قضايا اقليمية

سياسة القوة الإسرائيلية تــــنهار على رؤوس أصحابها

وزير الخارجية الاميركية السابق جيمس بيكر يقول: إن دعم الإدارة الاميركية الأعمى ليساسة شارون الهمجية والراديكالية سوف يزيد من أزمة بلادنا في الشرق الاوسط"

اعتمدت الحكومة الصهيونية اليمينية المتطرفة الحالية برئاسة آرييل شارون، سياسة أحادية البعد تجاه التسوية المتعثرة على المسار الفلسطيني، وهي تقوم على مبدأ ان ما لم يتم تحقيقه بالقوة مع الشعب الفلسطيني، يتم تحقيقه بقوة أكبر. ولتبرير هذه السياسة الجائرة وغير المنطقية، تم اللجوء الى استخدام مغالطة ذرائعية يأباها المنطق السليم وتقوم على أساس مقولة "إن الإحتلال باق ما دامت هناك مقاومة"، وذلك على خلاف المعادلة الطبيعية والمنسجمة مع القوانين والأعراف الدولية والقيم الإنسانية والتي تقول "إن المقاومة باقية ما دام هناك احتلال".


لقد استمرت هذه الحكومة في غيّها وأطلقت العنان لكل أشكال البطش والتخريب والهدم في حياة الفلسطينييين، معيشياً وسياسياً، فعطّلت مشروع "خريطة الطريق" من خلال وضع 14 تحفظاً عليه. ورفضت المبادرة العربية المعلن عنها في بيروت وأسقطت حكومة أبو مازن، ورفضت تفكيك بعض البؤر الإستيطانية حتى غير المجدية منها، واستمرت في بناء جدران الفصل العنصري في القدس وعلى امتداد المدن والقرى العربية القريبة من الخط الأخضر، وقد استغلت في ذلك تراجع الإدارة الأميركية عن الاهتمام بالمنطقة بسبب بدء موسم الحملات الانتخابية للمعركة الرئاسية في العام المقبل، وحاجة المرشحين التقليدية للصوت والمال اليهوديين. وهذا على الرغم من تحذيرات كثيرة لقادة هذه الإدارة من أن الدعم الأعمى والمستمر لسياسة شارون الهمجية والراديكالية، سوف يزيد، على حد قول وزير الخارجية الأميركية السابق جيمس بيكر "من أزمة بلادنا في الشرق الأوسط"، ويضيف بيكر "قد تأتي تلك اللحظة التي قد لا نجد فيها موطئ قدم لنا هناك. وهذا يشكل مدخلاً حقيقياً، وغير مشرّف، في اتجاه الكارثة"، ولم يكتف بيكر بهذا التحذير وحسب بل أضاف يقول: "إن شارون قد يطردنا من تلك المنطقة البالغة الحيوية بالنسبة لمصالحنا الإستراتيجية".


والذي زاد الطين بلة في هذا السياق وفي هذه اللحظات الحرجة، ان إدارة الرئيس بوش خفضت حجم وميزانية الفريق الذي سبق لها أن أرسلته الى المنطقة في وقت سابق من هذا العام، لمراقبة تطبيق خارطة الطريق. الأمر الذي شجع بعض النشطاء الفلسطينيين والإسرائيليين على طرح مبادرة بديلة للتسوية أخذت اسم مبادرة جنيف، والتي أطلقها كل من يوسي بيلين عن الجانب الإسرائيلي وياسر عبد ربه عن الجانب الفلسطيني، وتقع في ثلاثين صفحة نشرتها الصحف الإسرائيلية والعربية ويتم التخطيط لتوزيعها على نحو مليوني منزل يهودي في إسرائيل، بهدف التأكيد على وجود بديل سياسي عن العنف والإرهاب اللذين يمارسهما شارون كخيار وحيد لفرض الأمر الواقع الظالم المرفوض من الشعب الفلسطيني وسائر الأهداف العربية والدولية المعنية بهذه القضية.
وما من شك في أن رد الفعل الهستيري من قبل شارون وحكومته على هذه المبادرة، إنما يدل على إحساسها بالفضيحة والإنكشاف أمام الرأي العام الإسرائيلي بنوع خاص، الذي تم تلقينه درس عدم وجود شريك فلسطيني للتحاور معه، لتبرير سياسة الشلل والعجز على المستويين العسكري والسياسي.


وهكذا تعاقبت على رأس شارون الضربات انطلاقاً من التحقيقات الجارية معه ومع ابنيه بتهمة فساد مالي وسوء تصرف، وانتهاءً بالمقابلة الصحافية المدوية التي أجراها رئيس أركان جيشه، الجنرال موشيه يعلون، الذي، على الرغم من تطرفه هو الآخر، وجد أن ما يفعله شارون ووزير دفاعه موفاز، قد وصل الى خط أحمر لا يمكن السكوت عنه بسبب تهديد مصالح إسرائيل الإستراتيجية العليا.


ففي إجراء غير مسبوق في الحياة السياسية الإسرائيلية الداخلية، دعا الجنرال يعلون عدداً من الصحافيين الإسرائيليين البارزين العاملين في أهم الصحف الإسرائيلية وهي "يديعوت أحرونوت" و"هآرتس" و"معاريف"، وراح يهاجم وزير الدفاع شاؤول موفاز وينتقد أداءه على خلفية نظرته وتعامله مع الفلسطينيين. كما وشن هجوماً جريئاً جداً على سياسة حكومة شارون برمتها بسبب أدائها العملاني والسياسي. واعتبر أن الغالبية الساحقة من قادة الجيش تشاطره الرأي في ضرورة إحداث انعطافة مدروسة في السياسة التكتيكية المطبقة تجاه الفلسطينيين، من خلال السعي للحفاظ على السلطة الفلسطينية، والتعاون معها والانسحاب من معظم المدن الفلسطينية، وتركيز المعركة العسكرية والأمنية فقط ضد المنظمات المسلحة. وبناء على ذلك اقترح يعلون إجراء تسهيلات كبيرة في حياة المواطنين المدنيين الفلسطينيين، مثل فك الحصار عنهم وفتح الطرقات أمام النقل والتجارة، ومنح بضع عشرات الألوف منهم تصاريح العمل وإزالة عدد من الحواجز.


إلا أن أصحاب القرار النهائي في السياسة الأمنية الإسرائيلية، وفي مقدمتهم موفاز ومستشاره الأمني الجنرال عاموس مالكا، وقفوا بحزم ضد هذه الإقتراحات بحجة أن بعض الفلسطينيين قد يستغلون مثل هذه التسهيلات لتنفيذ عمليات تفجير كبرى داخل المدن الإسرائيلية. وفي المقابل وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون تهديداً علنياً ليعلون بإقالته من منصبه وأمر وزير دفاعه موفاز بتوجيه توبيخ شخصي ومباشر ليعلون، علماً بأن هذا الأخير هو الذي كان قد قاد الحملة الداعية لتصفية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات واعتبار ان وجوده في قيادة الشعب الفلسطيني يعرقل مسيرة السلام. ومع ذلك، فالظاهر الآن، أن يعلون، على ما يبدو، قد أجرى نقداً ذاتياً جزئياً عندما اعتبر أن حديثه الصحافي لم يكن يهدف الى الانتقاد بقدر ما كان يريد أن يقدم تحليلاً للأوضاع بصوت مرتفع انعكاساً لما يدور ميدانياً وفي كواليس الجيش. وقد نقل عن لسان يعلون قوله: "أنا لا أريد أن يتكرر ما حدث عام 1973 عندما خاف قادة الجيش من الكشف عن تذمرهم من ركود الحركة السياسية، وسكتوا عن المعلومات التي وصلت اليهم وقالت: إن الدول العربية لم تعد تحتمل استمرار الإحتلال وتنوي شن الحرب. وعندما شنوا الحرب فعلاً، خرجت القيادة السياسية نظيفة الكفين، بينما وجهت الإنتقادات الى الجيش وتمت محاسبة قادته". ودافعت الناطقة بلسان الجيش عن يعلون بتذكيرها موفاز، وزير الدفاع الحالي، الذي وبخ يعلون، بأنه هو نفسه الذي كان قد تعاطى السياسة عندما كان رئيساً للأركان عام 2000 حينما انتقد سياسة رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه ايهود باراك بسبب قراره سحب جيشه المكسور من لبنان.


باختصار يمكن القول إن ما يحصل حالياً من مماحكات ومجادلات واتهامات متبادلة بين مختلف القيادات السياسية والعسكرية في كيان العدو، إنما يدل بصورة لا تقبل التأويل على فشل سياسة القوة المتوحشة التي اعتاد عليها شارون منذ صباه، وعلى أن هذه السياسة، قد بدأ منطقها ينهار وكذلك تبريراتها وهيكلياتها، على رؤوس أصحابها، تماماً كما انهارت على صخرة الصمود والمقاومة والوحدة الوطنية في لبنان أيام إيهود باراك الذي ما يزال حتى اليوم يلوك طعم مرارتها اللاذع.

رئيس أركان الجيش الإسررائيلي الجنرال موشيه يعلون يجد أن " ما يفعله شارون ووزير دفاعه موفاز قد وصل الى خط أحمر لا يمكن السكون عنه بسبب تهديد مصالح إسرائيل الاستراتيجية العليا"