الشاعر قائد شعبيّ

سليم مكرزل

مس الذي عبر، التقيت صديقتي الشاعرة في "ضيعة الضيعات"، بيت شباب، كما سمّاها فيلسوف الفريكة أمين الريحاني؛ أو "الرمّانة المقسومة قسمين" كما شبّهها الشاعر الرومنطيقي الفرنسي ألفونس دو لامرتين.
لم تمضِ دقيقة على اللقاء ­ المصادفة، وهو خير من ميعاد، حتى وصل الصديق نصري. هكذا دائماً عند لقاء الجميلات يحضر الأصدقاء الأعزاء. ونصري رصين حيّي، وصاحب مكتبة جعلها أصدقاؤه الكثر منتدى لهم يجتمعون فيه ويطالعون الصحف والمجلات مجّاناً.
قدّم إليّ الصديق الأديب كُتيّباً أنيقاً أصدره حديثاً، وهو يتضمّن مقطوعة طويلة رفيعة، قائلاً: "ليتنا نقرأها معاً، فهي لن تأخذ من وقتكما سوى دقائق معدودات".
واستأذن صديقتي الشاعرة فوافقت، عافاهما اللّه، وبدأنا القراءة التي استغرقت ربع ساعة فقط، برغم الصفحات المائة، والوقت المقتطع لإحصاء عدد النقط فيها بلغ 766 نقطة، عدا السهو والخطأ، وعلامات التعجب والاستفهام، ولم يكن بينها فواصل، لحسن الحظ.


لم يسع صديقنا نصري، بعد قراءة قصيدته، إلاّ أن يقول:
"لا أنكر أن هذه القصيدة ليست على أوزان الخليل، ولا هي من الشعر الحديث، كشعر أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة".
خفّفت عن الصديق نصري، فالتفت إلى صديقتي الشاعرة طالباً رأيها في القصيدة، فأثنت على المعاني والمباني وغراميّات صديقي البريئة، وما تخلّلها من دعابة ومبالغة مستحبّتين.
وقالت: "نحن (تقصد هي وأنا) من أنصار الكلام الجميل. وإذا تمّ هذا الشرط في الشعر الحديث أو المحدث، وفي كل نوع من الكلام، فإننا نعتبره شعراً جميلاً".
هنا ابتسم صديقي كأنه ربح الرهان، وقال موجّهاً كلامه إليّ:
"هذه القصيدة تُعبّر عن روحي بصدق، فهي مرآة جوهري".
رددت: جوهرك طيّب، يا صديقي، وأخطأ مَن قال: "أعذب الشعر أكذبه"، لأن هذا الزعم يزول عند التحليل العميق للتجربة الشعرية، ولأن الشعر، كما تفضلت، هو مرآة لجوهر الشاعر، ولا فرق بين الشاعر وشعره.
تدخلت صديقتي الشاعرة هامسة بصوت رخيم: "ولا ننسينّ أن الشعر يحتاج أحياناً، كما رأينا في قصيدتك، إلى نكات ومداعبات ومبالغة أحياناً لأنها تزيدهُ إيحاءً وتخيّلاً، وهي في مجال الشعر لطف، وهذا اللطف هو سرّ خروج الصورة الشعرية على الواقع المحدود، شرط ارتباطها، بخيط رفيع، بقلب الشاعر وروحه".


أضافت صديقتي:
"الدعابة الحلوة يجب ألاّ تصل إلى حدّ تزييف عالم الشاعر وإخراجه من عصره، أو تشويه حرارة معاناته".

 

وهنا سأل صديقي:

"والموهبة، أليست ضرورية للشعر؟".
أجبت: الموهبة ضرورية، ولكنها في حاجة إلى ممارسة وثقافة، فإنسان اليوم يجب أن يبتعد عن الأوهام والحيرة والقلق، فالثقافة توجّهه التوجيه الصحيح، وتلطّف ذوقه، وتُدمّث طباعه، وتُغنيه وتسمو به.


قال الشاعر قبلان مكرزل:

"إن معرفة المجتمع، تزيد تجربة الشاعر ثراءً وعمقاً، لأنه يطّلع على حاجات الناس وأشواقهم، ويتفاعل معهم فتُحرّك رؤياه في اتجاه الخلق والاستكشاف، إذ في إمكان الشاعر إضاءة الطريق أمام شعبه، وجعل حياتهم أجمل".
تدخّلت صديقتي الشاعرة قائلةً بنبرة أنثوية ثائرة: "حقّاً، لماذا يرغب بعضهم في شعر غير هادف؟ الشاعر يوجّه الشعب إلى غد أجمل وأرقى".


قال الصديق نصري:
"وما رأيكما في الذين يضربون على وتر: الفن للفن؟".


أجابت صديقتي الشاعرة:
"أولئك تخلَّوا عن شهامة الرسالة، وغرقوا في الحيرة واليأس والنظرة السوداء. بينما نفضل، نحن الشعراء، الذين طريقهم واضح".
أضفت: نحن في لبنان لا نمتّ إلى أولئك بصلة، نحن مستقبلنا واضح مشرق، رغم مخططات الأعداء. فنحن العرب علّمنا الأجانب الفروسية، والكرم، والحبّ العذري. كما علّمناهم من خلال الإنجيل المقدّس أن "أحبّوا بعضكم بعضاً"، ومن الإسلام أن "الإنسان أخو الإنسان أَحبَّ أم كره".
ونحن نُعلّمهم اليوم كيف تتحرّر الشعوب والأوطان...


قالت صديقتي الشاعرة:
"الشاعر الحقّ هو رسول ومُلهم للشعوب".
أضفت: بل هو قائد شعبيّ ثائر يقود أُمّته شعوريّاً وفكريّاً إلى الأرقى والأجمل...


قال صديقي نصري:
"هناك شعراء لا يهمّهم أن يكونوا ثوّاراً، فهذه الصفة، ثائر، لا يأبهون لها".
قلت: الشاعر الذي ينفي عن نفسه صفة ثائر، في عصرنا هذا، هو شاعر غير مثقّف...
هنا نظرت صديقتي الشاعرة إلى ساعتها، فقلنا للصديق نصري: هنيئاً لك قصيدتك الجديدة. فقال: "لم تعد جديدة. غداً، أبدأ بأخرى، وستكون عند حسن الظنّ. وسأُحاول أن أكون شاعراً ثائراً يتحسّس آلام شعبه وأفراحه، ويتغنّى بانتصاراته وأشواقه".