ثقافة وفنون

سلام الراسي
إعداد: وفيق غريزي

منهجية محببة في إحياء التراث الشعبي

 

سلام الراسي, هو أحد أبرز الذين تعاملوا مع عفوية الناس وبساطتهم, أمثالاً وعادات وتقاليد, وسكبها في قوالب قصصية رائعة, ولقد أحيا التراث اللبناني الشعبي قبل أن يندثر أو تطاله يد النسيان, ليكون زاداً معرفياً للأجيال الحاضرة والمقبلة.
نشأ شيخ الأدب الشعبي سلام الراسي, في رحاب الجنوب (إبل السقي) مؤمناً بقدرات الأجيال الجديدة على تخطي المعوقات المتراكمة, متجاوزاً ما أصابنا من قلق وإحباط وخيبة أمل, ساعياً في كل نتاجه الأدبي الى رسم موقف رؤيوي عبر التراث, ليؤسس خيارات وطنية تسهم في تماسك بنية المجتمع اللبناني, عن طريق نشر ثقافة وطنية.

 

أدب العجائز

كان الأدب الشعبي قبل أن يحتضنه سلام الراسي قبل ستين عاماً ونيّف, أدب العجائز حول مواقد الشتاء, تتسلى الجدّات بسرد الحكايات على الأحفاد ليناموا. وثمة إنسانة زرعت في نفس شيخنا حب التراث منذ الصغر, بما له من دور وطني, وأهمية حضارية كبيرة, كونه يشكل مرآة لتقاليدنا العريقة التي تجمع ولا تفرّق. فحين كان طفلاً علمته أمه أمثالاً عدة منها: “الجار قبل الدار” و”الرفيق قبل الطريق” و”أطلب الخير لجارك تجده في دارك”. هذه الأمثال انزرعت في رأسه وتربّت نفسه بمدلولاتها الإنسانية. ومنذ ذلك الزمن وحتى آخر أيامه, لم تقوَ ثقافة أخرى على الحلول محل الثقافة الشعبية لديه, والتي انعكست في ممارساته الحياتية.
وكان هناك عدد كبير قد سبقه في هذا المجال منهم, الدكتور أنيس فريحه, وجريس المقدسي, ولحد خاطر وجوزيف نعمه وكمال ربيز. ولكن الراسي تميز عنهم جميعاً, وما يميّزه عن سابقيه هو أنه كتب حكايات لم يكتبها أحد قبله, ومعظم هذه الحكايات من إبداعه وتأليفه, حمّلها مدلولات تراثية شعبية, تنطلق على ألسنة أشخاص من بيئته الريفية.
ولا بد من الإشارة هنا, الى أن الإمكانية المتاحة للتعرّف بالتراث الشعبي وبثقافاته, ليست سهلة, كما يعتقد البعض, فالجذور كما الفروع, هي حصيلة الإرث الموروث من أجيال متصلة متواصلة, وقد حصل لها الكثير من التحولات والتبدلات, بحيث نجد إستحالة في متابعة بدايات هذا التراث والإضافات التي حملها والتحولات والتبدلات التي عرفها.

 

منهجيته

تعب سلام الراسي كثيراً, في جمع الموروثات الشعبية, من القرى والبلدات اللبنانية, فقد كان يجوب القرى والأرياف متكئاً على عزمه وعصاه, وزوّادته أُذن ويراع وجعبة. أذن تلتقط ويراع يثبت, وجعبة تكنز وتختزن. حقاً لقد أمضى الراسي حقبة طويلة من حياته يجمع ويخزن في جعبته كل ما يلتقط من حكايات وأمثال وعِبَر شعبية عن ألسنة العجائز. وفي كل هذا رأى ثروات تراثية فخاف عليها, لئلا تضيع.
ومنهجيته, تشكل نمطاً آخر من منهجيات البحث في الثقافة الشعبية, التي سلكها سابقوه, ولم يحرزوا النجاح والشمولية اللذين أحرزهما هو, فمنهجية الراسي اعتمدت على إبراز العبرة وإيصالها الى الناس عن طريق الحكاية الشعبية, التي أثبتت أنها النمط الأكثر وضوحاً والأسهل وصولاً الى قلوبهم وعقولهم, لأنها تُسرَد بلغتهم اليومية ومفاهيمهم المحكية, ومنها تُستخلص العبر والمآثر الشعبية. وللراسي نظرة خاصة لمعنى الوطن, فالوطن لديه ليس الحجر والشجر, بل الناس الذين يجمعهم به تراث مشترك, ولهذا قال:

 

“لا السهل والوديان والجبل       وطني ولا الأنهار والسبل
كلاّ ولا الأطلال, بل وطني          الناس ما قالوا وما فعلوا”

 

لقد كشف الراسي النقاب عن التراث الشعبي, المخزون في الذاكرة الجماعية, والمرتبط بفن الإلقاء والتصرّف في العلاقات وبالحالة النفسية, لما لهذا كلّه من علاقة بالعادة والتقليد.
إن اهتمامه بالتراث الشعبي, بما يحتويه من حكمة أسلافنا, ومن صور لتجاربهم وعلاقاتهم, قد أفادنا لا في كيفية فهمنا لهذا التراث فحسب, بل في كيفية استيعابنا وتعاملنا معه. فاتساع عالم التراث الشعبي وتعددية أنماطه وصلته الوثيقة بأسلوب حياة أجدادنا, وبطريقة تفكيرهم, وبأساليب تعبيرهم, وكيفية رؤيته في ذاته, يتيح إمكانية تمييزه عن التراث العقلي, بما هو تراث يسقط منه الكثير, ويُضاف إليه الكثير, وتجدّده إضافات الأجيال.

 

التراث الشعبي والأمة

لقد آمن الراسي, إيماناً عميقاً, بأن ما من أمة تعتز بذاتها, وتحرص على أصالتها, وتطمح الى أن يكون لها شأن بين بقية الأمم, إلا وتبذل قصارى جهدها في رصد المكونات التقليدية والمظاهر الشعبية من ثقافتها وتوثيقها ودراستها. هذه المكونات والمظاهر هي بمثابة الخيط الحضاري الذي ينظم عقد الأجيال عبر القرون, والسداة التي تلتحم من خلالها مختلف فئات الشعب صفوفاً متراصة وحلقات مترابطة من التلاحم والتواصل. مأثورات الوطن هي الروح التي تعيش بها الأمة, والسمة التي تميزها, ووجهها الذي تطل به على العالم.
فالتراث الشعبي كما فهمه الراسي, بالنسبة الى الشعوب, كالهواء والماء بالنسبة الى الإنسان. أرضية من المصالح والأحلام والحالات النفسية والثقافية.. فالعادات والتقاليد التي نتابعها من خلال هذا التراث, ومن خلال الواقع, أرضية نرسم عليها صوراً من التكامل والإعتراف بالآخر وبالتعددية والتنوع الذي يعرفه التراث وحاملوه, وبذلك وحده نضع أسساً أولية للخروج من دائرة التشابه والتماثل وفق قول فرحان صالح.
أعطت العادات والتقاليد الشعبية للإنسان بعضاً من الأمان, ومن خلالها يتم رسم الكثير من السلوكيات ذات القيم الأخلاقية المتحوّلة والمركبة التي تتكيف مع العصر ومع حاجات الإنسان. وأثبت الراسي أن الحكاية الشعبية لم تزل تلعب دوراً مهماً في تكوين الذاكرة, سواء من الناحية التاريخية, أو العقائدية, أو على صعيد التقليد والسلوك.
والأدب الشعبي وفق مفهوم الراسي, هو الوعاء الذي يحتضن وجدان الأمة وشخصيتها, ولا يمكن الإحاطة بثقافة الشعب إلا من خلال إبداعاته القولية, فهي الطريق الموصل الى الفهم الصحيح, والإستيعاب الشامل لهذه الثقافة. إن في أدبنا الشعبي رصداً دقيقاً وتقويماً شاملاً لتاريخنا الإجتماعي والثقافي.

 

ما هي الثقافة الشعبية؟

تؤكد قناعات شيخ الأدب الشعبي سلام الراسي, أن الثقافة الشعبية هي ثقافة إنسانية متواصلة عبر الذاكرة الأدبية للناس وتقوم على الفطرة والعفوية والمصادفة والخبرة الحياتية المعاشة والتجارب, إنها “الضيعة” بكل أزمنتها وأمكنتها, ففي كل لحظة من عمر الزمان كان الناس يسجلون بصماتها الأدبية فوق أوراق المكان.
فالثقافة كمـا يراهـا الراسي, قبل أن تكون حاضراً يحلم بالمستقبل, كانت ماضياً يلهم الذاكرة, فمن لا ذاكرة له لا يأمل بأي مستقبل. لأن عملية تحصين الماضي, إن لم تتدعم بالذاكرة إستحال الآتي وانتحر الحاضر. وفي هذا المجال قال الراسي: “الثقافة الشعبية هي منظومة للعادات والتقاليد والحكايات والأمثال والحكم والأشعار الزجلية وغيرها, وكل النتاجات الفكرية التي صارت مع الأيام تراثاً فاعلاً متفاعلاً, توقّد في الأمس, ويتوهج الآن, ويعدنا بدفئه غداً”.
وأهم سمة تميز الأدب الشعبي الذي قدمه لنا الراسي, هي الشيوع والإنتشار, مما يجعل صرف الناس عنه أمراً مستحيلاً. الحكم الشعبية والأمثال العامية “ميكروبات” مجهرية تنتشر في الجو وتبقى عالقة فيه, نستنشقها مع الهواء, ويعدي بها بعضنا بعضاً دون أن نراها أو نشعر بها. فهي تسري في المجتمع سريان الدم في العروق, وتجري منه مجرى النفس. ومهما تحرّج البعض من الإنتماء الى بعض مظاهر الثقافة الشعبية, ومضامين الأدب الشعبي, فإنها تبقى جزءاً من تاريخنا الثقافي والاجتماعي الذي لا يمكن الإنسلاخ عنه.
كان لبنان بنظر الراسي يحيا الحياة الشعبية ويعيش الحالة الشعبية, والأدب الشعبي عندنا في أغلب الأحيان يحل محل التاريخ وهو إنعكاس لواقع الحياة اليومية وأحداثها المعاشة. ومن خلال كل ما قدّمه لنا سلام الراسي, نجد المدخل الصحيح لاستكشاف معالم شخصيتنا.
وهذه المعالم, التي حددتها شروط تاريخية ووضعيات ديموغرافية, وتراكمات حضارية, وخصوصية المكان والموقع الجغرافي هي ذات أبعاد موغلة في القدم, كما أنها ذات خصوصية اجتماعية وثقافية وسياسية حديثة ومعاصرة. ولقد كانت المؤلفات التي وضعها شيخ الأدب الشعبي محاولة نموذجية للنظر الى ملامح الشخصية اللبنانية في التراث الشعبي, لتقديم الصورة الواقعية والحقيقية عن التركيبة الحضارية والمكانية التي عملت على تكوينها, لإتساع عالم الموروثات وعراقته وتعدّد أنماطه, وكثرة التحولات أو المؤثرات التي تعرض لها. كان لسلام الراسي الأيادي البيضاء في إحياء التراث الشعبي.