وجهة نظر

سوريا بوّابة الشرق الأوسط الجديد
إعداد: جورج علم

المهتمّون كثر... والمستقبل يصنعه السوريون

 

حاول ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دو ميستورا جمع المعارضة السورية، لكنّه كان يصطدم دائمًا بالمنصّات، من منصّة موسكو، إلى أنقرة، إلى الرياض، إلى القاهرة، إلى الدوحة، إلى عواصم، وأماكن أخرى...

 

بعد سنوات سبع، ولّى زمن المنصّات، تعبت الجدران، وتفكّكت المرتكزات، وطوى ربيع الدم جناحيه إيذانًا بالرحيل، لتعود اليمامة فتجمع فراخها، ويبني الحسّون عشّه في القرميد المضرّج. سوريا اليوم وغدًا، غيرها بالأمس، وقبله، عادت الأوصال تتواصل، والحياة تدبّ في الشرايين، وحكايا الوجع والحنين تختمر في ذاكرة الوطن. ولأنّ الطموحات تعقد قناطرها من حجارة المستقبل، فإنّ المهندسين، والمقاولين، والمتعهدين كثر، لكن إن لم يَبْنِ ربّ البيت، فعبثًا يفعل البنّاؤون، فهل حطّ الاستقرار رحاله فعلًا، وآب قطار السلام من سفره الطويل، أم أنّ ثعابين الفتنة لا تزال تتلوّى في السراديب المعتمة؟
يضجّ الإعلام الغربي، بتحليلات وتوقّعات حول التسوية والمستقبل، وغالبيتها من صنع مطابخ الأجهزة المبرمجة على تقديم أصناف من الوجبات السياسية وفق مقتضيات المصالح والمطامح، ودائمًا تحت يافطة «العمل على صنع الأفضل نحو مستقبل أفضل».

 

الكرم الداشر.. والأبواب المشلّعة

لكن أين يُصنع مستقبل سوريا؟
تُجيب الصحافة الغربية، وتحديدًا الأميركية، بالقول إن سوريا بوابة الشرق الأوسط الجديد، ومفتاحه – وفق التوصيف الأميركي - والذي بدأت تتكوّن ملامحه مع انطلاقة الربيع العربي الذي حمل شعارات الحرية، والديموقراطية، وحقوق المواطن، لكن سرعان ما تغيّر لونه، وتحوّل إلى أحمرٍ قانٍ، مع تطور التظاهرات السلميّة، المطلبيّة، إلى مواجهات دامية ضد مؤسسات الحكم، فاغتنم الإرهاب الفرصة ليدخل من الباب العريض مدعومًا من دول نافذة، وأنظمة جشعة، ليحقّق لها مكاسب مادية ومعنوية على حساب دماء الأطفال، ودموع الأمهات، ومن دون تحديد المواصفات، أو التدقيق بالمشاريع والطروحات القابلة للمدّ والجزر وفق مقتضيات الظروف والمستجدات. لقد طُبعت في الذاكرة الجماعية أسماء زعماء، وقيادات، وأماكن، ومطارح قيل بأنها متخصّصة ومتمكنة من صنع العباءة الوطنية التي تجمع ما بين قيم الماضي، وتطلّعات المستقبل، من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى الأميركي دونالد ترامب، والتركي رجب طيّب أردوغان، والإيراني حسن روحاني، والفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية آنجيلا ميركل، وصولًا إلى مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا. ومن نيويورك إلى جنيف، وفيينا، وأستانا، وسوتشي، وموسكو، مرورًا بأنقرة، والرياض، وطهران، والعديد من العواصم والمدن، والمطارح التي استحدثت فيها مطابخ، وتطوّع طبّاخون لإعداد الحلول والمخارج وفق المواصفات المطلوبة، تأمينًا للمصالح ومضاعفة فرص السيطرة، وتوسيع دوائر النفوذ تحت شعار البدء برفع المداميك في ورشة بناء سوريا المستقبل؟!

 

خارطة الطريق
كان من الواضح أنّ المدماك الأول، قد أُرسِيَتْ أساساته بتفاهم الرئيسين الأميركي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين في قمة هلسنكي التي جمعتهما تحت شعار «الأمن والاستقرار في سوريا، وإطلاق ورشة البناء والإعمار»، وقد خرج بوتين من تلك القمة وهو يلوّح بالتفويض الذي انتزعه من ترامب، والقاضي بإعادة النازحين إلى بلادهم.
اكتشف الرئيس الروسي وهو في الطريق إلى التنفيذ، بأنه لا بدّ من إنهاء الوضع الشاذ في الشمال السوري، وفتح الطرق والمعابر المقفلة بين إدلب وريفها، وهذا لا يمكن أن يتمّ إلّا بعد التنسيق والتشاور مع التركي والإيراني، فكانت قمة ثلاثية استضافتها طهران، وجمعت الرؤساء الثلاثة بوتين، وأردوغان، وحسن روحاني، ثم كانت قمة سوتشي الثنائية التي جمعت الرئيسين الروسي، والتركي، وأفضت إلى تفاهم على معالجة الوضع الميداني في إدلب سلميّا لتجنيب مئات الألوف من المدنيين العزّل ويلات القصف، والقتل، والتهجير، والعمل على تجريد الفصائل المعارضة من سلاحها الثقيل مع حلول العاشر من تشرين الأول 2018، وإقامة منطقة عازلة منزوعة السلاح بعرضٍ يراوح ما بين 15 إلى 25 كيلومترًا، على أن تشرف عليه دوريات مشتركة تركية – روسية.

 

لعبة المصالح
إلّا أنّ الأوروبيين المتلهّفين للحضور، والاضطلاع بدورٍ، طرحوا سؤالًا مفصليًّا:
ما الذي يجمع قادة روسيا، وتركيا، وإيران، ويحفّزهم على العمل لإنهاء الحرب في سوريا، وإطلاق «ماراتون» التسوية؟
الجواب صعب ومعقّد، لأنّ الحلفاء الثلاثة غارقون في الخلافات في ما بينهم حول مستقبل سوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار حتمية تصادم مصالحهم، على الرغم من وجودهم العسكري في الداخل السوري. فالرئيس أردوغان لا يطيق وجود الهرميّة السياسيّة القائمة في دمشق وبقاءها في الحكم، وعمل المستحيل لتنحيتها وإبعادها عن السلطة، وقد تحالف مع تنظيمات إسلامية أصولية متطرفة لتحقيق هذا الغرض، وهدفه بسط نفوذه على سوريا بدءًا من الشريط الحدودي الطويل، بعرضٍ يراوح ما بين 35 و45 كيلومترًا في العمق السوري بحجة إيواء النازحين. أمّا الرئيس الروسي فقد أدخل قواته لمحاربة أعداء دمشق، وحماية النظام من السقوط، وملاحقة فلول الإرهاب، وكذلك فعل الرئيس الإيراني الذي يصفه الغرب الأوروبي – الأميركي بالمدافع الأول عن الشرعية السورية.
والواضح أنّ ما يجمع رؤساء الدول الثلاث هو الخلاف المستحكم مع الولايات المتحدة الأميركية. لقد أمطر الرئيس ترامب كلًّا من روسيا، وتركيا، وإيران بوابلٍ من العقوبات الاقتصادية الموجعة، وكان هذا كفيلًا بأن يلتقي الرؤساء الثلاثة للتشاور على مواجهة «العدو المشترك» عن طريق تنظيم الخلافات فيما بينهم في الداخل السوري، وهذا ما دفع بالرئيس بوتين إلى الإعلان عن أنّ الدول الثلاث «تلتزم تعزيز سيادة واستقلال وسلامة الأراضي السورية».
ويشير تحليل إخباري نشر في «الواشنطن بوست» إلى أنّ الرئيس الروسي فاز في قمّة هلسنكي بتفويض من الرئيس ترامب لضبط الإيقاع التركي في الشمال السوري، إثر تخوّف مشترك من تهديد تركيا لمستقبل سوريا، كون قواتها تحتل الآن منطقة عفرين، وتصرّ على أن تواصل تقدّمها إلى مدينة منبج التي توجد فيها الميليشيات الكردية التابعة لقوات سوريا الديموقراطية (قسد)، والتي حاربت «داعش» وهزمتها على الأراضي السورية. وقد توافر هذا التفويض، لقناعة ترامب العميقة بإصرار أردوغان على إزاحة الأكراد من مدينة منبج رغم الرفض الأميركي لهذه الخطوة.
والمفارقة أنّ «الطموحات» الأميركية تلتقي مع «الطموحات» الإيرانية، ذلك أنّ الرئيس حسن روحاني يطالب الرئيس أردوغان بالانسحاب فورًا من عفرين، وتسليمها إلى الجيش السوري، كما يرفض خيارات تركيا الهادفة إلى إيجاد منطقة عازلة في الداخل السوري تحت رعايتها، ويشدّد على سلامة أراضي سوريا وسيادتها ووحدتها واستقلالها، مؤكدًا أنّ النزاع في سوريا لن يحل عسكريًّا، وأنّ الأزمة يجب حلّها بطرقٍ سياسية.
وأمام تضارب المواقف، وتوافق المصالح، يتساءل الجميع عن مدى قدرة روسيا على التحكم في ضبط إيقاعات مختلف الأطراف، خصوصًا وأنّ إيران تقول بضرورة سيطرة الشرعية على سوريا كاملة، بينما تحاول تركيا إيجاد واقع جديد في الداخل السوري خارج نطاق الشرعية السورية، وفي ظلّ غياب توافق سياسي دولي حول شكل التسوية السياسية للأمة السورية.

 

سايكس – بيكو جديد
إذا كانت روسيا ترسم بالتنسيق والتفاهم مع تركيا، وإيران مستقبل سوريا، فأين الحضور السوري؟
الجواب – حتى إشعار آخر – في عهدة سايكس – بيكو الجديد المتمثّل هذه المرة بالتفاهم الأميركي – الروسي. إلّا أنّ هذا التفاهم لم يدوّن بعد في خطةٍ شاملة واضحة المعالم متصلة بمستقبل سوريا، ذلك أنّ الهامش العريض لا يزال متروكًا للحوار السوري – السوري بإشراف دولي، لكنّ التصور الذي طرح في قمة هلسنكي لمستقبل سوريا قد بُني على التطلعات الأميركية – الروسية، ومن هذه التطلعات:
• الهدنة الأميركية – الروسية التي تُعتبر إحدى أبرز المقوّمات لانطلاق الحل السياسي.
• تنفيذ القرار الأممي 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بعد التفاهم الأميركي – الروسي على خارطة الطريق بشأن سوريا. ومن معالم خارطة الطريق هذه: هدنة، ووصول المساعدات الإنسانية للمناطق التي هي بحاجةٍ ماسّة، والانتقال إلى التفاوض الجاد.
• التفاوض الجاد حاجة جوهرية للتوافق بين النظام والمعارضة على إقامة جسم حاكم جامع يحظى بصدقية بين الأطراف المقبولة داخليًا وخارجيًا لإدارة المرحلة الانتقالية.
• وضع دستور يسهم في تقديم مخارج تحفظ ماء وجه الأطراف التي كانت عَقَبة، وجزءًا من الأزمة.
• الدعوة إلى انتخابات برلمانية ورئاسية وفق الدستور الجديد الذي سيكون الدستور المخلّص للسوريين من ورطتهم.

 

عيون وآذان بريطانية
يعتقد البريطانيون الذين تنتشر ملائكتهم في كل مكان بأنّ «الصفقة» الأميركية – الروسية حول سوريا قد رسمت مسارًا ديموقراطيًّا للتغيير، فالانتخابات هي التي سترسم المستقبل السياسي، وطبيعة النظام، وهذه ستكون شفافة، وتجري وفق معايير دقيقة، تشرف عليها عمليًّا الأمم المتحدة، وفي هذا ردّ واضح على كلّ ما يثار ويردّد وراء كواليس ديبلوماسية دولية من أنّ روسيا هي التي تضمن بقاء أو رحيل الشرعية القائمة حاليًا، والمعترف بها دوليًا؟! إلّا أنّ «الغارديان» عالجت الموضوع من باب احتمال دخول أطراف دولية وإقليمية في صفقة مع روسيا تضم رزمة متكاملة من المطالب، مقابل تقديم مخرج واضح للتغيير المطلوب؟
الجواب الروسي كان واضحًا قبل أن تأخذ هذه الافتراضات والتمنيات بعدًا إعلاميًّا، ذلك أن روسيا تخطّط، وتريد البقاء في سوريا لفترة ليست بقصيرة، ولتحقيق ذلك هي بحاجةٍ إلى استقرار كي ينعكس وجودها إيجابًا عليها، ما يعني تناغمًا، وتفاهمًا، وشفافية مع الشرعية ومؤسساتها الرسمية النشطة، وبناءً عليه لا يمكن عقد صفقات مغايرة إلّا بشرطين رئيسين، ومغريات. الشرط الأول، أن تكون هناك قاعدة دستورية قانونية معترف بها محليًا ودوليًا يمكن أن تشكل قاعدة تبرّر التغيير. والثاني، أن تكون هناك وحدة وطنية داخلية قوية، متماسكة، متناغمة مع التغيير.
أما المغريات فتبدأ بـ:
- معالجة روسيا أسعار النفط مع دول الخليج، وتحديدًا السعودية بما يرضي الطموحات الروسية، والمصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى.
- رفع العقوبات المالية والاقتصادية الأوروبية والأميركية المفروضة على روسيا.
- التفاهم الشامل على وضع أوكرانيا الجديد.

 

الفيدرالية الروسية
وتكشف الـ«نيويورك تايمز» الأميركية النقاب عن طرح الفيديرالية كمنظومة حكم في سوريا، وقد تمّ طرح هذا العرض خلال ولاية الرئيس باراك أوباما، وجرت مناقشته يومها مع الروس، على أن يصار إلى إدراجه ضمن الدستور الجديد المطلوب صياغته في أثناء المرحلة الإنتقالية، وتعطي هذه المنظومة الاتحادية فرصة وموقعًا جديدًا للشرعية القائمة. وهذا الخيار هو البديل عن فكرة إقامة دولة مركزية يكون من الصعب المحافظة على ما هو قائم حاليًا عليها لمدّة أطول. وكانت بريطانيا أول من أشار إلى أنّ روسيا، وخلال اتصالها مع واشنطن، لم تأتِ إلى سوريا لإيجاد حلّ سياسي يحافظ على الدولة السورية المركزية، بمقدار ما جاءت لفرطها، وقد ألمح وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند بالقول أمام مجلس العموم البريطاني: «إنّ روسيا ربما تستغلّ المناقشات في جنيف لاقتطاع دويلة في سوريا للشرعية القائمة».

 

... والتقسيم الأميركي
أما وقد انفلش بساط السيادة الوطنية على غالبية المناطق السورية، فهذا يسمح للحكومة باستشراف الخطوط الكبرى الممكنة لوضع سوريا ما بعد الحرب، لكن الأميركيين المصرّين على وضع حدّ لما كان يعرف بـ«دول الطوق» حول إسرائيل، والمصرّين على شرق أوسط جديد يقوم على أنقاض دول سايكس – بيكو، قد أمسكوا بالملف السوري جيدًا منذ بداية «ربيعه»، وتولى وزير الخارجية السابق جون كيري المهمة بجدارةٍ مستندًا إلى دراسة أعدّها مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الخارجية، وفيها أن سوريا التي كانت تشكّل العمود الفقري لدول الطوق، والقوية المقتدرة اقتصاديًا، وأمنيًا قد كشفتها الأزمة، وبيّنت أنّ القوّة تنحصر في جهاز الحكم، وفي الجيش فقط، وهي ببعدها التنظيمي العام، كدولة، لم تصمد أمام أول تجربة في مواجهة لمجتمعها، لسببين: غياب الحرية المسؤولة، في ظلّ سطوة الحرية المحدّدة بسقوف لا يمكن تخطّيها. وغياب الاقتصاد الحر بمفهومه الليبرالي العريض، وهذا ما جعل المجتمع يعاني ضعفًا وهشاشة في مكوناته، والدليل أنّ المجتمع السياسي كان يهيمن عليه حزب واحد، رغم سماح الدستور بتعددية الأحزاب.
وتشير الدراسة إلى الناحية السوسيولوجيّة، لتؤكد أنّ المجتمع المدني لم يؤدِ دورًا مؤثرًا، نظرًا للتهميش الكبير الذي كان يطاول النخبة سواء أكانت فكرية أو ثقافية أو اجتماعية، وأنّ الحرب في بداياتها كانت مواجهة مباشرة بين المجتمع والسلطة في ظل عدم إمكان قيام أي وساطة تتولاها المنظمات، والأحزاب، والنخب وسائر هيئات المجتمع المدني. ومن رزايا القدر أنّ ضعف الجبهة الداخلية سهّل بدوره تدخّل القوى الخارجية، وهذا ما زاد الوضع تعقيدًا.
الآن، وقد بادرت الحرب إلى جمع مضاربها إيذانًا بالرحيل، تبدو الصورة من المكبّر الخارجي أكثر ضبابية، لقد أتت الحرب على الكثير من مقومات الدولة التنظيمية، وبالأخص على علاقة الدولة بالمجتمع. لقد خرجت الحكومة منتصرة عسكريًا، غير أنّ السلطة تحتاج إلى الكثير من الدعم، والكثير من الإمكانات التي لم تعد متوافرة، بنظر الأميركيين.
وكان وزير الخارجية السابق كيري أول من تحدث عن تقسيم سوريا، عندما قال خلال جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي: «ربما يفوت الأوان لإبقاء سوريا موحّدة إذا انتظرنا فترة أطول».
التلميح الأميركي بالتقسيم، هو رسالة أكثر شفافية من الجانب الروسي الذي تحدّث عن الفيدرالية. لا يشعر الجانب الأميركي بالحرج ليقول إنّ بقاء حكومة مركزية قوية، واعتماد دولة اتحادية (فيدرالية) أمر غير ممكن في ظلّ الحفاظ على سوريا موحّدة.
ويعتقد الأميركيون أنّ أي دولة غير مركزية ستظهر في سوريا، لن تكون مجرّد دولة اتحادية، بل مقدّمة لتقسيم سوريا من باب أمر الواقع الذي يقول إنّ كل طرف من الأطراف السورية الحالية يسيطر على أجزاء متفرّقة من سوريا لا تربطها ببعضها البعض أي مقومات أو ضرورات، فالنزعة الانقساميّة فرضت نفسها كأمر واقع على السوريين في تنقّلهم بين هذه التقسيمات كما ولو أنهم يتنقلون بين دويلات، وهذا الواقع سيكون دافعًا لتحويل أي محاولة تتبنّى نظام حكم غير مركزي لتقسيم سوريا إلى دويلات يتزعّمها أمراء حرب، أكثر من كونها دولًا أو مقاطعات في دولة اتحادية وفق الكثير من الدراسات الأميركية التي تحلل مستقبل سوريا، وشكل الحكم القادم فيها.

 

السوريون ضد التقسيم
يستشهد بعض الباحثين السياسيين في أثناء حديثهم، عن تقسيم سوريا كحلّ مستدام للأزمة الحالية، بالعودة إلى تجربة تقسيم البوسنة والهرسك وفق اتفاق «دايتون» وإلى بلدين هما دولة البوسنة والهرسك، ودولة جمهورية صربيا. فالصراع الذي استمر من 1992 إلى 1995، جعل بقاء البوسنة بلدًا موحّدًا أمرًا مستحيلًا، ما دفع الأطراف المتفاوضة في مدينة دايتون الأميركية إلى تبنّي فكرة التقسيم برعاية دولية شملت أميركا وروسيا، ودولًا أخرى.
صحيح أنّ التقسيم كان حلًّا لأزمة دموية في البوسنة، إلّا أنّه لا يعدّ بالضرورة أفضل خيارٍ للسوريين، والتاريخ شاهد، ذلك أنّ الشعب السوري سبق له ورفض التقسيم، الذي فرضه عليه قائد جيوش فرنسا في الشرق المفوّض السامي هنري غورو بين آب 1920 وأذار 1921، والذي قسّم سوريا بحجة أن] مكوناتها الدينية والعرقية متنوعة وغير متمازجة مع بعضها البعض. فقد رفض حينها السوريون حلّ التقسيم، وأي مشاريع أخرى مشبوهة كانت تهدف إلى تحويل سوريا إلى مجموعة من الدويلات تمزّق النسيج الاجتماعي للسوريين سواء بحسب العرق، أو الدين، فهل سيرفض الشعب السوري مرّة ثانية المحاولة الأخطر لتفكيك سوريــا أرضًــا وشعبًــا تحــت شعــار «إنقــاذ السوريين؟!