قضايا إقليمية

شارون مـــرآة تعكس الوجــــه الحقيقي لإسرائيل
إعداد: إحسان مرتضى

يوماً بعد يـوم, يعود الشعب الإسرائيلي بغالبيته القصوى, ليؤكد من جديد ثقته المطلقة برئيس وزرائه أرييل شارون, وهذه الثقة تزداد تأكيداً عبر استفتاءات الرأي, خاصة بعد أن يكون هذا الأخير قد قـدم لشعبه وجبة جديدة دسمة من دماء المدنـيين الفلسطينيين الأبريـاء, في المدن والـقرى التي تنـام وتصحو على مزيد من القتل والتدمير والتشريد والتعذيب. وكأنّ شارون يريد أن يتقمـص شخصية يوشـع بن نون حسبـما هي موصوفـة في التوراة, على أنها شخصية القائد العسكري النموذجي في العقيدة اليهـودية, من حيـث إفراطه في إرتكاب المجازر والمذابـح بشتى فنون التنـكيل وهتك الحرمات.

لقد أكد الإسرائيليون تمسكهم بأرييل شارون, مرتكب مجازر دير ياسين وقبية وصبرا وشاتيلا وجنين ونابلس وسواها, الوجه الحقيقي لهذه الدولة المغتصبة التي تجسد أفضل تجسيد عقلية الإحتلال والرغبة في الهيمنة والسيطرة المطلقة على كل شيء في هذه المنطقة. والممارسات الحاصلة في هذه الأيام في الأراضي الفلسطينية المحتلـة عام 1967, ما هي سوى نمـوذج نمطي على ما يمكن أن يحصل في أي أرض عربية أخرى يمكن أن تحتلها إسرائيل اليوم أو في المستقبل, من حيث إبتلاع هذه الأرض ونهب خيراتها وثرواتها إستكمالاً للحلم الصهيوني ­ اليهودي الممتد من الفرات الى النيل. ومعلوم أن شارون يرفض التخلي عن أي شبر من الأراضي العربية التي احتلت عام 1967 وما بعدها في كل من الجولان ومزارع شبعا وأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة, حيث تنبت المستوطنات الجديدة كل يوم وتنـتفخ حتى ولو من دون مهاجريـن غـزاة جدد, يحاول شارون استجـلابهم من فرنسا والأرجـنتين وجنـوب أفريقيا بنوع خاص.
هذه هي صـورة السلام التي يريدهـا المجتمـع الإسرائيلي اليوم, وهو سلام قائم على التلاعب والإرتداد عن المرجعيات والإتفاقات الموقعة مع الجانب الفلسطيني, كما ويقوم على تحدي إرادة الولايات المتحدة والأمم المتحدة وعلى رفض إرادة سائـر عناصـر المجتمع الدولي من الصـين وحتى أوروبا. وهذا ما حذر منه المستشار السابق لشؤون الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي كارتر, زبغنيو بريجنسكي إذ قال: “إن شارون لا يريد محاربة الإرهاب فحسب بل يريد زعزعة السلطة الفلسطينية وإلغاء إتفاق أوسلو الذي رفضه منذ البداية... ومن هنا فإنه ما لم تتدخل الولايات المتحدة بأكثر من خطط ميتشل وتينيت وبأكثر من النظريات غير الملزمة, وبشيء واضـح من خطـط محددة, فإن الأوضـاع سوف تتدهـور من سيء الـى أسوأ”.
وهذا ما حصل بالفعل. فشارون لم يقلّ عناداً وتحدياً للإدارة الأميركية من سلفه, رئيس الحكومة الأسبق إسحق شامير, الذي لم يذهب الى مؤتمر مدريد إلا على مضض, وقد أدى عناده في حينه الى أن قطع وزير الخارجية جيمس بيكر الإتصال به صارخاً في وجهه: “إننا نريد أن نعرف من هو برب البيت هنا في البيت الأبيض أميركا أم إسرائيل؟!”.
كذلك فعل ويفعل شارون الذي إتهم الإدارة الأميركية بخيانة إسرائيل وبيعها كما باع الحلفاء تشيكوسلوفاكيا الى هتلر. وبالرغم من إعتذاره عن هذه المقارنة في ما بعد, إلا أنه واصل إستفزازه لإدارة بوش الإبن من خلال رفضه الإستجابة لسيد البيت الأبيض الذي طـلب منه مراراً وتكراراً إيقـاف حملات القتل والتدمير في الأراضي الفلسطيـنية التابعة للسلطـة الوطنية بكل اللهجات والتعابير “الآن” و”على الفور” و”من دون تأخير”. ولكن شارون استأنف ارتكاب جرائمـه الوحشـية من دون أي وازع من قانـون أو أعراق أو شرعة دولية. بل وأكثر من ذلك راح أحد وزرائه يسخر من الأميركـيين بقوله: “لقد أمضيتم حتى الآن سبعة أشـهر في أفغانسـتان من دون أن تكملوا مهمتكم. ونحن في حاجة لثـمانية أسابيـع أخـرى حتى نكمل مهمـتنا. فلـماذا لا تـتـركونـا نكـمل مهمـتنا؟!
وتكلم دافيد ليفي, وزير الخارجية الأسبق, بلهجة عدوانية فاضحة فقال: “نسمع أحياناً من يقول في أميركا إن شارون بعيد عن شعبه, لكنني أستطيع أن أؤكد أنه انتخب من قبل غالبية الإسرائيليين وأننا جميعاً نقف اليوم خلفه. العالم يقول لنا أن عرفات انتخب من قبل الشعب الفلسطيني وأنه لذلك لا حق لنا أن نحاربه, فدعني أذكرك يا سيد باول أن صدام حسين انتخب أيضاً من قبل شعبه فهل يعني هذا أنه لا يجوز لكم محاربته؟”.
بهذه الخلفية وهذا المنطق, وهذا التأييد الإسرائيلي, واصل شارون حرب الإبـادة الجماعية التي يشنـها على المجتمـع الفلسطيني المشرد في أرضه وارتكب مجازره الوحشـية في جنـين ونابلـس, وراح يتحدى الأمم المتحدة والرأي العام الدولي, برفضه إستقبال لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الأمين العام كوفي عنان, فقط لجمع الحقائق عما حصل, كواجب قانوني وأخلاقي وشرعي مفروض عليه بحكم منصـبه الإعتباري الرفيع, وهذا بـعد أن رفضـت إسرائيل والولايات المتحدة مطلب مجمـوعة الدول العربية في الأمم المتحدة تشكيل لجـنة تحقيق دولية في المجازر والإنتهاكـات التي وصلـت الى حـد جرائم الحرب وإبادة الجنس (هولوكوست).
وقامت قيامة إسرائيل ضد نائب الأمين العام للأمم المتحدة تيري رود لارسن, لتجرؤه على إنتقاد عنصرية الإجرام والتدمير التي مارسها شارون وضباط جيشه بأبـشع الأساليب السادية والنازيـة. وكانـت خطيئة لارسـن أنه وصـف ما رأى من خراب وقتـل بأنه عمـليـات لا يتحملها عقـل. ووصـف من أقدم عليها بأنهـم ليسوا من صنف البـشر, فاتهمـتـه آلـة الإعـلام الصهـيونية على الفـور باللاسامية وأنه حلـيف وصديق للمجمـوعـات “الارهابية” الفلسطينية!.
وهـذا ما حصـل أيضاً مع السيدة ماري روبنسون مفوضة الأمـم المتحدة لحقـوق الإنسان التي تجـرأت على فضـح الممارسات اللاأخلاقـية واللاإنسانية التي يقوم بها الجنود والضباط الإسرائيليون بحق المواطنين الفلسطينيين العزّل. وهي تحدت الإسرائيليين بأنها ستقول كلمتها كمفوضة دولية لحقوق الإنسان وتمشي, من دون أن تمكّن الحركة الصهيونية من عزلها, وبأنها ستنهي عملها تلقائياً من دون أن ترشح نفسها مجدداً لولاية أخرى, فتتفادى بذلك ما حصل مع الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي الذي تحدته وزيرة الخارجية الأميركية اليهودية مادلين أولبرايت وعملت على إقالته ومنعه من التجديد, لمجرد أنه تجرأ على نشر تقرير تقني حقيقي وواقعي يثبت المسؤولية الرسمية لإسرائيل عن إرتكاب مجزرة قانا عام 1996 أثناء عملية عناقيد الغضب ضد لبنان, عن سابق تصور وتصميم, وذلك بالشواهد والصور الحية.
ومثلـما تملـص شارون من تحمل مسؤوليته المباشرة عن مجـازر صبـرا وشاتيلا وتفادى حتى الآن إرغامـه على المثول أمام المحاكم الدولية في بروكسل أو جنـيف, ها هـو اليوم يتهرب من مسؤولياته المباشرة أيضاً عن إرتكاب الجرائم الوحشية في الضفة الغربية.
السؤال المـطروح اليـوم على شـارون والمجتـمع الإسرائـيلي والمجتمع الدولـي على حد سواء, متى وكيف ستـكون نهاية هذا السفاح الجاني في وقت يخوض معارك متنقلة ضد لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة وضد اللجنة البوليسية الإسرائيلية التي تحـقق معه في عمليـات تزوير شيكات وتمـويل جمعيات خدمة لزعامته في حزب ليكود, الأمر الذي حاول التملص منه وإلصاقه بإبنه حين قال “أنا لا أعلم كيف يظهر توقيعي على هذا الشيك”. كيف ستكون نهاية شارون في وقت تشهد فيه الدولة اليهودية حالة إقتصادية متدهورة, وفي وقت ما يزال سيف المحكمة الدولية لجرائم الحرب مسلطاً على عنقه, وفي وقت بات الإسرائيليون يشعرون بعمق الخيبة واليأس مما وعدهم به شارون أثناء حملته الإنتخابية, بتحقيق السلام والأمن, وهـي الخيبة نفسها التي أطاحت سلفه إيهود بـاراك, وفـي وقـت بات جميع المراقبـين السياسيين يدركون أن شــارون خاسـر لا محــالة أمـام عرفـات حيـاً أو ميتـاً, وهـو من أجـل ذلك يسعى الى خيار الإبعاد من خلال إسقاط فشله الذريع عليه. وهـذا ما دفـع صحيفة يديـعوت أحرونوت الإسرائيلية الى القول: “إن هزيمـة شارون أمام عرفات تضـع عليه خاتم الخاسر, وفي أوقـات الضـيق والعسـر فإن الجمهور ينفر من الخاسرين”.