أمكنة وحكايات

شارع ولا كل الشوارع
إعداد: الملازم هشام أبو صالح

في قلب العاصمة بيروت، شارع ينبض بالحياة، اجتماعي بامتياز، لا يعرف الليل من النهار، تزيّنه الحسناوات، وتلتقي فيه المتناقضات. فهو منزل الأغنياء والفقراء، مقصد الكبار والصغار، محطّ رحال الأدباء والشعراء... إنّه باختصار شارع الحمرا، أو شارع 31، أحد شوارع المدينة العريقة ومهد المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي، وقد اشتهر باسم «شانزيليزيه بيروت».
يحيط به من الشمال شارع بليس ومن الجنوب شارع سبيرز، إنّه قلب بيروت النابض بروح الشباب والحياة والحيوية. لجأ إليه بنو الحمرا مطلع القرن الخامس عشر فأعطوه الإسم. ويروي الكاتب والمؤرخ صالح بن يحيى في كتابه «تاريخ بيروت» أنّ بني الحمرا هم قبائل يمنية كانت تعيش على ضفاف الخابور شمال العراق ومن هناك أتوا إلى لبنان ومن ثمّ إلى بيروت. وكان ما كان من دروب الزمان، من محاسنه وويلاته، حيث وصل شارع الحمرا إلى ما هو عليه من شهرة في زماننا الحاضر. ولعل أحد أهم الأسباب التي جعلت منه مركزًا على هذه الأهمية، هو قربه من جامعة بيروت الأميركية والجامعة الأميركية - اللبنانية وحضانته لبعض أهم الفنادق اللبنانية.

 

من أين نبدأ بالكلام عن شارع الحمرا؟ قد يكون الجلوس في أحد مقاهيه، حيث يمكن النظر إليه بمنظار يغطي جوانبه الأربعة، أفضل الطرق لوصفه. 
إنها الساعة الثامنة صباحًا: هنا عمّال النظافة يملأون الشارع، المحلات التجارية تهم بفتح أبوابها، وأبو يحيى بائع القهوة، يقرقع بفناجينه. هناك أصحاب «البدلات» الرسميّة من إداريين وموظفين في طريقهم إلى أعمالهم. أمّا أبو جهاد فيزيل الغطاء عن جسده النحيل بكل هدوء، ليبدأ التسوّل، مهنته التي احترفها منذ زمن بعيد. طلاب الجامعات متأبطو الكتب بيد وكوب «النسكافيه» الأخرى يتجاوزون الشارع ليلتحقوا بمراكز دراستهم على بعد خطوات، بعضهم يتمايل في خطواته، وبعضهم الآخر يمشي بنشاط وحيوية.
مع اقتراب الساعة العاشرة، يبدأ نهار النساء اللواتي يهوين التسوق والتسكّع. يقصدن أرقى محلات الموضة. والقابع هنا أو العابر هناك تلتقط أذناه عبارات من نوع: «اشتريت حقيبة جلدية بـ1000 دولار»، فتردّ زميلتها «وأنا اشتريت بالأمس، ثوبًا للسهرة بـ1560 بس، بجنن!».
في أحد مقاهي الشارع يجلس رجل، في العقد الخامس من العمر، شاحب اللون، وبيده جريدة، يبتسم حينًا ويهز برأسه حينًا آخر، كأنّه يناجيها، فتحدثه عن مآسي البلد وويلاته ويقرأ بين حروفها هواجسه المتلاطمة.
الساعة 2 ظهرًا، إنّه وقت الازدحام، يرتفع الضجيج وتزعق أبواق السيارات. وقد يتوقف المارة على تلاسن ما بين سائقي السيارات العمومية وتنافسهم لقنص الزبائن. إنه وقت الذروة، حيث يهمّ الموظفون والعاملون بالمغادرة إلى منازلهم، أو يقصدون أحد المطاعم لتناول وجبة الغداء. فلكل مقام مقال في الحمرا، فيه تجد المطاعم الفاخرة ومطاعم الوجبات السريعة، ومحلات السندويشات.
تدبّ الحياة في شارع الحمرا كأنها لا تريد أن تتوقّف أبدًا. أمّا المتسوّل أبو جهاد فلا يزال ملازمًا مكانه... ومع مضي الوقت، يبقى الازدحام سيّد الموقف، ويقوم مربو الحيوانات الأليفة بممارسة رياضة المشي على رصيف الحمرا الضيق مع كلابهم وحتى مع النسانيس الصغيرة (السعادين). وها هم المراهقون من كل الأعمار يقصدون مراكز التسلية واللعب، فمنهم من يقصد صالات «البليار» أو غرف الألعاب الإلكترونية أو قاعات «البولنغ». فالحمرا شارع خدماتي بامتياز، يجد فيه الشخص كل ما يشتهيه ويتمناه، حتى المصلي يجد مصلاه أمّا قاصد اللهو فلا يعدم ملهاه.
حوالى الساعة الخامسة عصرًا، يكاد المارّ في الحمرا يتعثر ببائعي الورود الصغار. لا يتعدى عمر الواحد منهم الاثنتي عشرة سنة. أسمر اللون، لوّنته الشمس، نحيل، ثيابه رثّة، بارع في مهنة الإحراج. ينقضّ هذا العفريت الصغير على كل ثنائي كانقضاض السبع على فريسته. «الله يحميلك اياها، كرمال عيونا الحلوين» عبارة يرددها توفيق أحد بائعي الورد - المختار توفيق كما يسميه الشباب- الذي يعرف كل شاردة وواردة في الشارع. توفيق هو مفتاح الباب للوصول إلى حسناوات الحمراء، فما عليك إلا أن تعطيه ثمن وردة، وتشير إلى فتاة ما، فينطلق إليها، وإذا حالفك الحظ تحصل على رقم جوّالها.
مع غياب الشمس يبدأ رسام «الغرافيتي» برسم أشكال هندسية رائعة على جدران الشارع الإسمنتية الجامدة، فيعطيها حياةً ورونقًا فريدين. وفي هذا الوقت أيضًا، تبدأ المباراة بين الناس للفوز بمكان لركن السيارة، ومن يقنص موقفًا يشعر بأنّه فاز بالجائزة الكبرى. ولكن، أبو آدم عامل العداد، يقف بالمرصاد، وقلّما تفلت من قبضته السيارات المركونة في الشارع بصورة غير قانونية.
في إحدى زوايا الشارع، بالقرب من المحلات المقفلة، يتجمهر الشباب أصحاب الهوايات الغريبة والخاصة، ومنها الـ «break dance». وفي الناحية المقابلة، هواة دراجات «BMX» و«Skateboard»، وليس بعيدًا عنهم عازف الجيتار...
مع حلول الليل يبدأ هواة السهر بالتوجّه إلى شارع الحمرا، حيث تمتلىء المقاهي بالناس من جميع الأعمار، خصوصًا محبّي النرجيلة.
في زاروب «Alley way» و«شارع مقدسي» تفتـح الحانات أبوابها للزبائن، ولا تمضي دقائق حتى تمتلىء بهم. تتصاعد أصوات الموسيقى الصاخبة التي يخترقها «تشفيط» الـ«325 BMW» (الوطواط)...
ظاهرة في الحمرا أيضًا يعرفها رواد هذا الشارع، يجلس بعض الشباب على إحدى الطاولات، ويدور التحدي: من يجمع أكبر عدد من أرقام هواتف البنات، في الشارع؟ ولحسن الرفقة إذا فاز أسامة مثلًا برفقة أحداهن، فلا يلبث أن يدعوها مع صديقتها، ويدعو صديقه ليخرج الأربعة معًا في اليوم التالي. المبارزة تعود بالمنفعة على الطرفين، ولكن الخاسر يدفع الفاتورة.
الأجانب يحبون شارع الحمرا، الذي أصبح ملتقى الحضارات والثقافات. وقد كتبت إحدى السائحات الأجنبيات، على موقعها الالكتروني: «أكاد أبكي لمغادرتي شارع الحمرا، إنّه مطبوع في ذاكرتي ولن أنساه أبدًا...».
فعلًا، إنّه الشارع الذي يجمع بين الأحمر والأصفر، بين الأبيض والأسود، بين العفيف والفاجر، إنّه شارع المتناقضات، ولكنّه يحسن الجمع بينها، وكأنّه سيمفونية تعزفها كل الأيدي.