ثقافة وفنون

سهيل إدريس الأديب الموسوعي
إعداد: وفيق غزيزي

المبدعون يرحلون من هذا العالم المأسوي، واحداً بعد الآخر، الى عالم ما ورائي، لا ظلم فيه، ولا اضطهاد، ولا إستلاب. ومن بين الراحلين مؤخراً الأديب والروائي الدكتور سهيل إدريس، الذي أقل ما يقال فيه أنه موسوعة أدبية عربية - لبنانية. وبعكس تيارات وشخوص، تآكلها الوهم أو أسقطها «التطبيع الثقافي»، أو خوّفها النحر الجديد للأدب والأدباء، سهيل إدريس كان وسيستمر شهادة حيّة للثقافة العربية المتجدّدة بأصالة، فهو إذ انطلق منذ البدء من النهضة الثقافية الثانية إستطاع الإستمرار بقوة في النهضة الثالثة - الحالية، كما يصفها هشام جعيط، فكان من روّاد جدد فتى لا يغيّر حبر أفكاره، ولا يكسر قلمه على مدية حاكم أو ظالم.

 

رائد الحداثة في الرواية
وُلِد سهيل إدريس في بيروت العام 1922، حملته بيروت وهناً على وهن، فلازمها مدى حياته العامرة، لولا قيامه برحلتين ثقافيتين، إحداهما الى القاهرة في مصر، حيث قصد جامعة الأزهر، وهو يبني على عمامة المثقف العربي التقليدي، حداثة في الرأي والرؤية، عاصرها منذ طفولته، وأمامه روّاد من النهضة العربية الثقافية الثانية، أمثال طه حسين وعلي عبد الرازق وسواهما. أما الثانية فكانت رحلته الى باريس، حيث أمكن للحي اللاتيني أن يأسره ويسحره ويجعله يستوعب البعد النفسي الخاص للحي الذي طالما أحبه: الخندق الغميق في بيروت. كادت تأخذه المشيخة من الحداثة الثقافية، لكنه قاوم وانفتح بلا هوادة، كما فعل في حينه الدكتور حسين مروّة لكن في النجف.
سهيل إدريس أقلع وحده في مركب لبنان الكبير، وفي مراكب الوطن العربي، وهو ينشد الحرية بعلمانية موضوعية. توسل لها أشكال التعبير: الصحافي، القصصي، الروائي، النقدي والبحثي في مجالات الآداب وما يتصل بها من سياسات نهضوية. ولم يقتصر باعه في المجالات الموسوعية، كمشاركته الدكتور جبور عبد النور في معجم المنهل (فرنسي - عربي) والدكتور الشهيد صبحي الصالح في معجم المنهل (عربي - عربي) الذي لم يبصر النور بعد.

 

إنجازات إدريس
لقد ترك لنا الدكتور سهيل إدريس تراثاً متنوعاً من القصة القصيرة، الى الرواية، بالإضافة الى الأبحاث والترجمات. ومن قصصه القصيرة: «أقاصيص أولى»، «أقاصيص ثانية»، «الدمع المر»، «رحماك يا دمشق»، و«العراء». ومن رواياته الثلاثية: «أصابعنا التي تحترق»، «الخندق الغميق»، و«الحي اللاتيني». هذا، وقد أسس الدكتور سهيل إدريس على جانب شارع سوريا في الخندق الغميق، مجلة الآداب وداراً للنشر سنة 1952. وكان ناشطاً ثقافياً منذ الأربعينيات من القرن الماضي، وحاول بالقلم الدفاع عن قضايا التحرر. وفي السبعينيات شارك في تأسيس إتحاد للكتّاب اللبنانيين ضم الأعلام: ميخائيل نعيمة، كمال جنبلاط، أدونيس، خليل حاوي، أحمد أبو سعد، ميشال عاصي، ميشال سليمان، منير البعلبكي وحسين مروّة. وفي هذا الإتحاد نحا الدكتور إدريس منحى الملتزم المنتمي بحرية واستقلال الى أمته وثقافته، وكان من أوائل أمناء الإتحاد العامين لعدة دورات.

 

أدبه ودراساته وترجماته
بدأ الدكتور سهيل إدريس سنة 1953 بتقديم نفسه بعد أن عُرف كصحافي وناشر، روائياً جديداً في مملكة الثقافة اللبنانية والعربية، فكانت رائعته الروائية «الحي اللاتيني» التي رأى الروائي المصري نجيب محفوظ فيها، معلماً من معالم الرواية العربية الحديثة والمعاصرة. رواية تجمع بيروت وباريس، الأهل والحضارة، في قلم حبره هواء، ودفاتره ماء السماء والآفاق. والعام 1958 أطل إدريس علينا برواية جديدة هي «الخندق الغميق»، إتخذ فيها صراع الأجيال والآراء بُعداً جمالياً جديداً، قال ناسك الشخروب ميخائيل نعيمة فيها: «والخندق الغميق الذي عاش أجيالاً خلف سجف كثيفة من العادات والتقاليد المتحجرة، ينفتح بغتة على العالم الأوسع». وفي العام 1962 بدأ إدريس يكتوي بنار الأحداث العربية المؤلمة، حين بدأت الإنكسارات تستحوذ على الإنتصارات المنشودة في أدبنا المعاصر، فكتب روايته الأخيرة «أصابعنا التي تحترق» وكأنه قد أكمل نسيجه الروائي «على غرار معاصره الفرنسي جان بول سارتر، الذي تطوع لنقل ثلاثيته «درب الحرية» من الفرنسية الى العربية». وتابع إدريس في إتجاه كتابة القصص القصيرة التي سبق ذكرها.
كذلك إشتهر الدكتور سهيل إدريس بأسلوبه النقدي الرهيف، والحاد سياسياً. فهو لا يساوم بقناعاته ولا يتساهل بما جعله حراً وطنياً، ملتزماً، غير مُلزَم بحزب أو بنظام. ففي العام 1957 قدّم محاضرة عن القصة القصيرة، وبعد ذلك أصدر كتيّباً يحمل عنوان «في معترك الحرية والقومية». وفي إطار نشاطه الثقافي، قدّم للمكتبة العربية العديد من الترجمات عن الفرنسية، وأطلع المواطنين العرب على الفكر الوجودي، ولا سيما كتابات الفيلسوفين جان بول سارتر وألبير كامو. وقال البعض إن إدريس منذ تأسيسه مجلة الآداب جعلها مع شريكة حياته عايدة مطرجي إدريس تحمل مسؤولية تعريب الفلسفة الوجودية الفرنسية. فكانت بالعربية ترجمة: الغثيان، سن الرشد، وقف التنفيذ وسيرتي الذاتية لسارتر وروايات أخرى لياسونادي كاواباتا الياباني.

 

العلاقات الإنسانية في رواياته
تمكّن الدكتور سهيل إدريس عبر ثلاثيته الروائية «الحي اللاتيني، الخندق الغميق، وأصابعنا التي تحترق» من الكشف عن العلاقة بين الإنسان وبين عالمه المحيط به في اللحظة الحيّة. فالإنسان ميت ولا شيء إن لم يحقق علاقات حيّة مع المحيط. وكل علاقة جديدة، واتصال جديد يسبب شيئاً من الألم عند تحقيقه. وسيظل يسبب شيئاً من الألم، وهكذا الحياة لأن المتعة الحسيّة الحقة تكمن في إعادة تمثيل العلاقات القديمة والحصول منها، في أحسن الأحوال على نوع من اللذة، المفسدة بعض الشيء. ومن المؤكد أن أهم العلاقات بين الإنسان وغيره من الناس على كثرتها وتنوعها هي العلاقة بين الرجل والمرأة، فالعلاقة بين رجل ورجل آخر، أو بين امرأة وأخرى ستظل علاقة ثانوية، كذلك فإن العلاقة بين الرجل والمرأة ستظل دائمة التغير، وستظل دائماً المفتاح الجديد الرئيس للحياة الإنسانية.
وبطل الثلاثية منذ المرحلة الأولى كان يحلم بالحب، بحب يطمح للتحقق: علاقة إنسانية تحلم بالوجود، لكنها تخفق في الوصول الى أهدافها لأسباب نفسية واجتماعية، ونتيجة للظروف الموضوعية وللأفكار السائدة على الواقع، حيث تبدأ العلاقات فجأة وتموت فجأة. ففي أعقاب تمرّده تعرّف البطل على فتاة تدعى «سميا» مدركاً أنه مدين لها في إنطلاقته الأدبية التي كان ينشدها «فحب المرأة هو المفتاح الذي حرّر نفسية البطل، واليد التي صقلت موهبته الأدبية، غير أن هذه الحبيبة إنقطعت عن مراسلته، وانقطع الخيط الذي كان يصل بينهما وبات يعيش على أمل غامض فقرر اللجوء الى المعرفة، وأن ينشدها في غير معهده الديني». إثر تلك الصدمة العاطفية أذاع البطل قصة عاطفية على أمواج الأثير، وإذ ذاك عاوده الحنين وتذكّر طيف الحبيبة «سميا» تلك المرأة التي أشعلت نار الحب في قلبه، وفجّرت تمرّده.

 

محور الصراع
تمحور الصراع في حياة بطل الثلاثية الذي تدور فكرته حول ثلاث موضوعات فرضتها ظروف الحياة التي عاش فيها الوطن العربي عموماً واللبناني خصوصاً منذ أوائل القرن العشرين الماضي وهي: الصراع الوطني، الصراع الحضاري، والصراع الإجتماعي. فمسيرة البطل الأولى بدأت في رواية «الخندق الغميق» حيث كان خاضعاً لاستبداد السلطة البطريركية «لسلطة الأب» منقاداً لها لا إرادياً بشكل كامل «ولكنه خرج من أسرها متمرداً كافراً بهذا الخنوع والخضوع، مؤمناً بصوت الحياة يناديه من أعماق الذات» حسب قول الشملي، الذي يؤكد أن من يتابع مسيرة بطل الثلاثية يرى أنه يعيش حالة من القلق وعدم الاستقرار. بطل يحلم، يحب ويخيب، يعشق ويخون، فيحلم بالحب الذي يتمناه، يؤمن مرة بالقيم ويكفر بها مرات، وهو في كل مرة محكوم باعتبارات نفسية واجتماعية وفكرية وحضارية عدة. وفي هذا الصدد قال الدكتور سهيل إدريس عن بطله في الثلاثية: «الواقع أنني أردت أن أطوّر معنى البطولة الذي نعرفه عن بعض القيم التقليدية». إن مفهوم البطولة الحديث ليس كذلك. وحين توصف الشخصية الرئيسة في الرواية بأنها بطل الرواية، فالغاية من ذلك تبيان الصراعات التي يقودها هذا الشخص في مجال الحياة. والإنسـان العادي كثـيراً ما يكون بطلاً، ولا حاجـة إطلاقـاً الى أن يختـرع العجائب ويجتـرح المعـجزات لنسمـيه بطلاً، يكفيـه مثلاً أن يصارع بعض الشرور والآثام، وأن ينجح في معركة إجتماعية يقودها.
والعبقرية الروائية تحضر عندما تصبح حقيقة الآخرين حقيقة البطل، أي حقيقة الروائي عينه. وبطل سهيل إدريس، يمثّل نمطاً شبه عام للمثقف الشرقي في دنيا الاغتراب، فالماضي الشرقي، يمثّل لديه حيّزاً واسعاً، وهذا يعزّز نموذجيته حيث أن المثقف العربي والشرقي يتعرّف الى الكثير من سمات شخصيته في سمات شخصية بطل الثلاثية.
إن الدكتور سهيل إدريس كان وسيبقى علامة مميزة في حياة لبنان الثقافية. في عطاءاته النثرية والشعرية معاً. وعندنا أن مجلة الآداب التي شكّلت خطاً ثقافياً ملتزماً، واستقطبت أعلام الأدب العربي، ودار الآداب، تستحقان ومن خلاله دراسة خاصة، عن قدرة الفرد ضمن عائلته الفكرية، أو أسرته الثقافية الكبرى، على إجتراح المعجزات. بدأت المغامرة في عصر عربي ثوري، ولم تنته أو تتوقف بانكسار بعض معالمه ورموزه ما بين 1967 و1970.
وبخسارة الدكتور سهيل إدريس، خسرت الحركة الثقافية اللبنانية خصوصاً والعربية عامة، ركناً من أهم أركانها الروّاد المبدعين.