قضايا اقليمية

شارون في مواجهة الإكراه الإستراتيجي
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

رغـم ان الطاقـات العربية غير موجّهة بأكملها تجاه اسرائيل, ورغم أنّ بعض الدول العربية تطرح خيار السلام مع الكثير من التساهـل, فإن الإسرائيليــين, الذين يئنون تحت وطأة حرب إستنزاف طويلة الأمد وعالــية الكلفة, من جراء سياساتهم العدوانية وتصدي المقاومة والإنتفاضة لهذه السياسات, يدركون تماماً أنهم واقعـون تحت وطأة الإكراه الاستراتيجي, والذي تجلى في مظاهر عديدة من العجز وفقدان الخيار, منذ أن اقتيدوا رغماً عن أنوفهم الى مؤتمر مدريد عام 1991, ثم الى أوسلو عام 1993.
وها هم اليوم تحت سلطة الإرهابي العتيق آرييل شارون, يتخبطون سياسياً وعسكرياً وأمنياً للتملص والخلاص من حالة الإكراه هذه, مستفيدين من فرصة تزوير الحقائق التي يساهمون فيها بإمتياز في أعقاب أحداث 11 أيلول في كل من واشنطن ونيويورك.
من هنا لا بد من النظر الى شارون وحكومة (الوحدة الوطنية) التي يترأسها, على أنهما يمثلان الحالة الصهيونية الراهنة بصورتها الموضوعية, أي ليس بصفته الشخصية وحسب بل بصفته البرنامجية العامة, التي تختزن وتعكس أزمة الشارع والمشروع الصهيونيين, هذه الأزمة التي تعبر عنها بوضوح مفارقة الإئتلاف الواسع حول برنامج شارون الشوفيني المتطرف, الذي يغدو فيه أقطاب اليسار, أمثال بيريس وبن اليعيزر, تابعين لشارون نفسه في التطرف والممارسة العملية, في حـين أن قوى المعارضة لهذه الحكومة وبرنامجها لا تكاد ترى إلا في الأحزاب العربية وبعض أطراف اليسار المحدودة, التأثير والفعالية.
ولعل هذه الخريطة السياسية الغريبة العجيبة في كيان العدو, تأتي كنتيجة لنوعين من الأزمات: أحدهما على المستوى الوطني العام وثانيهما يرتبط بأزمة الأحزاب وقياداتها, حيث بات من الصعب على أي معسكر من المعسكرات الناشطة أن يقود الدولة بصورة منفردة.
وقد أثبتت التجارب دائماً أن أسوأ السياسات الإسرائيلية إنما تمارس بحق الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء, في ظل مثل هكذا حكومات تعيش حالة الإكراه الإستراتيجي من ناحية, وحالة الإزدواجية والتناقض من ناحية ثانية.
وما من شك في أن حرب شارون وحكومته على إتفاقيات أوسلو ومتفرعاتها, وغسل اليدين نهائياً من القرارات الدولية الصادرة منذ العام 1967 وحتى اليوم, مروراً بمستلزمات مدريد وأجوائها, إنما هي بمثابة محاولات يائسة ومستميتة للخروج من حالة الإكراه التسووية (السلمية), وترك العرب والفلسطينيين يتخبطون فيها لوحدهم, سواء من خلال مقاومة أي تدخل أجنبي في موضوع الصراع على الأراضي المحتلة عام 1967, أو من خلال رفض أية مبادرة عربية سخية كمبادرة الأمير عبدالله الأخيرة التي تحولت الى مبادرة عربية شاملة لخصها ما سمي بإعلان بيروت.


لقد سبق لقيادات صهيونية عديدة أمثال دافيد بن غوريون, أن عبّروا عن عدم حاجتهم وعدم رغبتهم في أية تسوية سلمية مع العرب عامة, والفلسطينيين خاصة. فبن غوريون كان يقول: (إن الهدنة تكفينا), والجميع يعلم مدى الدور المباشر والفعّال الذي قام به شارون في التحريض ضد اسحق رابين عندما انعطف نحو أوسلو, ونحو خيار الشرق أوسطية, مما أدى الى إغتياله ومجيء شارون نفسه في مكانه, هذا عدا عن أن شارون سبق له أن عارض الصلح مع مصر والأردن مثلما عارض الإنسحاب من لبنان لولا أن تبين له بعدئذ أن كلفة البقاء هي أعلى بكثير من كلفة الإنسحاب.
وكانت حسابات شارون ومؤيديه في الخط الديني المتعصب والخط اليميني المتطرف, أن إنعطاف إسرائيل الحقيقي والإستراتيجي نحو التسوية السياسية للصراع العربي ­ الإسرائيلي, بما فيه الصراع مع الفلسطينيين, إنما يعني نزول إسرائيل من عليائها وكبريائها كدولة إقليمية عظمى, وكحصن حصين للإمبريالية الأميركية والغربية في وجه (البربرية) العربية والإسلامية, الى مجرد دولة شرق أوسطية مقيدة اليدين باتفاقيات تسوية تضرها أكثر مما تنفعها, وتطالبها بالتزام حجمها المحدود جيوسياسياً وجيوستراتيجياً, بعد إسقاط ذرائعها التوسعية الأمنية والعسكرية.
ولقد أدرك شارون, الذي نادى في مطلع الثمانينات بدوائر النفوذ الإسرائيلي الممتدة من حدود باكستان والهند الى مجاهل أفريقيا, أن القبول بهذا التحجيم الإلزامي لإسرائيل, سوف يعني الخضوع القاتل لمعادلة الإكراه الإستراتيجي التي لا يمكن أن تحصل إلا عندما تعترف الأمة بانهيارها وإنحنائها تحت وطأة أثقال وأعباء خطيرة من تهديدات العدو, المادية والنفسية, يستحيل عليها تحملها أو مواجهتها.


وأدرك شارون أيضاً أن ذهاب الإسرائيليين, الذين يعانون في الآونة الأخيرة على الأخص, من حالات خطيرة من التفكك والتنافر العرقي واللغوي والطائفي والحزبي والمصلحي, في هذا المنزلق, سوف يكون على قدر كبير من التعرض للخطر, بحيث سيصعب على أية قيادة سياسية أو عسكرية من بعده, أن توقفهم عند حد منه.
وبالتالي ففي مثل هذه الحال, سوف يأخذ مضمون الوجود القومي الإسرائيلي نفسه في التفتت, ويلحق به تباعاً المضمون الروحي والمادي للمجتمع الإسرائيلي التركيبي الواقع تحت وطأة إشكالات إجتماعية وسوسيو­إقتصادية وأمنية لا حصر لها.
على هذه الخلفية اعتبر شارون والمتعاطفون معه أن أي (تنازل) سياسي ­ سلمي أمام الفلسطينيين والعرب, لن يكون له من مغزى سوى بدء عملية العد العكسي للإنهيار الذاتي ودخول إسرائيل والمشروع الصهيوني برمته في حالة من الشيخوخة وترقق العظام.
في مقابل هذه الحقائق يرى بعض الباحثين الإسرائيليين أن الخطورة في الموضوع هنا, تكمن في تنبه العرب والفلسطينيين الى تبعات ومستلزمات تداعيات سقوط إسرائيل في هذه الحالة من الإكراه الإستراتيجي, الأمر الذي, بقدر يسير من الفطنة والذكاء, سيخولهم إستغلالها وانتهازها حتى النهاية, لرفض الحد الادنى من التنازل الذي يعرض عليهم, والمطالبة بالحد الأقصى من الحق المسلوب منهم, وذلك من دون الحاجة حتى الى توفر قدرات قتالية زائدة عن اللزوم أكثر مما تتطلبه المقاومة الشعبية المسلحة والإنتفاضة.


وفي حسابات الربح والخسارة, التي يأخذها شارون بعين الإعتبار في حال رضوخه واستجابته لحالة الإكراه الإستراتيجي التي تتخبط فيها إسرائيل, فإنه يرى أن السلام والتسوية مع الفلسطينيين والعرب لا يساويان قيمة الورقة التي كتبا عليها, خاصة وأن إسرائيل اليوم تمتلك من النفوذ والقوة ما يجعلها دولة عابرة للقارات. وبالتالي فالسلام والتسوية لن يكون من نتائجهما سوى تحجيم قدرات إسرائيل وافقادها ثرواتها الإستراتيجية في الضفة الغربية والجولان وجنوب لبنان, وتعريفها لمخاطر الحرب في المستقبل.
والسلام المعروض على إسرائيل في المبادرة العربية الأخيرة, في نظر شارون, وضمن الظروف الراهنة من الصراع, لن يكون معناه سوى إفقاد إسرائيل مبرر وجودها القومي خاصة إذا قبلت بتفكيك المستوطنات وتقسيم القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين, مثلما سيعني أيضاً قبولها بإنخفاض قيمتها كثروة إستراتيجية كبرى في نظر الولايات المتحدة, تضمن لها هيمنتها على نفط المنطقة وأسواقها وممراتها المائية والجوية والبرية, بحيث تشمل بنوع خاص السعودية والعراق ودول الخليج وصولاً الى أفغانستان ودول آسيا الوسطى على بحر قزوين, ناهيك عن سيطرتها على دول الشرق الأدنى وشمالي أفريقيا, مع ما يستتبع ذلك من خفض للمساعدات الأميركية وانخفاض في الوزن والأهمية الإستراتيجية.
بناء على ما تقدم, فإن السلام, في الحالات العادية عامة, والحالات الطارئة من الصراع حالياً, ليس في نظر إسرائيل سوى صفقة خاسرة على الدوام من جميع الزوايا والإعتبارات. وفي الحسابات الشارونية بالذات, لن يكون معنى السلام سوى قبول هذا المجتمع الإستيطاني بالإنتحار الجماعي عن سابق تصور وتصميم, خاصـة إزاء ما يعيشه الإسرائيليـون في هواجسهم الدينية والنفسية والتاريخية من حالة رعب عميـق تثيره أسطورة حتمية نشوب ما يسمى حرب (هرمجدون) التي لن تبقي ولن تذر.