطلاب الثائرين المعتدلين الذين تظاهروا العام 1986، رئيس وزراء هنغاريا.

 

هل اضطلعت كندا بدور؟

في إستعادة للأحداث يبدو واضحًا جدًا بعض الأمور التي كانت تبدو لغزًا محيِّرًا. وعندما احتفلت ألمانيا وأوروبا الغربية بالذكرى العشرين لسقوط جدار برلين إنبرى الكنديُّون والأميركيون لينسبوا الحدث إلى أنفسهم. أبرزوا الفخر بدور دولتيهما مشتركتين في صنع الأحداث التاريخية التي طبعت الجانب الآخر من الأطلسي. وهذا ما برز في ادعاء مؤرخين، من خلال شراكة فريدة ووثيقة بين رئيس الوزراء الكندي بريان مولروني ورئيس الولايات المتحدة الأميركية جورج دبليو بوش، أن الأمتين تمتعتا بدور صامت في الفصل الحاسم من نهاية الحرب الباردة. وذهب الادعاء إلى حد القول إن هذين الرجلين أبحرا في بحر مائج وسط توترات وانفعالات كان يمكن أن تغرق العالم في أزمة في كل لحظة كما في إنهيار الإتحاد السوفياتي وهو ينظر بخوف إلى ألمانيا موحَّدة. لماذا كانت هاتان الدولتان الأميركيتان الشماليتان تبحثان عن أي دور لهما عندما تشكلت أوروبا. فمولروني، مثلاً، لم يكن يريد البتة هذا النوع من النقاش، «لن نؤجر موقعنا في أوروبا» قالها لبوش في حديث هاتفي يومذاك، و«إذا أراد الشعب أن يعرف كيف دافعت كندا عن مقعدها في أوروبا (مع الولايات المتحدة الأميركية على الدوام) فعليه أن يتحقَّق من المدافن في بلجيكا وفرنسا».

أما بوش فقد ظهرت مواهبه القيادية تمامًا قبل عشرين عامًا. ومع ذلك، إذا كُرِّم بوش أمام التاريخ من أجل أعماله في تشرين الثاني/نوفمبر 1989، حين كان يراقب سقوط الجدار، فلأنه قام بشيء نادر كسياسي: لقد حافظ على لغته المنمَّقة الجاهزة. في أكثر الأمم سياسة، الولايات المتحدة، كان بوش عرضة لنقدٍ قاسٍ بسبب عدم إعلانه النصر الأميركي والغربي. ويؤكد أصدقاؤه أن هذا الصمت الإرادي ساعد على تنسيق الجهود بين حلفاء الولايات المتحدة وأعدائها، وأثبت أخيرًا الخيار الصحيح في إدارة بوش الخطابية لسقوط جدار برلين واحتمال إعادة توحيد ألمانيا. لقد انتهت الحرب الباردة من دون معركتها النهائية التي كان يجب ان تخاض.

 

من يستحق الفضل؟

في الجدال حول من يستحق الفضل في التسبُّب بانهيار جدار برلين ليل التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 1989 يمكن ذكر عدة أسماء عظيمة ومتواضعة في آن:

غانتر شابوفسكي، الناطق الرسمي المرتبك باسم اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية، الذي أعلن في مؤتمر صحافي حي عُقِدَ مصادفة أن القيود المفروضة على السفر يجب أن تُرفَع فورًا. أما ميخائيل غورباتشوف فأوضح أن على الإتحاد السوفياتي ألا يقمع بعنف قوة الشعب في الدول الدائرة في قلكه كما جرى في العقود الاخيرة في تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا. وهناك أبطال حركة التضامن البولونية، وليس أقلهم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، الذين فعلوا الكثير للكشف عن الإفلاس المعنوي للشيوعية. يضاف إلى هؤلاء رونالد ريغن الذي آمن بأن عمل الدبلوماسية الغربية كان حشد الموارد المعنوية والسياسية والإقتصادية والعسكرية ليس لإحتواء الكتلة السوفياتية وحسب وإنما لتغييبها. ولقد قال العام 1982 إلى المندهشين والساخرين من انتقاداته «ما أصفه الآن هو مخطط وأمل، لأمد طويل، للمسيرة نحو الحرية والديمقراطية التي ستترك الماركسية - اللينينية في مزيلة التاريخ». واليوم هناك شجاعة الأمل.

جميع هذه الوجوه اضطلعت بدورها كما فعل جيل سابق من الزعماء الذين أكَّدوا أن على الغرب واجبًا معنويًا هو الدفاع عن بقعة صغيرة من الحرية في برلين. وقد استوجب أمر إملاء هذا الواجب ثمنًا باهظًا حيث سقط واحد وسبعون عسكريًا بريطانيًا وأميركيًا خلال عملية جسر برلين الجوي. وهذا ما دفع، ويا للسخرية، بالكثير من السياسيين البراغماتيين إلى البحث عن أفضل السبل لإقامة أفضل العلاقات مع السوفيات. وعلى الرغم من كل هذا، فكَّر بعض جنرالات حلف الناتو في أن الدفاع عن برلين يعرِّض، من غير حاجة، قواتهم لوضع عسكري متعذَّر الدفاع عنه في حين يمنح الروس فرصة ابتزاز الغرب في وقت كانوا يتقدَّمون على أرض أكثر حيوية إستراتيجية، وبخاصة كوبا.

حتى إذا كان الألمان الغربيون في برلين يظهرون أي شيء فلأن للتعهد المعنوي أسلوبه في كسب الحصص الإستراتيجية. فبتنظيمه الجسر الجوي العام 1948 أنقذ هاري ترومن مدينة تموت جوعًا، وتحدَّى الضغط السياسي السوفياتي. وكذلك كان مهمًا إظهاره أن الولايات المتحدة الأميركية لا يمكنها أن تترك أوروبا لغضبها كما كانت بعد الحرب العالمية الأولى، وهذا ما ساعد على تمهيد الطريق أمام إنشاء حلف شمال الاطلسي في نيسان/أبريل 1949.

مع المحافظة على السبات والإستقرار خلال أربعين عامًا حوَّل ترومن وحلفاؤه من الرؤساء الأميركيين ما كان يفترض أن يكون النقطة الأضعف في الحلف الأطلسي إلى الأقوى. ولمعرفة ما كان يناضل الغرب لأجله خلال معظم تلك السنين، ما على المرء غير الذهاب إلى برلين والنظر إلى الجدار، والتأمل في مبتغاه، فيلاحظ التناقضات بين الازدهار النابض بالحياة والنشاط في ناحية من المدنية وانتظام الظلم في الناحية المقابلة.

هذه التناقضات كانت أكثر بروزًا وبشكل تام للألمان الواقعين في فخ الطرف الآخر من الجدار: سياج الأسلاك الشائكة المؤذية والمناطق العسكرية المقفلة وجهاز الدعاية الشيوعية جميعها تحفظ ازدهار الغرب بمنأى عن أنظار سواد الشعب الساكن شرق الستار الحديدي. ولكن هذا الأمر ما كان صحيحًا لسكان برلين الشرقية حيث ما كان على العديد منهم غير النظر من نوافذهم ليفهموا كم هي فارغة ومتشائمة وعود الاشتراكية مقارنة مع حقيقة النظام الاقتصادي الحر.

مع ذلك جدير بالذكر أن هذه الحقائق السياسية الجليَّة كانت غامضة للعديد من الذين كانوا يعيشون في الحرية وكانوا مخدوعين. وقال دان راذر لقناة «سي بي إس» قبل سنتين من سقوط الجدار «على الرغم مما يفكر به العديد من الأميركيين، لا يحن معظم السوفيات إلى الرأسمالية أو الديمقراطية الغربية النمط». وعندما ألقى ريغن خطابه التاريخي في برلين داعيًا السيد غورباتشوف إلى هدم هذا الجدار، فعل ذلك بعدما نبَّهه بعض كبار مستشاريه إلى أن اللغة كانت «غير رئاسية»، وبعدما سار آلاف المتظاهرين اعتراضًا عبر برلين الغربية.

 

قصة شخصية جانبية

في ما يتعلق بالقصة الآتية لاحظ البعض أن العامل التاريخي الحاسم يتوقَّف على قوة دافعة. إنها قصة هارالد جيجر، الضابط السابق في حرس الحدود في إلمانيا الشرقية، والذي فتح في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1989 الباب في تاريخ شارع بورنهولمر في برلين منهيًا بذلك الحرب الباردة. واليوم وقد بلغ السادسة والستين من عمره إنكفأ حديثًا إلى مدينة صغيرة بالقرب من برلين حيث ينصرف إلى زراعة حديقته. إلتقاه مراسل صحافي قبل عدة أسابيع من احتفال العام 2009 وكان يرتدي قميصًا أزرق ونظارات ذهبية الإطار: شخص عادي المظهر، أشيب الشعر، صادق النظرة. لم يكن مدعوًا إلى احتفالات العيد العشرين المدروسة ولكنه لم يحمل أي حقد أو مرارة حيث قال للمراسل «بكلمة موجزة كانت لحظة سعيدة».

منذ عشرين عامًا، واجه هارالد جيجر حشدًا متزايدًا من البشر، مدافعًا عن حدودٍ كانت حياته، عالمًا أن رسميًا رفيع المستوى (غانتر تشابوفسكي) كان قد قال إن على الإلمان الشرقيين أن يتنقَّلوا «من دون الخضوع للتدابير الخاصة». وغير قادر على الحصول على أوامر واضحة من رئيسه، مضطربًا، وحيدًا، و بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً أعطى الأمر بفتح البوابة. بماذا أحس حينذاك؟ أجاب المراسل «كنت أتصبَّب عرقًا وقدماي ترتجفان. كنت أدرك على ماذا أقدمت. علمت فورًا. قُضِيَ الأمر، فكرت، ألمانيا الشرقية انتهت».

لم يكن جيجر يهدف إلى إنهاء دولة. خلفه تنتصب قوى عظمى. البابا يوحنا بولس الثاني، ليش فاليسا، وبولونيو التضامن الأبطال، إنهيار الإقتصاد السوفياتي، وقول رونالد ريغن «إهدموا هذا الجدار»، رفض غورباتشوف إتباع درب تيان آن مين، الهيجان المتعذر كبحه، الأرواح الأوروبية اللا معدودة المأسورة في يالطا...

 

كم جدير بالملاحظة سقوط الجدار؟

العام 1989 كان الأعظم في تاريخ العالم منذ العام 1945. على مستوى السياسة العالمية غيَّر كل شيء. لقد قاد إلى نهاية الشيوعية في أوروبا والإتحاد السوفياتي والحرب الباردة والقرن العشرين الصغير جدًا. لقد شرع الباب أمام توحيد ألمانيا واتحاد أوروبي غير مسبوق في التاريخ يمتد من لشبونة إلى تالين، وتوسيع حلف الناتو، وعقدين من التفوق الأميركي والعولمة ونهوض آسيا. والشيء الوحيد الذي لم يغيِّره كان الطبيعة البشرية. العام 1989 إقترح الأوروبيون نموذجًا جديدًا للثورة المخملية اللاعنفية، معترضين على مثال العام 1789 العنيف، الذي كان، لقرنين، ما يفكر به الكثيرون «كثورة». وبدلاً من الخصومة والعدوان قدَّموا قوة الشعب والمفاوضات حول طائرة مستديرة.

مع التخلِّي المثير لميخائيل غورباتشوف عن استعمال القوة (مثال حي عن أهمية الفرد في التاريخ) تلاشت نهائيًا، وفجأة وبكل هدوء، إمبراطورية نووية التسلّح كانت تبدو للكثير من الأوروبيين باقية ومنيعة كما جبال الألب، لأنها، من جملة الأسباب، كانت تملك أسلحة الدمار الشامل. ومع ذلك، وكأن هذا الأمر كان، بطريقة أو بأخرى، جيدًا جدًا ليكون حقيقيًا.

مثل هذه السنوات يأتي مرة أو اثنتين فقط في حياة جديدة. فالعام 2001، عام الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من شهره التاسع (أحداث أيلول) كان بالطبع، أيضًا، عامًا عظيمًا آخر أكثر من الكل لأنه حوّل أفضليات الولايات المتحدة في العالم ولكنه لم يغيّر قدر ما فعل العام 1989. وكما أثرت الحرب الباردة حتى في أصغر دولة أفريقية جاعلة منها بيدقًا محتملاً في لعبة الشطرنج العظيمة بين الشرق والغرب، كذلك أثرت نهايتها في كل شخص. وكان بعض الأماكن، مثل أفغانستان، منسيًّا مهملاً من واشنطن بما أنه ما كان ذا أهمية في السياق العالمي مع الاتحاد السوفياتي السابق. ولكن المجاهد الإسلامي قام بواجبه، وبإمكانه التنقل خارجًا. باستثناء أن ثمة مجاهدًا يدعى أسامة بن لادن له أفكار أخرى.

إن قلب العالم العام 1989 كان أوروبا ما بين الران والأورال، وهنا تغيّر الكثير. فكل دولة من جيران بولونيا هي اليوم مختلفة عما كانت عليه العام 1989. وفي الواقع، العديد من الدول والقليل تمامًا من الحدود في أوروبا الشرقية هي الآن أكثر حداثة من أخرى في أفريقيا، وكذلك تحوّلت التجربة الشخصية لكل رجل وامرأة وولد خارج كل تمييز. البعض اقترح أن العام 1989 كان الأفضل في التاريخ الأوروبي. إنه ادعاء جريء، والقرَّاء مدعوون إلى الإشارة إلى عام أفضل. وبعد عقدين، بدا العام 1989، في بعض الأحيان، مثل وردة معمّرة جدًا في آخر إزهار متأخر لها. ومذ ذاك أقدمت أوروبا على قضايا كبيرة مثل: توسيع الاتحاد الأوروبي، توحيد العملة الأوروبية المتداولة (اليورو)، تطوير أوسع اقتصاد في العالم. وعلى الورق، تبدو أوروبا جيّدة، بيد أن الواقع السياسي مختلف تمامًا.

 

أفكار إضافية

كان العالم منذ سقوط جدار برلين في حركة صاخبة، وقد قادته مجموعة عوامل إلى هذا التسارع في التقدم الدائم إلى الأمام. فسقوط الجدار حفز الأحداث العالمية في طريقة الخطى المتسارعة غير المسبوقة التي جذبت في سياقها تغييرات جيوبوليتيكية ضخمة استطاع القليل تصّورها خلال السنوات الأخيرة من الحرب الباردة. وأعلنت مادلين أولبرايت في وصفها لتأثير تحطيم جدار برلين أن في ذلك النهار الحاسم «تغيّر كل شيء في غمزة عين تاريخية».

كل تغيير حفز، على ما يبدو، تغييرًا آخر أيضًا، حتى نقلت مجموعة من التغييرات المتسارعة باطراد والحاصلة في عقدين فقط، ألمانيا من كونها أمة منقسمة، كان ذات يوم رمزها حاجزًا كريهًا من الباطون المسلّح قسّم عاصمتها زمن الحرب، إلى القوة الأكبر اقتصاديًا وسياسيًا، والمهيمنة على قوة عالمية جديدة هي الاتحاد الأوروبي. والأكثر معنى أو مغزى كذلك هو أن أول صدع في جدار برلين كان النذير بانهيار التحالف الذي كان يجمع معّا القوى الأوروبية طوال أربعين سنة أعقبت الحرب العالمية الثانية.

إن سقوط جدار برلين أطلق بداية إعادة انتظام العلاقات الألمانية الدولية، فمن توجهها إلى ما وراء الأطلسي في إبان الحرب الباردة، إلى انتظام أورو آسيوي أكثر فأكثر. وقد ميّز سنوات المواجهة بين النظامين الحلف الاقتصادي المغلق مع الولايات المتحدة. ولكن منذ الاضطرابات بين العامين 1989 و1991 اتجهت الأعمال الألمانية شرقًا بدرجة متزايدة. واليوم، بلغ حجم التجارة بين ألمانيا وأوروبا الشرقية إلى 3.7 بليون يورو سنويًا، أي ما نسبته %17 من التجارة الألمانية الخارجية في حين كان حجم التجارة بين ألمانيا والولايات المتحدة يهبط إلى 117 بليون يورو أي بحدود %6.5. كانت عين ألمانيا مركَّزة بشكل خاص على مصادر الطاقة الروسية التي كانت الشركات الألمانية، في غضون ذلك، قد استطاعت الوصول المباشر إليها. ولبعض الوقت، استعملت برلين ثانية هذه الوسيلة في الشؤون الاقتصادية من أجل سياستها التقليدية المتأرجحة بين الشرق والغرب. واقترحت قوى مناهضة للأميركيين، وبكل صراحة، تحالفًا مع روسيا.

ولكن ليس تصدّع الحلف الأطلسي وحسب ما أحدثه انهيار جدار برلين.

ما إن وحّدت ألمانيا بشق النفس، الشرق والغرب، حتى كانت أول مبادرة لها في السياسة الخارجية كأمة موحّدة بعد سنة، وبكل صراحة، أن تمزق تباعًا الجمهورية اليوغوسلافية الكاملة باعترافها بكرواتيا وسلوفينيا كدولتين منفصليتين عن الاتحاد اليوغوسلافي الكبير. وهذا سبّب حروب البلقان غير القانونية، التي كانت مفاعيلها جمع دول البلقان تدريجًا داخل الاتحاد الأوروبي المهيمنة عليها ألمانيا كأولى المستعمرات في الاتحاد الإمبريالي.

وكانت النتيجة الإضافية لحروب البلقان إعادة إطلاق العسكرية الألمانية في القتال. فمذ ذاك، أسالت البحرية الألمانية الدماء عند سواحل الصومال، ومؤخرًا اشتبكت القوات الألمانية المقاتلة مع الطالبان في أفغانستان في معركة حامية الوطيس. ثم، وقبل أيام من الاحتفالات التي طبعت ذكرى الحدث الوحيد الذي حفز توحيد ألمانيا، كسر وزير الدفاع الألماني بارون كارل تيودور زوغوتنبرغ محرّمًا قديمًا جدًا عندما أكد أن ألمانيا كانت حقيقة في حالة حرب مع أفغانستان. وكانت هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها تعبير «حرب» لوصف دور ألمانيا القتالي بعد الحرب الثانية.

إن سقوط جدار برلين أحدث تغييرات ضخمة في النظام العالمي وهو اليوم مسألة التاريخ المسجّل. وما كان أحد قادرًا على توقع أن تغدو هذه الأحداث حقيقة اليوم عندما كانت ألمانيا تحت الرماد لأكثر من 65 عامًا. وإن كان ثمة نبوءة واضحة فيمكننا أن نشير إلى ما أكده هربرت أرمسترونغ، مرة تلو الأخرى، حين قال إن ألمانيا ستقوم من بين رماد الحرب لتحكم أوروبا مرة أخرى وترأس قيامة سابعة نهائية للأمبراطورية الرومانية القديمة المقدّسة.

إن تسمية وزير الدفاع الجديد، كارل تيودور زوغوتنبرغ (الاتحاد الاشتراكي المسيحي) أطلقت عاصفة من الحماسة بين الضباط الألمان، عشية قسمه اليمين وإلقائه كلمة في موظفي وزارة الدفاع. لقد رحَّب المجتمع العسكري بغوتنبرغ كواحد منه. وكان للقبه النبيل ولتقليد عائلته الارستقراطية منذ 800 سنة دور كبير في استجابتهم. ويشق كثيرًا أن تجد دولة أخرى في العالم ما يزال تأثير الطبقة الأرستقراطية في الجيش، كما في باقي قطاعات المجتمع، كبيرًا كما في ألمانيا حيث النخبة الارستقراطية أدت دورًا كاسحًا في التاريخ الألماني. ومع ذلك، تبقى الذكرى العشرون لسقوط جدار برلين المَعلَم في إحياء القوة الألمانية.

 

Bibliography
كتِب هذا المقال استنادًا إلى الكتب والمقالات الآتية:
-    Michael Meyer, “The unanswered phone calls and misunderstood memos that helped bring down the Berlin Wall”
-    Peter Beinart, “The Myth of the Wall’s Fall”
-    Joseph S. Nye, Jr., “Who Caused the End of the Cold War?”
-    Joshua Stanton, “Berlin at 20... Neither Impossible Nor Inevitable”
-    Mitchell Koss, “Hungary was the first rip in Iron Curtain”
-    Fouad Ajami, “Walls... From Berlin to Baghdad”
-    http://hnn.us/articles/41637.html
-    James McGrath and Arthur Milnes, “As the wall fell, Mulroney and Bush manoeuvred”
-    Rudy Giuliani, “Ronald Reagan’s unyielding style won the Cold War”
-    Anthony R. Dolan, “The Power of Reagan’s Four Little Words”
-    WSJ Editorial, “From Truman to Reagan, the benefits of moral clarity”
-    Timothy Garton Ash, “1989 changed the world. But where now for Europe?”
-    James A. Baker III, “Why the Wall Fell”
-    Peter Beaumont, “Mikhail Gorbachev – the forgotten hero of history”
-    MRC Editorial Report, “Whitewashing the Communist Record on Human Rights”
-    Roger Cohen, “The Hinge of History”
-    Niall Ferguson, “1979 Trumps 1989 in Significance”
-    Kenneth Weisbrode, “The False Promise of 1989”
-    Joshua Keating, “Today’s Berlin Walls”

Fall of the Wall of Berlin: Evaluations and impressions


The year 1989 still haunts the memories. The fall of the Wall of Berlin on the 9th of October 1989 declared thus a new beginning. The 20th commemoration of this historic moment drives us to think deeply of an extraordinary event and to draw the incumbent lessons.
Despite the wars that broke out between the European Nations during the 20th century we notice nowadays that these nations that these same nations are still collaborating among them on the political, economic and historic levels.
The obvious tension rising between Moscow and Washington in addition to tensions between Moscow and a number of the ex Soviet Union nations didn’t prevent the presence of a certain level of collaboration and cooperation. However, it is totally natural not to neglect the importance of the incidents which occurred in 1989.
With the fall of the Wall of Berlin the Cold War between Communism and Capitalism came to an end and therefore it is unnecessary to mention once more that the capitalist regimes won this war with the unification of the Federal Republic of Germany and the German Democratic Republic in one country.
20 years later, a considerable number of researchers elaborated the following question: the victory of Capitalism, has it been a good outcome?

La chute du mur de Berlin : Evaluations et Impressions


L’année 1989 est toujours vivace dans les mémoires. La chute du mur de Berlin le 9 Octobre 1989 annonce alors un nouveau départ. La 20ème commémoration de ce moment historique nous amène à réfléchir intensément à un évènement extraordinaire et à en tirer les leçons qui s’en imposent.
En dépit des guerres menées par les nations européennes les unes contre les autres au 20ème siècle mais elles collaborent ensemble aux échelons économique, politique et historique. Les tensions palpables entre Washington et Moscou, ainsi qu’entre la Russie et certains Etats de l’ex URSS, une certaine collaboration existe. Il est toutefois naturel de ne pas négliger l’importance que revêtent les incidents de l’année 1989.
Avec la chute du mur de Berlin, la guerre froide entre le communisme et le capitalisme s’est disséminée. Il n’est alors pas nécessaire de rajouter que le capitalisme en est sorti vainqueur lors de l’unification des deux Allemagnes.
20 ans après cet évènement, multiples chercheurs ont élaboré la question suivante : la victoire du capitalisme est-elle une bonne chose ?