اقتصاد ومال

سوق العقار في لبنان
إعداد: تريز منصور

الجنون والشراهة يتحكّمان بالأسعار

شهد لبنان في السنوات القليلة الماضية طفرة عقارية رفعت على نحو غير اعتيادي أسعار الشقق التي تخطّت ضعفي ما كانت عليه منذ نحو سنتين.
أدت هذه الطفرة الى تفاقم أزمة السكن في لبنان بحيث بات تملُّك الأسر الجديدة والشابة منزلاً بمواصفات معقولة، أشبه بحلم يستحيل تحقيقه على الرغم من توافر القروض السكنية ولجوء مصرف الإسكان أخيراً الى رفع قيمتها.
والمشكلة تتفاقم بشكل خاص في بيروت والمناطق القريبة منها. فسعر المتر المبني في ڤردان أو حي سرسق مثلاً، يصل الى 5000 دولار، ما يعني أن سعر شقة مساحتها 300 متر مربع، قد يصل الى 1.5 مليون دولار.
هل تستمر الأسعار على ما هي عليه، أم أن هذه الطفرة مجرد فقاعة سوف تنفجر كما حصل في الولايات المتحدة الأميركية ودبي وأسواق أخرى؟
في ما يلي محاولة للإضاءة على المشكلة.

 

سوق العقار في لبنان
تمثل سوق العقار في لبنان حجماً إستثمارياً لا يستهان به، يقدر بما يعادل من 7 الى 10 مليارات دولار خلال العامين 2008 و2009، وللدلالة على أهميته يمكن مقارنته بحجم الناتج المحلي الإجمالي الذي يقدر بنحو 33 مليار دولار.
هذا النشاط تختلف طبيعة تمويله جذرياً عن تلك المعتمدة في الأسواق العالمية، فبنية تمويل السوق العقارية المحلية تعتمد على معادلة محصّنة تتناقض تماماً مع ما هو معمول به في الأسواق العالمية، ذلك أن نسبة الدين الى الرسملة الذاتية في بعض الأسواق التي تضررت، كانت تصل الى نسبة 80 الى 20 في المئة مقارنة ببنية معاكسة في لبنان هي 20 الى 80 في المئة. بمعنى آخر، إن قاعدة الدين الى الرسملة، أي الرافعة التمويلية وصلت الى نحو أربعة أضعاف في الأسواق العالمية، مقارنة بقاعدة لا يتجاوز مضاعفها الربع في لبنان.
إن الرافعة الصغيرة المحقّقة في السوق العقارية المحلية توفر للمصارف الدائنة هامشاً مريحاً لتسييل العقار، واسترداد دينه في أصعب الظروف ما يعني أنه من المستبعد أن تشهد الأسعار هبوطاً دراماتيكياً، غير أن حصول تقلبات حادة في الأسعار يظل قائماً ما دام التمويل الأساسي ذاتياً.

 

ساسين:طاقة التملك انحدرت الى النصف
رئيس مجلس إدارة مصرف الإسكان ومديره العام جوزف ساسين رأى أن ثمة تساؤلاً كبيراً حول تضخم أسعار العقار الذي بدأ في دول الخليج منذ سنوات، وجاء متأخراً الى لبنان إثر الأزمة المالية العالمية، وقد كان من تداعيات هذه الأزمة تدفق أموال خارجية ضخمة الى القطاع المصرفي اللبناني، والإتجاه الى الاستثمار في الذهب والعقار كونه آمناً، الأمر الذي أدى الى ارتفاع أسعار العقار في لبنان. لكن ساسين يشير الى أن هذه الأسعار ما زالت مقبولة قياساً الى ما هي عليه في الدول المجاورة، حيث سعر متر البناء في دمشق مثلاً 10 آلاف دولار أميركي، لافتاً الى أن تحليل أسعار العقار بحاجة الى دراسة معمقة.
ويضيف ساسين: إذا أخذنا متوسط دخل العائلة اللبنانية العاملة في لبنان، يتبين لنا أن إمكان تملُّك هذه العائلة بات مستحيلاً نتيجة ارتفاع أسعار العقار، وخصوصاً في العاصمة، حيث أسعار الشقق في أحياء العاصمة الأنيقة، لا تقل عن 3000 الى 5000 دولار للمتر المربع الواحد في الطوابق الأولى، وبالتالي قياساً بالأسعار التي كانت سائدة سنة 2005، فإن طاقة التملُّك قد انحدرت الى النصف تقريباً. وما يفاقم أن العرض السكني في لبنان لا يتوجه لغاية اليوم الى إنتاج سلعة سكنية بالمساحة التي يمكن لمتوسطي الدخل تملكها أي ما بين 90 و120 متراً. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل هناك تضخم بأسعار العقار في لبنان أم أن هناك تفاوتاً متزايداً بين الأسعار ومتوسط دخل اللبناني العامل في لبنان، باعتبار أن هناك معادلة دولية تحدد طاقة التملك للعائلة بخمسة أضعاف دخلها السنوي. ما يعني أنه يجب على اللبناني تعزيز دخله العائلي، عن طريق إشراك الزوجة في سوق العمل، وضمّ دخلها الى دخله لزيادة طاقاتهما على التملك، كما أن عليه الإكتفاء بمساحة سكنية أصغر تتناسب ودخله.
ساسين توقع استمرار تضخم الأسعار وعدم انخفاضها قبل فترة تراوح بين سنتين وثلاث سنوات، مستنداً الى عدد رخص البناء في مختلف المحافظات وعدد الأمتار المرخص لها في نهاية 2009، والتي تحتاج الى سنتين أو ثلاث سنوات لتصبح مساكن جاهزة.
هل تساهم خطوة مصرف الإسكان المتمثلة برفع قيمة القروض في تثبيت الأسعار في مستوياتها العالية؟ ينفي ساسين هذا الإحتمال، معتبراً أنها خطوة تتماشى مع واقع الحال، ويوضح أن قروض المصرف هي ثلاثة أنواع (شراء، بناء أو ترميم شقة)، وتتوجه الى الطبقة المتوسطة وخصوصاً العائلات.
تمنح القروض اعتباراً من مستوى دخل يوازي مليوناً ونصف مليون ليرة ومن دون تحديد للسقف الأعلى للمداخيل، أما مدة إيفاء القرض فهي 20 سنة وبفائدة 4.99 في المئة. وقد قدّم المصرف العام 2009 قروضاً بقيمة 125 مليار ليرة، فيما يتوقع أن يرفع حصته من القروض السكنية خلال العام 2010 الى 250 ملياراً.
في ما يتعلق بمنح القروض للمغتربين، قال ساسين إن هناك نحو 500 الى 600 ألف مغترب لبناني في معظم دول العالم، يرغبون في التملك في لبنان، وبالتالي تشكل طلباتهم نحو 35 في المئة من طلبات المصرف، ولا سيما بعد إطلاق قرض المغتربين، الهادف الى ربط المغترب بأرضه. ولم يستبعد أن يكون لدخول المغتربين على خط الإقتراض السكني تأثير على الأسعار في سوق يقوم على العرض والطلب.

 

مكارم: تضخم أسعار الشقق والعقارات سببه «شراهة» الجميع
مدير شركة «رامكو» للتسويق والإستشارات العقارية السيد كريم مكارم ينفي إمكان حدوث فقاعة (crash) عقارية في السوق اللبناني (على غرار ما حصل في أميركا ودبي) تؤدي الى إنخفاض الأسعار خصوصاً أن لبنان لا يملك تخمة كبيرة من المساكن، الأمر الذي خلق توازناً بين العرض والطلب.
السبب الرئيس للغلاء المستشري في أسعار الشقق والعقارات هو في «شراهة» الجميع، يقول مكارم، بدءاً بمسؤولية كبيرة تقع على عاتق الوسطاء العقاريين وهم كثر، ثم المطورين وأصحاب الأراضي المالكين، واصفاً ما تشهده السوق العقارية اليوم بـ«الجنون» وبتحكم اللامنطق بالأسعار. فأصحاب الشقق يرفعون الأسعار عازين السبب الى ارتفاع سعر الأرض، وهذا غير منطقي فعندما اشترى هؤلاء الأرض كانت بسعر مختلف تماماً عن السعر الحالي. كما أن المطور العقاري الذي يمكن أن يبيع المتر المبني بـ3000 دولار يبيعه بـ3750 أو 4000 دولار لأنه يبيع سعراً وهمياً مستفيداً من الجنون المسيطر على السوق العقارية.
ويرى مكارم أن معادلة «ارتفاع الطلب والنقص في العرض» لن ترحم الباحث عن شقة، لافتاً الى أن سعر متر الأرض ارتفع منذ العام الماضي بما نسبته 40 في المئة الى 50 في المئة، وهذا جنوني وغير منطقي، فالارتفاع الطبيعي يجب ألا يتخطى الـ15 الى 20 في المئة سنوياً.
مكارم أوضح أن الشقق السكنية تشهد حالياً جموداً من حيث العرض والطلب، وأشار الى أن الأسعار ارتفعت منذ العام الماضي بما نسبته 15 في المئة لا أكثر وشرح قائلاً: «منذ العام 2005 بدأت الفورة في الأسعار فأصبح معدل ارتفاعها سنوياً بما نسبته 20 الى 30 في المئة، الى أن حصلت الفورة الكبرى العام 2008، حيث ارتفعت الأسعار بما نسبته 40 في المئة».
مكارم اعتبر أن أصحاب الشقق اليوم يطلبون ما نسبته من 30 الى 50 في المئة، زيادة عن السعر العادل مشيراً الى أن هناك «مأساة» تتفاقم مع الأيام بحيث بات من الصعب جداً على أصحاب الدخل المحدود أن يسكنوا في العاصمة بيروت، وبهذا نتجه لنكون كمختلف بلدان العالم حيث تسكن النخبة الثرية العاصمة، فيما يسكن أصحاب الدخل المحدود في الضواحي القريبة من العاصمة أو البعيدة عنها.
وفصّل مكارم وضع الشقق الحالي قائلاً: «لقد خفّ الطلب على الشقق الكبيرة من قبل غير اللبنانيين والخليجيين خصوصاً بعد حرب تموز 2006، وما زال الوضع اليوم على حاله، أما في ما خص الشقق المتوسطة التي تراوح مساحتها بين 300 و400 متر، فقد باتت أسعارها خيالية إذ يراوح سعر المتر الواحد بين 3000 دولار و5000 دولار في الطوابق الأولى، ما جعل القادرين على شراء هذا النوع من الشقق معدودين»، لافتاً الى أن أصحاب الميزانية المتوسطة هم الأكثر عدداً اليوم، وهم يبحثون جدياً عن شقق ولا يجدونها إلا إذا قبلوا بمساحات أقل بكثير من طموحاتهم.
مكارم الذي شدّد على أنه في بلاد كبلادنا تعتمد على الإقتصاد الحر، لا يمكن لجم الأسعار التي تخضع للعرض والطلب، لفت الى أن شركة «سوليدير» وحدها قادرة اليوم على تجميد الأسعار، كونها كانت القاطرة الرئيسة في رفع هذه الأسعار.
وأضاف مكارم: «إنها حلقة متكاملة تشمل الجميع بدءاً بالوسطاء العقاريين (خصوصاً غير المحترفين وهم كثر)، ثم مالكي العقارات الذين يسمعون بأسعار شقق خيالية فيجنون، ثم المطورين العقاريين الذين لا يكتفون بالربح المعقول ويعكسون أسعار الأرض المستقبلية. فالشراهة تعمّ الجميع، والإتكال على كلام الصالونات يصيب الجميع من مستثمرين الى مطورين الى أصحاب الخيال الواسع، وهكذا لا نجد أي تعقل في ما يطلبه الجميع. الوسيط يجب أن يردع البائع التائه في الأوهام، وعليه أن يعطي المشورة العقلانية ويمتنع عن نقل سعر المبيع إن لم يكن عادلاً أو بأقل تعديل عقلانياً. المطورون يقومون بدور إيجابي بامتناعهم عن الشراء بالأسعار غير المنطقية، لكنهم يرفعون أسعار شققهم غير المباعة لضمان قيمة البديل ويعكسون أسعاراً معادلة لأسعار الأراضي المطلوبة».
وأكد مكارم أن «الخوف الكبير الذي يجتاح قلوب اللبنانيين هذه الأيام من أن أرض لبنان تباع الى الأجانب، غير مبرر على أرض الواقع لأن الأرقام تشير الى أن 85 في المئة من المستثمرين ولا سيما في بيروت هم لبنانيون، لكنه أشار الى أن «العالم بأسره يرغب بتملك قطعة أرض ولو بحجم «مرقد عنزة» في لبنان».
ودعا أخيراً الى توفير مساكن متوسطة الأحجام في المناطق اللبنانية كافة، ليكون باستطاعة جميع اللبنانيين تملّك سكن في ظل غياب سياسات إسكانية.

 

بين السياسة والعقار
أظهرت المرحلة السابقة في التحركات العقارية فك ارتباط كبيراً بين السياسة والعقار، لا سيما أن هناك أزمات سياسية عصفت بالبلاد، كان العقار مستقلاً عنها في نموه المطرد.
ويبقى أن الاستثمار العقاري من الخيارات الأقوى لدى المستثمرين، إلا أننا نستطيع أن نقسم العمل العقاري الى قسمين:
الأول: تملك العقار للاستعمال المباشر حيث يؤمن المواطن مسكنه أو متجره، وهو أمر مستمر مع النمو الديمغرافي.
الثاني: تملك ريعي للدخول في العقار قيد الإنشاء والمشاركة في المضاربة، لجني أرباح النمو مع الرهان على زيادات خيالية منتظرة... أما عملياً، فإن السيولة الكبيرة التي تملكها صناديق المصارف في لبنان والتدابير التي يعتمدها مصرف لبنان، لإعادة التوازن الى الحركة المالية وتوزيع السيولة بشكل موضوعي الى جانب التدابير الجديدة المعتمدة من قبل مصرف الإسكان الذي صار يغطي العمليات العقارية التملكية بشكل افضل وفوائد أقل، فهي تشجع الناس على التملك، مما يجعل السوق في صعود دائم...
كما أن الزيادة الكبيرة في الأسعار تدفع الكثير من مالكي العقارات غير المبنية أو القديمة العهد، الى التفاوض مع منشئي الأبنية للمشاركة والحفاظ على ملكيتهم العقارية، بشكل متحول من الأرض الى شقق في سياق الإقتناع الكلي بأن العقار يبقى في صعوده بلا توقف... إلا أن هذه العوامل مجتمعة لا تبدو كافية بالمقدار ذاته، فهناك فارق كبير بين الطلبات والقياسات والقدرات المالية للناس،  وعليه نرى أن التوجه القادم سيكون أكثر نحو العقار المبني بمساحة منطقية أو محدودة من دون الإنفلاش الذي واكب المرحلة السابقة، فالعقارات ذات المساحات الكبيرة جداً في بيروت، أضحت من الكماليات التي يطلبها عدد محدود من الزبائن المتمكنين مالياً.

 

إحصاءات نقابة المهندسين
أظهرت إحصاءات نقابة المهندسين في بيروت لشهر تشرين الأول (أكتوبر) 2009، تراجعاً في عدد الأمتار المسجلة بالمقارنة مع الفترة المماثلة من العام 2008، بلغت نسبته 17.6٪، فقد بلغ عدد الأمتار المسجلة في الشهر العاشر من العام 2009 833.123 متراً مربعاً مقارنة مع 1.010.992 متراً في تشرين الأول 2008، في حين أظهرت إحصاءات المعاملات المسجلة في تشرين الأول 2009 تقدماً طفيفاً عن تشرين الأول 2008.
بيد أن المرحلة العقارية التي يمر بها القطاع اليوم، تشير الى أن كل من يبيع عقاراً يدخل في الخسارة وكل من يشتري يربح مهما كانت الظروف. وفي الأشهر التسعة الأولى من العام 2009، زادت المبيعات العقارية للأجانب بنسبة 6.3٪ على أساس سنوي، ما يؤكد استمرار اهتمام الأجانب عموماً والعرب خصوصاً بالسوق العقاري اللبناني، على الرغم من تراجع القدرة الشرائية لهؤلاء بسبب الأزمة المالية الدولية.