صدق أو لا تصدق

سويسرا تحت الأرض عالم متكامل ومدهش
إعداد: رويدا الاسمر

البنيى المدنية باقية وقادرة على إيواء غالبية السكان إذا نشبت حرب نووية

 

في قالب الجبنة السويسرية

“الجيش يفتح لنا الأبواب لندخل في أضخم شبكة سراديب يمكن أن تعبر البلاد. إنها ملجأ يستوعب سبعة وتسعين بالمئة من الشعب السويسري في حال نشوب حرب نووية”.
من منا لم يسمع “بالغرويير” الشهيرة؟ إنها نوع من الجبنة, لكنها أيضاً بالنسبة للشعب السويسري, أكبر شبكة سراديب يمكن أن يحفرها الإنسان تحت الأرض. هكذا يسمونها هناك, “الغرويير السويسرية”: ممرات تمتد مئات الكيلومترات تحت الأرض وتعبر البلاد من جهة الى جهة, متخطية الحواجز الطبيعية. أنشئت هذه الشبكة الجوفية خلال الحرب العالمية الثانية, والمدهش أنه لا يمكن ملاحظة أي أثر لوجودها من على سطح الأرض.
كانت سويسرا في تلك الفترة, قد أعلنت على لسان رئيس أركان قواتها المسلحة (هنري غيزان) عن عزمها على تطوير البنية التحتية لمنشآت محصنة, بدءاً من العام 1940, على الرغم من سياسة البلد المحايدة. فسويسرا المستضعفة, لم تكن تأمل بأن تقف في وجه القوات الألمانية والإيطالية. والسبيل الوحيد لحماية حدودها, كان في العودة الى فكرة “الغرويير السويسرية”, التي ولدت في منتصف القرن التاسع عشر, ووجدت فرصة لتطبيقها في فترة الحرب تلك.

 

خمس سنوات في حفر الأنفاق

لم تكن خطة الجيش السويسري تقضي بالمدافعة عن السهول, بل بالإنسحاب ­ في حال حصول أي هجوم معاد ­ الى الأماكن الجبلية المتقدمة والمواجهة لكل من فرنسا وألمانيا والنمسا. وطوال خمس سنوات, بقي الجيش بمساعدة المؤسسات المدنية, يحفر في الصخر, ويقيم تحت جبال الألب, الحصون ومراكز المراقبة العسكرية والمصانع المدنية. أما الهدف فكان: إحباط أي هجوم محتمل, وإنزال أكبر قدر ممكن من الخسارة في صفوف القوات التي تسعى الى وضع يدها على محاور الوصل في جبال الألب. وكانت أنفاق سكك الحديد الموجودة في مون سان غوتار وبرينير, تشكل آنذاك, مدخلاً حيوياً بالنسبة لألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
وكان لعملية حفر مئات التحصينات هذه, أثره المحرّك في الإقتصاد السويسري. فقد سمحت للشركات الفدرالية, بالعمل للمجهود الحربي, والمحافظة على معنويات العمّال والعسكريين, ودعم التطوّر في البلاد. ومع حلول العام 1945, كانت سويسرا تملك أهم شبكة تحصينات تحت الأرض في أوروبا كلها.
ثم جاءت الحرب الباردة لتعطي لهذا المفهوم الكهفي, دفعاً آخر: فالبنية التحتية العسكرية أخذت تتطور بدءاً من الخمسينات, كما جرى استحداث الأسلحة, في مواجهة التهديدات الجديدة. حتى أن السلطات الفدرالية عمدت الى توسيع المشروع ليشمل الحق المدني, تخوّفاً من اقتراب شبح الحرب النووية. وفي الواحد والعشرين من كانون الأول عام 1950, وضع أحد القوانين, برنامجاً خاصاً بـ”الدفاع عن الشعب”. وهكذا وُلدت فكرة “الحماية المدنية”, تمهيداً لمشروع حفر الملاجئ ضد الحرب النووية, وقيام مستودعات الطعام الفردية, وبناء المستشفيات تحت الأرض. وكان الهدف من كل ذلك أن يتمكن الشعب السويسري من الإنتقال خلال ساعات قليلة ­ في حال حدوث قصف نووي ­ الى ملاجئ تحت الأرض, مجهزة بشكل كامل, ومهيأة لإعادة الحياة على سطح الأرض. وقرع التهديد بحرب نووية أبواب أوروبا. وكان الخطر يبدو كبيراً, لدرجة أن الإحتياطي من الذهب في مصرف بيرن الفدرالي, توزّع لفترة من الوقت في الحصون المختلفة تحت الأرض.

 

ميزانية ضخمة تحسباً للأسوأ

أصبح الجيش السويسري يعد نحو مليون رجلاً, من أصل سبعة ملايين نسمة. وبقي هذا الجيش لمدة طويلة, يعتمد نظام الإكتفاء الذاتي كمبدأ لعمله. فكان يفترض بكل وحدة, أن تكون قادرة على صناعة خبزها اليومي, وإدارة مخزونها من الأطعمة. وكما في السيناريوهات المدروسة بدقة, كان الكل يعرف دوره, وما يجب أن يقوم به في حال نشوب النزاع المسلح. وكانت الجسور وسكك الحديد والطرقات بمعظمها, مزروعة بالألغام. أما الأنفاق في الطرقات, فكانت تصلح كمأوى للشعب وأحياناً, كمخزون للعتاد العسكري. وهكذا, بقيت البلاد تتحضر للأسوأ خلال فترة خمسين عاماً, مقابل ميزانية ضخمة.
وفي العام 1995, أي بعد ستة أعوام من سقوط جدار برلين, قررت سويسرا أخيراً, إعادة تنظيم جيشها, بحيث يتكيف مع بُناها التحتية في باطن الأرض. وجاء قرار الإتحاد الكونفدرالي, بالإنفصال تدريجياً عن معظم التحصينات العسكرية هناك. وهكذا, وبعد أن أصبحت مهملة بقسمها الكبير, لم يبق لهذه القلاع المحصنة سوى قيمتها الجمالية والتاريخية.
أما فيلق حراسة المراكز, الذي لعب الدور الأكبر في تسليح الحصون الجوفية خلال الحرب الباردة, فقد كان يشهد إلغاء مهماته أو تغييرها شيئاً فشيئاً. وكان لهذا التطوّر أثره الحزين في النفوس. فبعض أفراد هذا الفيلق, كرّسوا حياتهم لهذه المنشآت من أجل صيانتها, والمحافظة على السرية البالغة التي كانت تحيط بها. ففي تلك الفترة من الزمن, لم يكن نادراً أن تجهل زوجات هؤلاء أو المقربون منهم, كل نشاط عن عملهم أو حتى موقع الأماكن الخاضعة لمراقبتهم.

 

البنى التحتية المدنية لا تزال في الخدمة

بعد أن أصبح عددها معروفاً اليوم, سوف يُصار الى تجريد مئات الحصون هذه, شيئاً فشيئاً من السلاح. لكن مستقبلها لم يتم تحديده بعد بشكل واضح. ويميل بعض المسؤولين الى المحافظة ­ البالغة التكاليف ­ على هذا التراث, لا سيما عبر إيجاد مخارج تحمل صفة سياحية ­ عسكرية. ويرغب بعضهم الآخر أن يتخلى بكل بساطة عن هذه القلاع, التي يعتبرها ندبات, خلّفها الزمن الغابر. وحدها البنى التحتية المدنية, لم تطلها عملية إعادة النظر بهيكليتها. فوجودها لا يبدو أنه يشكل موضوعاً للجدل, إذ لا تزال صالحة للعمل, في حال وقوع حوادث نووية أو عمليات إرهابية أو حتى نشوب أي نزاع. وتقول مصادر سويسرية أن البلد قادر على حماية سبعة وتسعين بالمئة من سكانه في مثل هذه الحالات, أي ما يعادل ستة ملايين وسبعمئة ألف شخص, من أصل سبعة ملايين. أما بالنسبة لفرنسا, فهي لن تتمكن على الأرجح من توفير الحماية سوى لألوف قليلة من الأشخاص.
ويجري حالياً إعادة تأهيل بعض التحصينات فقط, التي تحمل طابعاً عسكرياً, والتي تشمل مغاور الطيران المدهشة المحفورة في الجبل, مثل مطار ميرنجن الجوفي, الذي يجري العمل فيه لاستقبال طائرات "FA-18", التابعة للقوات الجوية السويسرية. أما خارج هذه الإستثناءات, فسوف يقتصر دور معظم هذه القلاع على إغناء تراث عسكري وتاريخي, بقي بعيداً عن أي نزاع مسلح, منذ أكثر من أربعة قرون.

 

فريدٌ من نوعه في أوروبا مصنع كهرمائي تحت الأرض

هـذا المصـنع الكهرمائي (يولّد الكهرباء بواسطـة المـاء), هو الوحيد في أوروبـا. أنشئ بكامـله تحـت الأراضي السويسـرية, لأسـباب استراتيـجية. يقـع على مستوى شـاقولي بالنسـبة لخمـس بحيـرات اصطـناعية, ويعـود بناؤه الى سنة 1930. ويعمل المصنع على المياه المحتجزة وراء خمسة سـدود والتي تندفع في قلب الجبل على ارتفاع خمسمئة متراً, لتصل الى محـركات تدور بقـوة المـاء وتكـون سرعتـها آنـذاك خمـسمئة كيـلومتر في الساعة. والمصنع
(KWO) الكائن في غريمسل باس ينتج كمية من الكهرباء تعـادل ما ينتجه مركـز نووي, ويؤمـن التيار الكهربائي لكافـة المناطـق السويسرية.
ويأتـي مئـة وخمسون مهـندساً وعامـلاً, ليشـتغلوا يومـياً في هذا المصـنع, تحت خمسمئة متر من صخر الغرانيت, وذلك في الشتاء, كما في الصـيف. وإذا كانـت طريـق غريمسل باس تسمـح في الصيف بالوصـول الى مدخـل المصنـع تحـت الأرض, فالأمر يستـدعي في فصـل الشتاء, وعندما يكون الممر مغلقاً بسبب الثلوج, وجود قطار صغير تحت الأرض, يدخل الى مبنى المصنع بعد أن يقطع مسافة خمسة كيلومترات. ويضطر الموظفون الذين يتمكنون من الصعود بسياراتهم, الى سلوك نفق طوله ثلاثة كيلومترات حُفر في قلب الصخر, حيث تجتمع الشاحنات والباصات والسيارات الصغيرة.
أما المشهد غير المألوف فهو مشهد الباص الذي يرتفع عالياً على منصة, ليأخذ أحياناً مكان التلفريك!