متاحف في بلادي

سلوفتسكي
إعداد: جان دارك أبي ياغي

ربيع لبنان أجمل ربيع رأيته في حياتي

متحف يخلد ذكرى أحد أكبر شعراء بولونيا ورمز نضالها ضد الاحتلال


شاعر قصفه الموت ولم يكمل ربيعه الأربعين، ورغم عمره القصير، ترك آثاراً تجعله اليوم من أكبر شعراء بولونيا. انه يوليوش سلوفتسكي، الذي مرَّ بأرضنا، وأحبَّها. فقد جاء الى لبنان في شباط 1837، وغادرها في تموز، متذوِّقاً من عندنا، باعترافه في رسائله الى أمه، ربيع لبنان وأصالة شعبه وطيب مناخه.
في دير غزير، تصومع أياماً هنيئة وليالٍ عذاباً، وفي واحدة من قِليَّاته المباركة، تنسَّك ستة أسابيع انخطافية، وكتب جُلَّ رائعته الشعرية الخالدة "أَنْهِلِّي".
انه شاعر الدياسبورا البولونية، ورمزُ أمّة حين تشرّدت، لم تحمل معها الأرض والشجر، بل عوَّض لها الغيابَ شاعرٌ حمل في شعره صرخات الغضب، وأشعل في أبناء بلاده اللاجئين المشردين روح الثورة، ونبضَ المقاومة ضدّ الاحتلال. فهو في بلاده من رموز المقاومين والثوار.
لبنان تذكّر الشاعر البولوني يوليوش سلوفتسكي وكرّمه بإقامة متحف شخصي له في دير مار انطونيوس في غزير.
فبمناسبة مرور 150 عاماً على غيابه احتفلت لجنة الأوديسيه بالاشتراك مع السفارة البولونية في بيروت، بافتتاح المتحف الشخصي للشاعر البولوني يوليوش سلوفتسكي، وذلك بإزاحة الستارة عن اللوحة التذكارية على باب غرفة خصصت له من دير مار أنطونيوس في غزير (مقر الرئاسة العامة للرهبانية اللبنانية المارونية) الذي كتب فيه رائعته الشعرية الخالدة "أنهلِّي" خلال زيارته الى لبنان عام 1837. "الجيش" زارت المتحف وعادت بهذا التحقيق الذي يضيء على حياة وأعمال أكبر شاعر زار لبنان بعد لامارتين.



متحف "سلوفتسكي"

عندما زار سلوفتسكي لبنان، قصد دير مار انطونيوس ­ غزير ­ بيت خشبو ­ الذي يقع على تلة من تلال غزير على علو 525 متراً عن سطح البحر. وقد خصص رهبان الدير، كما هي العادة، أفضل الغرف للشاعر الضيف خلال إقامته. ويحتوي الدير على 42 غرفة مختلفة الأحجام. وكانت غرفة الشاعر البولوني، التي تحوّلت اليوم الى متحفٍ تخليداً لذكراه، تشرق على خليج جونيه، تتطلّع الى الجبل، وتترقّب السهل من بيروت حتى جبيل، وتحكي لنا أمجاد هذا الدير التاريخي ومآثره. وفي رسالة الى والدته (14 حزيران 1837) كتب "سلوفتسكي" عن "دير خشبو" وعن الغرفة التي نزل فيها: "... ومن غرفتي في الدير يتناهى إليّ منظر البحر، طابعاً في عينيّ مشهداً لذاكرتي جميلاً لن أنساه...". وإذا كانت ذاكرة الشاعر البولوني حفظت صورة "دير خشبو" وجواره، فالدير، بعد 163 سنة، لا يزال يحفظ ذكرى شاعره ويخلّدها، ولذلك وضع لوحة على مدخل الدير كتب عليها: "في هذا الدير سنة 1837 ألّف الشاعر الشهير البولوني يوليوش سلوفتسكي روايته المشهورة أنهلّي إحدى روائع آداب اللغة البولونية".
الزيارة الى الغرفة ­ المتحف ­ تبدأ بقراءة لوحة أخرى سمِّرت فوق قنطرة المدخل. وللولوج الى داخل الغرفة يجب أن تنحني قليلاً، نظراً لإنشاء الغرف على طراز الهندسة المعمارية القديمة، قبل أن تطالعك لوحات زيّنت جدران الغرفة وهي تمثّل الأماكن التي زارها الشاعر خلال رحلته الى الشرق ومنها: مصر، سوريا، بعلبك، طرابلس ودير غزير حيث مكث 40 يوماً. وفوق عتبة الباب انتشرت صور أفراد عائلته: والده (أستاذ أدب)، والدته التي أحبّها كثيراً وكتب لها رسائل عدّة من لبنان، وأشخاص آخرين مقرّبين له. وفي زاوية من زوايا الغرفة ثلاث سجادات قديمة وثمينة تمّ إحضارها خصيصاً من بولونيا لتوضع في غرفة المتحف.

 

مَنْ هو يُولْيُوش سلوفتسكي؟

ولد يوليوش سلوفتسكي في 23 تموز 1809 في بلدة كشمينيتس البولونية (اليوم أوكرانيا)، متحدراً من أسرة عريقة في الفن والأدب.
كان والده شاعراً وناقداً ومترجماً وأستاذاً للأدب في بلدته، ثم أصبح بروفسوراً في جامعة "فيلنو" (اليوم عاصمة ليتوانيا).
توفي والده عام 1841 تاركاً ولده يوليوش في عهدة والدته التي اعتنت به عناية فائقة. كانت والدته سالوميا امرأة حساسة وعاطفية حازت على إعجاب الناس بعملها المنظم ومحافظتها على التقاليد والأصول.
في العام 1818 تزوجت والدته ثانية من البروفسور أوغست بيكو وقد أنشأت معه صالوناً أدبياً مرموقاً نال شهرة واسعة. ومن بين المترددين على هذا الصالون الأدبي مجموعة من رجال الفكر والأدب والشعر.
في هذا الجو الأدبي الرفيع نشأ سلوفتسكي وقد شعر منذ صغره بميله الى نظم الشعر، لكن والدته كانت تنصحه بالاهتمام بحقل آخر غير الشعر.
أنهى يوليوش في بلدته دراسته الثانوية وتابع في جامعتها دراسة الحقوق. وتعرّض الشاعر في هذه المرحلة لصدمتين: الأولى هي حبه الفاشل لابنة أحد الأساتذة الجامعيين، والثانية انتحار أحد أعز الأصدقاء لديه. وقد تركت هاتان الصدمتان أثراً كبيراً في شعره في ما بعد.

 

من الوطن الى الهجرة

عندما أنهى دراسته الجامعية، عمل في الإدارة الرسمية في الفترة الممتدة بين عامي 1829 و1831 لكن هذا العمل لم يشبع طموحاته وأحلامه.
تأثّر الشاعر في هذه المرحلة بشعر بيرون وشكسبير، فانصرف الى الكتابة والقصة الشعرية ليتخلص من أجواء الرتابة في عمله الإداري، فنظم "العربي" و"جان بيلتسكي" ومسرحية "ماريا ستيوارت".
في هذه الأثناء كانت وارسو تتحضر لانتفاضة تشرين في وجه الاحتلال الروسي لبولونيا. وقد ألهمت هذه الانتفاضة، عام 1830، وجدان سلوفتسكي، فاندفع للكتابة والنظم. وكان الشعر سلاحه في هذه الانتفاضة. ومن قصائده الوطنية في هذه المرحلة: "نشيد الحرية" و"كوليك".
بعد فشل الانتفاضة، حصلت الهجرة الكبرى الى الخارج ولا سيما الى باريس، وكان سلوفتسكي بين المهاجرين، فأقام في باريس مدة قصيرة نشر فيها قصائده الشعرية الأولى. وفي العام 1832 انتقل الى سويسرا وأقام في جنيف حتى العام 1836، وفي العام 1836 سافر الى ايطاليا.

 

رحلة الشاعر الى الشرق ووفاته في باريس

في آب 1836 بدأ رحلاته الى الشرق الذي ألهمه أروع القصائد. فقد زار سلوفتسكي اليونان ومصر وسوريا والأراضي المقدسة في فلسطين. تأثر الشاعر كثيراً بالحضارة اليونانية القديمة وأدهشته اهرام مصر، وفي الأراضي المقدسة استعاد أيام المسيح الأولى. وفي شباط 1837 وصل بيروت، لكنه لم يمكث فيها طويلاً فقد قصد الجبل وأقام في دير بالقرب من غزير.
قضى سلوفتسكي الأيام الأخيرة من حياته في باريس، وفيها مات سنة 1849 بعد أن اشتدّ عليه السلّ فانهارت صحته، وأخذ يبصق دماً باستمرار، ولم تَعُد الحمّى تفارقه. ومع ذلك ظلَّ يعمل يومياً في ملحمته الشعرية "الملك الروح" الى أن لفظ أنفاسه الأخيرة في 3 نيسان، ودفن في مقابر مون مارتر في باريس وهو لم يكمل ربيعه الأربعين. وفي عام 1927 نقل رفاته الى بولونيا ووضع في كاتدرائية فافل في مدينة كراكوف.

 

الشاعر في لبنان

جاء في كتاب "البولونيون ولبنان" (1953) للبروفسور ستانسلاف كوسيالكوفسكي (كتب مقدمته ميشال شيحا) أن سلوفتسكي، أحد أكبر شعراء بولونيا، أحبَّ لبنان كثيراً.
هو كتب من بيروت، غداة وصوله إليها، رسالتين الى أمه (في 17 و19 شباط)، قبل أن يختار لعزلته وراحته ديراً نائياً في بلدة غزير التي احتضنته ستة أسابيع حلّت بين أواخر الشتاء وأوائل الربيع، فكانت فترة جميلة من عرس الطبيعة طبعت الشاعر الرومنطيقي الشاب وأثّرت في كتاباته التي أنجزها خلال تلك الفترة.
وفي ذلك الدير ("الرابض فوق الغيم" كما قال في رسالته الى أمه) كتب ­ على الأقل في خطوطها وتصاميمها وأقسامها شبه النهائية ­ رائعته الخالدة "أنهلِّي" (النشيد الرمزي القومي) التي جعلته في رأس مواطنيه الشعراء، وقد نقلها الى العربية أمين دار الكتب اللبنانية، عضو لجنة الأونيسكو الوطنية عام 1948 يوسف أسعد داغر.

 

إقامته في غزير

في الفصل الثالث من كتاب "دير مار أنطونيوس ­ غزير ­ بيت خشبو ­ 1752­1995" للمطران يوسف محفوظ، جاء: "في العام 1837 وصل الى بيروت، الشاعر البولوني سلوفتسكي، ومنها صعد الى قصبة غزير وسكن دير مار أنطونيوس في محلة "بيت خشبو" ليعيش مع رهبان أرمن عانوا هم كذلك من مرارة احتلال بلادهم وظلم الطغاة وألم الابتعاد عن الأرض الأم. وفي هذا الدير عاين الشاعر البولوني ما يعيشه اللبناني على أرضه من استبداد العثمانيين وجَور الاحتلال المصري بعدما كان ابراهيم باشا زحف على المنطقة معلناً حربه ضدّ السلطنة العثمانية جاعلاً لبنان قاعدة لشن حملاته...
داخل هذا الدير كتب يوليوش سلوفتسكي أروع أعماله الشعرية متأثراً بطبيعة لبنان وبأهله، خصوصاً ان هذا البلد رغم آلامه وجراحه، رغم مصاعبه ومتاعبه، رغم أحزانه وويلاته، ظلّ سخياً مضيافاً لكل مهجّر ومشرّد...".
ويختم المطران محفوظ هذا الفصل الثالث من كتابه ب "يكفي فخراً دير مار أنطونيوس في بيت خشبو أنه استضاف أحد أعلام الأدب البولوني في القرن التاسع عشر، ومن على شرفته غنّى هذا الشاعر بلاده، فأتت أغنيته حلقاتٍ متماسكة من روائع الصور وبدائع الرسوم والظلال الخلاّبة".

تصوير: فادي بيطار


وصيّتي

معكم عِشت، تألمت وذرفت دمع عينيّ
وما كانت النفوس الشريفة لتخفى عليّ،
واليوم أترككم وأمضي مع الأرواح في الظلام البعيد،
أمضي حزيناً، كما لو كانت السعادةُ قِسمة الانسان
أنا ما تركت على الأرض وريثاً
لقيثارتي أو لاسمي
لقد انقضى اسمي مثل برق خاطف
وسيبقى نغماً حائراً عبر الأجيال
وأنتم يا من عرفتموني، اكتبوا عني
بأني ضحيت شبابي في سبيل وطني
وبينما كانت السفينة تعارك الأمواج،
بقيت وحيداً على الصارى
وعندما غرقت انحدرت معها الى الأعماق
وإذا فكرتم يوماً والكآبة تغمركم
بحظِ وطني الشقيِّ، سيشهد لي كل نبيل
بأني ما استجديت وشاح نفسي
بل كان يلمع بمجد أجدادي

إجتمعوا في الليل يا أصدقائي
واحرقوا في الصبر قلبي الشقي
ثم أعيدوا رماده الى من أعطتني اياه
تلك هدية الناس الى الأمهات:
أن يحملوا اليهن رماد القلوب
من غيري يرضى أن يغادر الأرض دون تصفيق
أن يحتقر الدنيا الى هذا الحد مثلي أنا
أن يكون قائداً لسفينة ملأى بالنفوس الكبيرة
وينطفئ في عذوبة مثل نفسٍ تغادر العالم

يوليوش سلوفتسكي

نقلها الى العربية الأب جورج حداد
طابقها مع الأصل البولوني
وأعاد تنقيحها د. منير عطاالله