شرذمة الخارطة السياسية في إسرائيل

شرذمة الخارطة السياسية في إسرائيل
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية.

مقدمة
في أجواء ممطرة وعاصفة, تظاهر بتاريخ العاشر من شهر كانون الثاني من هذا العام أكثر من مئتي ألف شخص ينتمون إلى مختلف ألوان الطيف الحزبي الصهيوني في ساحة الملوك في تل أبيب, وهي الساحة التي كانت قد شهدت عام 1982, احتشاد أكثر من أربع مئة ألف شخص احتجاجاً على غزو لبنان, من أجل التعبير عن احتجاجهم على أي انسحاب من مرتفعات الجولان السورية المحتلة. وكان من بين الشعارات الهامة التي رُفعت في حينه: “نحن هنا للاحتجاج لتبقى مرتفعات الجولان لنا” وأيضاً: “إنني يساري وأؤيد البقاء في هضبة الجولان”. والملفت ان التظاهرة قادتها لجنة رؤساء مستوطنات الجولان التي ينتمي أغلب أعضائها إلى تيارات متعاطفة مع حزب العمل([1]), في وقت أُجلس على منصة الشرف قادة وزعماء من حزبي مفدال (القومي الديني) و(إسرائيل بعالياه) الذي يمثل المهاجرين الروس بزعامة نتان شرانسكي وهما مشاركان في الائتلاف الحكومي الحالي برئاسة ايهود باراك.
والجدير بالذكر ان منظمي التظاهرة, أرادوا من خلالها, وهم الذين لا يمثلون اليمين القومي المتطرف ولا اليمين الديني الاصولي المتعصب اللذين يرفضان سلفاً أية تسوية عادلة في الجولان والضفة الغربية, ان يوضحوا لباراك انه لا يحظى بأغلبية في أي استفتاء شعبي يمكن ان يحصل في أعقاب الوصول إلى إطار تسوية مع سوريا, كما ارادوا ان يوجهوا رسالة واضحة إلى الرئيس الأميركي بيل كلينتون للوقوف على الحياد وترك الإسرائيليين يقررون مصير حدود دولتهم حسب احتياجاتهم الستراتيجية والداخلية من خلال رفع الشعار “لا تتدخل في موضوع الجولان, يا صديق”. وعدا عن ذلك فالتظاهرة كانت بمثابة رسالة إلى السوريين والعرب أجمعين بأنه لن تكون هناك تسوية في المنطقة إلا وفقاً لمتطلبات الأمن والسلام الإسرائيليين قبل أي شيء آخر.
على خلفية هذا المشهد السياسي الاجتماعي, كيف يمكننا قراءة دور شرذمة الخارطة السياسية في إسرائيل في تعطيل التسوية التي انطلقت على المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية, منذ العام 1991, وما تزال تدور حول نفسها في حلقة مفرغة بأسلوب رئيس الحكومة الليكودي المتطرف في حينه اسحق شامير الذي قال انه سيدير المفاوضات على أساس ان تمضي عشر سنوات طوال من التعب والمعاناة والتراكض هنا وهناك من دون الوصول إلى أية نتيجة؟؟

قراءة في نتائج الانتخابات الإسرائيلية وتداعياتها
يعتبر الباحث الفلسطيني وعضو الكنيست الإسرائيلي عزمي بشارة([2]) ان ايهود باراك انتصر في انتخابات رئاسة الحكومة عام 1999, ولكن انتصاره هذا لا يمكن اعتباره بمثابة حصول “انقلاب سياسي” بكلّ معنى الكلمة ضد خط اليمين القومي والديني الذي كان يتزعمه في السابق كلّ من اسحق شامير ثم بنيامين نتنياهو. وبالتالي لم يكن من الممكن على الإطلاق اعتبار ان “قوى السلام في إسرائيل هزمت قوى الحرب”, وإسرائيل باقية كما هي منقسمة على نفسها, بل انها ماضية قدماً في الانقسامات والتشرذم يوماً بعد يوم وفقاً لمنظومة جديدة من الاعتبارات والمصالح والضغوطات الداخلية والخارجية. والمغزى الأساسي الذي يمكن استخلاصه من تركيبة الكنيست الخامس عشر الذي يضم 59 عضو كنيست من اليمين التقليدي من اصل 120, والذي يشمل الليكود (19 مقعداً) + مفدال (5 مقاعد) + شاس (17 مقعداً) + إسرائيل بيتنا (4 مقاعد) + الاتحاد الوطني (4 مقاعد) + إسرائيل بعالياه (6 مقاعد) + يهدوت هاتوراه (4 مقاعد), هو ان المصطلح القائل ان المجتمع الإسرائيلي السياسي ينقسم إلى مجموعتين احداهما تؤيد التسوية والصلح مع الفلسطينيين والعرب عموماً والأخرى تعارض, ليس مصطلحاً مناسباً لتوصيف حقيقة الواقع الموضوعي لهذا المجتمع الذي تتجاذبه عوامل تأثير متناقضة ومتضاربة وغير ثابتة في شتى مجالات الايديولوجيا والمصالح الاتنية والطائفية.
وإذا نحن أضفنا إلى مجموع المقاعد السابقة إعتبار أنّ حزب شينوي (6 مقاعد) لديه نوازع يمينية وان حزب الوسط بقيادة اسحق موردخاي (6 مقاعد) بالإضافة إلى عناصر متطرفة حتى من حزب العمل لديها النوازع ذاتها, يتضح ان اليهود باراك, على افتراض ان لديه نوازع تصالح وسلام مع العرب, يقال إنها مستوحاة, يا للسخرية, من استاذه الراحل اسحق رابين, سيظل محاصراً طيلة الوقت ضمن دائرة ضغوطات القوى الرافضة أو المشككة على أقل تقدير في جدوى وصوابية الدخول في صفقة شاملة من التسوية مع المحيط العربي والإسلامي القريب والبعيد.
لقد أثبتت سيرورة التحولات في نتائج الانتخابات الإسرائيلية تراجع قوة الحزبين الكبيرين (العمل والليكود) في مقابل تنامي قوة الاحزاب الصغيرة الاتنية والدينية والقومية (شاس, المفدال, إسرائيل بعلياه, والحزبان العربيان: حداش والقائمة العربية) وذلك بسبب تضافر العامل المتمثل في قانون انتخاب رئيس الحكومة بصورة مباشرة من قبل الشعب مع عامل التحولات السياسية والاجتماعية البعيدة المدى في المجتمع الإسرائيلي, الأمر الذي انتهى إلى تعميق الانقسامات الاتنية والدينية والثقافية, وإلى بروز صعوبة متناهية ومعقدة في شأن التوصل إلى حسم خيارات الدولة المصيرية المتعلّقة بنوع خاص بقضايا السلم والحرب, وفي مقدمتها خيار التسوية التاريخية التي ذهب ضحيتها كلّ من شامير وبيريس ونتنياهو سياسياً في حين دفع رابين حياته الشخصية ثمناً لفشله في تسويقها في مجتمع يزداد شرذمة يوماً بعد يوم, الأمر الذي عبّر عنه عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلنغ([3]) بملاحظته ان أهم الدلالات الاجتماعية ـ السياسية للانتخابات هي انها كشفت بوضوح عن وجود ست ثقافات فرعية واضحة المعالم والحدود الاجتماعية تمثلها الأحزاب الصغيرة, في مقابل الثقافة الإسرائيلية الصهيونية العامة, التي تمثلها الأحزاب الكبيرة. وقد تزايد عدد الكتل المشكلة للكنيست من 10 كتل عام 1992 إلى 11 كتلة عام 1996, إلى 15 كتلة عام 1999([4]). ولكلّ كتلة ثقافتها العقائدية والسياسية والاجتماعية الخاصة تجاه كيانية الدولة وعلاقتها المستقبلية مع محيطها الحيوي القريب والبعيد.
من هنا يرى الباحث يتسحاق غلنور([5]) في كتابه “أزمة النظام السياسي الإسرائيلي” ان عجز القيادة السياسية عن اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة في اللحظات المفصلية من تاريخ الدولة, نجم أساساً عن التغيير الذي حدث في اداء الأحزاب ودورها في النظام السياسي. فبعد ان كانت الأحزاب الكبرى (الليكود والعمل) تصادر وتحتكر القرار السياسي, أصبحت بعد تراجعها لا تستطيع اداء الوظيفة نفسها؛ والتي تُختصر بتجميع المصالح وتحضير روزنامة القرار السياسي. من هنا فالنظام السياسي الإسرائيلي قد تحوّل إلى نظام تعددي متقاطب, والحزب المهيمن في كلّ قطب لا يحصل على أغلبية في الكنيست.
وهذا التحوّل يفسّر إلى حد كبير, الهبوط الحاد في استقرار المنظومة الحزبية, مما اضطر الأحزاب الكبيرة للجوء إلى تشكيل ائتلافات موسعة وإلى التفكير بحكومات وحدة وطنية لا يكون من نتيجتها على صعيد إدارة السياسة الخارجية سوى الجمود والشلل. ومثل هذا الوضع مشحون باستمرار بخطر حصول أزمات سياسية وديمقراطية في الوقت ذاته, وهذا عائد إلى انه كلما تعززت قوة الاحزاب الصغيرة على حساب الاحزاب الكبيرة, تزايدت أيضاً في الوقت عينه قيمة المكافآت والتعويضات السياسية والايديولوجية والمالية التي تطالب بها هذه الاحزاب لقاء انضمامها إلى الائتلاف, بحيث ان الحزب الديني الشرقي الخاص باليهود السفاراديم “شاس” قد أصبح قادراً ليس فقط على تقرير مصير الحكومة بل أيضاً على تقرير سلوكها ونهجها السياسي والستراتيجي.
وثمة ملاحظة أخرى لا بد من ابدائها في هذا السياق, وهي ان انتقال صفة التعددية في النظام إلى داخل الاحزاب الكبيرة قد أدى إلى بروز أهمية الصفات الشخصية الكاريزماتية للقادة السياسيين وما يتمتعون به من رصيد وخبرة في المجالين العسكري والسياسي, في مقابل ضعف أجهزة الاحزاب ومؤسساتها مما دفع ببعض الباحثين إلى اعتبار ان إسرائيل ماضية في خط الامركة والنظام شبه الرئاسي. وقد أدّت هذه التطورات إلى خلخلة الاحزاب خاصة الكبيرة وتحويلها من أحزاب جماهيرية بيروقراطية إلى أحزاب محترفة جمع أصوات, مما أفقدها الكثير من هيبة الزعامة وأربكها في إدارة دفة الدولة خاصة تجاه القضايا السياسية الخلافية المتعلّقة بالتعامل مع العرب خصوصاً عندما يبدي العرب مواطن ضعفهم ويشجعون القوى الطموحة والجموحة في الكيان الصهيوني على رفع سقف مطالبها وشروطها منهم.
لقد أثبتت دراسة الصراع الداخلي ما بين القوى المشرذمة في إسرائيل وجود ارتباط وثيق بين هذا الصراع وبين قضايا السياسة الخارجية الاسرائيلية, وفي مقدّمتها بالتأكيد قضية تسوية الصراع العربي الإسرائيلي وطبيعة الهوية السياسية التي ستحملها إسرائيل في غمرة التحوّلات الجارية على مختلف المستويات الداخلية والاقليمية والدولية.
والملاحظ ان أهم قضية من قضايا التسوية كافة بالنسبة إلى الصراع الداخلي في إسرائيل هي القضية الفلسطينية, وخاصة في ابعادها الامنية حيث تستقطب هذه القضية معظم الجدل ما بين الاطراف المختلفة. اما القضايا الاخرى, مثل الانسحاب من هضبة الجولان السورية والجنوب اللبناني, فيغلب على الاهتمام بها الطابع الموسمي, ويتزايد وزنها في حالات تكبّد القوات الاسرائيلية خسائر فادحة. ثم تأتي (أو لا تأتي) ضمن هذا الجدل, قضايا الترتيبات الاقليمية الامنية والاقتصادية, التي تراجعت بتراجع اليسار الوظيفي([6]).


كما يلاحظ انه على مدار عقد التسعينات تفاوتت مكانة قضايا التسوية بين قضايا الصراع الداخلي الأخرى... وفي المرحلة الراهنة, فرضت القضايا الثقافية الاجتماعية الاقتصادية ذاتها في سياق البحث عن وسيلة لتهدئة حدّة الصراعات الداخلية, من خلال التأكيد على الابعاد القيمية لليهودية([7])... اما سبب التراجع في اهتمام الاسرائيليين بضرورة التسوية مع العرب فيعود إلى تخاذل العالم العربي, وتراجع السياسة الفلسطينية خاصة في مواجهة تراجع الحكومات الاسرائيلية عن التزاماتها الشفوية والخطية بمقتضيات عملية التسوية, الأمر الذي أفقد هذه المقتضيات كثيراً من أهميتها وسخونتها التي كانت حافزاً للاهتمام بها في الداخل الإسرائيلي, مما سهّل على حزب العمل الاتجاه يميناً نحو التشدد مع العرب([8]). وقد تأكّد في هذا السياق أن الإسرائيليين بتفكيرهم الاستعماري المادي البحث لا يقيمون وزناً الا لموازين القوى, ولا هم مستعدون لاعطاء أي طرف عربي أية قيمة في حساباتهم السلمية أو الحربية, إلا بقدر ما يثبت هذا الطرف انه يملك فعلياً وتحت الاختبار الميداني من عوامل القوة والقدرة للوقوف بوجه أطماعهم التي لا تقتصر فقط على تخوم المنطقة بل تتعداها إلى أبعد من ذلك بكثير, تماماً كما تفعل الدول الامبريالية ذات النزعة الامبراطورية. ويكفي في هذا المجال ان نتلمس تسلل إسرائيل إلى أعماق القارات في أميركا وأفريقيا وآسيا وأوروبا.
لقد قيل في أعقاب الاعلان الرسمي لنتائج انتخابات الكنيست الخامس عشر الحالي إن خسارة ما كان يسمى لوبي الجولان بزعامة الجنرال المتقاعد افيغدور كهلاني مقاعده الاربعة التي كانت له في الكنيست السابق, وسقوط حزب تسوميت بزعامة الجنرال المتقاعد ورئيس الاركان الاسبق رفائيل ايتان وعدم حصوله على أي مقعد في الكنيست, انما يشكّل مؤشراً إيجابياً لجهة رغبة الشعب الاسرائيلي بعقد صلح مع آخر دولتين عربيتين من دول الطوق وهما لبنان وسوريا, وكان للصوت العربي دور هام ومؤثر في دعم نجاح ايهود باراك كفارس متوهّم من فوارس السلام, ولكن ما تبيّن ان هذا الأخير يمتلك سلّة طافحة بالمناورات والكذب لا تقل عما كان لدى سلفه نتنياهو حتى ان الصحافة الاسرائيلية نفسها أطلقت عليه لقب “باراكياهو” في إشارة إلى ممارسته الاسلوب نفسه والطريقة ذاتها من اللف والدوران والكذب والتردّد, إلى ان كانت الرسالة الواضحة والصريحة التي وجهها الكنيست بأغلبية كبيرة ضد جدية السعي للتسوية والسلام مع كلّ من سوريا ولبنان وسائر بلدان العالم العربي والإسلامي, عندما صوت بأغلبية 61 صوتاً ضد 53 وامتناع نائب واحد عن التصويت لدى تبنيه بقراءة تمهيدية اقتراحاً قدمته المعارضة ودعمته أحزاب مشاركة في الائتلاف الحكومي يفرض حصول أي اتفاق للسلام مع سوريا على أغلبية واسعة لدى طرحه على استفتاء شعبي. ومشروع القانون الذي تم التصويت عليه يدعو إلى حصول غالبية مطلقة من مجمل أصوات المسجلين من الناخبين وليس من الذين ادلوا بأصواتهم فعلاً في الاستفتاء الامر الذي يؤكّد مرّة أخرى بطلان التحليلات المتفائلة التي جاءت فور إعلان نتائج الانتخابات كما أشرنا سابقاً, لأن هذا الشرط يجعل من المستحيل تحقيق أغلبية مطلقة لصالح الانسحاب من الجولان والتمهيد لتسوية سلمية مع سوريا وبالتالي لبنان بصورة طبيعية وعملية.
والملفت ان ثلاثة أحزاب من ائتلاف باراك, وهي حزب شاس لليهود الشرقيين المتشددين (17 مقعداً) والحزب القومي الديني (خمسة نواب) وحزب اسرائيل بعالياه للمهاجرين الروس (4 نواب) قد صوتت جميعاً لصالح مشروع القانون الآنف الذكر([9]). وفي رأي الخبير في شؤون التصويت في إسرائيل آتسير كوهين الذي أدلى به لصحيفة يديعوت احرونوت انه سيكون من اللازم الحصول على أغلبية 62.5 في المئة بالضبط لأن نسبة الممتنعين عن التصويت عادة في إسرائيل تقارب 20 في المئة. وبالتالي فالصيغة الجديدة المقترحة ترمي إلى خنق أي ترتيبات سياسية مع دمشق في المهد, لأنها تلغي عملياً أهمية أصوات مليون عربي اسرائيلي يمثلون 17 في المئة من الناخبين ويؤيدون مبدئياً توقيع اتفاق التسوية مع سوريا.
رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود باراك علّق على النتيجة الأولية التي جاءت كأوّل هزيمة لائتلافه في الكنيست بالقول: “لا يمكن لأي لعبة برلمانية ان تمنع غالبية الشعب من التصويت بضمير”([10]) والتركيز هنا على كلمة ضمير!!
المفارقة القائمة في هذا السياق ان بنيامين نتنياهو, رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق, كان قد منع تبني مشروع قانون مشابه قبل سنة, واقترح الغاء الاستفتاء, الذي تعهّد باراك إجراءه, في حال اقرار ما سماه مشروع قانون “عنصري”. من هنا لاحظت صحيفة يديعوت احرونوت ان مبادرة حزب ليكود الخاصة بمشروع القانون الحالي: “تعتبر مخالفة لأحد أسس الديموقراطية التي تنص على ان من يدلي بصوته هو الوحيد القادر على التأثير في مجريات الأمور”. وعلى الرغم من ان مشروع القانون هذا ما يزال بحاجة لتصويتين آخرين ليصير قانوناً, فإن خسارة باراك تظهر إلى أي حد وصلت الشرذمة الحزبية في إسرائيل وإلى أي حد باتت إسرائيل مفتقدة لعنصر الزعامة الموحدة والقادرة على ضبط الايقاع السياسي عند المنعطفات المصيرية للدولة.


الكاتب في صحيفة هآرتس([11]) ديفيد اربيل رأى في سياق ما حصل ان الكرة الآن في ملعب إسرائيل: “إذ على باراك ان يختار ما بين الانسحاب الكامل مع اتفاق سلام, وبين استمرار الوضع الراهن. صحيح ان سوريا ضعيفة اليوم لكن باستطاعتها ايذاءنا على حدود لبنان, وان تشكّل خطراً أمنياً مستمراً, وان تحول دون مواصلة مسار عملية الاعتراف ما بيننا وبين العالم العربي”. ويعلّق الكاتب على ذلك بالقول: “ان تأمين غالبية لاتفاق يقوم على انسحاب كامل... ليس أمراً بسيطاً... فثمّة احتمال بان يكون من الصعب على الشعب الاسرائيلي الذي سمع ليلاً نهاراً من سياسييه وجنرالاته, بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية, عن الأهمية الستراتيجية للهضبة, وضرورة عدم الثقة بالسوريين, ان يعمد إلى تأييد اتفاق مع سوريا”.
ويحذر الكاتب من ان هذا المنحى المتطرف ضد سوريا الذي تمثّل في التصويت الاخير في الكنيست, من شأنه, ليس فقط أن يبعد التسوية السلمية مع سوريا, بل أن يبعد الاستقرار النفسي والاجتماعي والسياسي عن دولة اسرائيل ذاتها التي ستظهر بمظهر رافضة للسلام ومعرقلة تطبيق قرارات الأمم المتحدة والقوانين الدولية, مما سينعكس سلباً على الأوضاع الداخلية, ولا سيما لجهة تصعيد التوتر في منظومة العلاقات المعقدة والصعبة بين اليهود والعرب. وعلى هذا الأساس يطرح الكاتب السؤال الحيوي والصعب: “هل على باراك في الظروف الراهنة مواصلة المساعي للتوصل إلى اتفاق سلام مع سوريا, أم عليه أن يؤجّل ذلك إلى ما بعد جولة الحرب المقبلة؟” وهذا الوضع من الحيرة والتوتر عبّر عنه وزير البيئة يوسي ساريد من حزب ميرتس الذي توجه بكلامه في إحدى جلسات الحكومة إلى رئيس الأركان الإسرائيلي شاؤول موفاز قائلاً: “على جنرالات الجيش والأجهزة أن يدركوا ان خطتهم في الشمال (جنوب لبنان) لن تؤدي إلى تغيير في الجغرافيا وفي التاريخ تحت ذريعة حزب الله”([12]).
أما يوسي بيلين فوجّه كلامه إلى رئيس الوزراء باراك قائلاً: “ان من أسباب نجاحكم في الانتخابات, ان الشعب الاسرائيلي بعد غروب شمس الكثير من الزعامات والقيادات, بسبب الشيخوخة والركود السياسي بات متعطشاً لرؤية قيادات كاريزماتية جديدة تبعث الحيوية في قيادة الدولة... فلا تخيبوا آمال الشعب الذي وجد انكم آتون من أجل السلام ولا تجعلونا نضيع بين حالة اعتدالكم وبين حالة تطرّفكم... بتنا لا نعرف حدود اعتدالكم, ولا نعرف حدود تطرّفكم ولا أشكال هذا التطرّف”([13]).
على ضوء ما تقدّم يتبيّن مدى الخلل والخطأ الكبير في رهانات الكثير من العرب داخل فلسطين وخارجها عندما حصروا ستراتيجيتهم السياسية في انتظار باراك. وفجأة تبيّن للجميع انه كان عليهم ان يشددوا ويركّزوا في حساباتهم على ما ينتظرونه من باراك بدلاً من انتظاره شخصياً. وعدم الوضوح السياسي والستراتيجي في ظل ولاية باراك الراهنة, قد كشف مدى الحاجة الماسة للمقاومة الوطنية والقومية التي من دونها سيعني ان العالم العربي يواجه حالة فقدان المناعة بوجه الهجمة التدميرية الصهيونية. وعلى هذا الأساس كانت شبكة الحماية العربية للمقاومة في لبنان على مستويي الشعب والدولة, كبادرة يقظة ستراتيجية متأخّرة ولكن في منتهى الضرورة.

تكتيك باراك وأزمة مواجهة لحظة الحقيقة
لقد أسّس ايهود باراك حكومته الائتلافية الحالية على قاعدة “الوحدة الوطنية” المرتكزة على أغلبية يهودية, وأسقط خيار الاستعانة بالاصوات العربية لتوفير الاغلبية المطلوبة, وكرّس بذلك الطبيعة العنصرية للديمقراطية الصهيونية. وكان حزب العمل الذي يتزعّمه باراك نفسه حالياِ قد أضاف إلى برنامجه السياسي منذ العام 1996 عبارة تنص على ان الحزب “يرى في هضبة الجولان منطقة ذات أهمية قومية لدولة إسرائيل([14]) وكان شمعون بيريس قد بدأ منذ ما بعد اغتيال اسحق رابين بإجراء مفاوضات مع حزب مفدال الديني اليميني المتصرف, توصل في أعقابها إلى تفاهمات نصّت على ما يلي: “لا جدال بين حزب العمل والحركة الدينية القومية بشأن حق شعب اسرائيل في أرض اسرائيل, وبشأن حقه القانوني في استيطان كلّ أجزائها”. وهذا التوجه نفسه هو الذي شكّل القاعدة النظرية والعملية للأخبار التي تناقلتها الصحافة الاسرائيلية عام 1999 بشأن احتمال تشكيل حكومة وحدة وطنية مع حزب ليكود الذي لا يفهم التسوية الا من موقع المنتصر تجاه المنهزم.
الا ان التغيير الانقلابي الذي طرأ على أسلوب التعبير السياسي والقطاعي والمصلحي للناخب الاسرائيلي, مهما كان انتماؤه العقائدي أو المذهبي والسياسي, بعد اعتماد اسلوب الاقتراع المزدوج لكل من رئيس الحكومة وأعضاء الكنيست كلّ على حدة, قد أدى إلى نشوء حالات صارخة وفاضحة من الاستقطاب في أسلوب ومضمون التعبير عن المصالح المتضاربة بين المعسكرات المتنافسة بجميع انتماءاتها القومية والعرقية والمذهبية والعقائدية([15]). ومن هذا المنطلق كان تكتيك باراك في تشكيل حكومته الائتلافية قائماً على مراعاة متطلّبات الاجماع القومي قدر الامكان والتي من بين عناصرها عدم الاعتماد على أصوات غلاة المستوطنين من ناحية والعرب من ناحية أخرى.
الا ان الأحزاب الدينية بشكل خاص استغلّت ارباكات باراك وراحت تعمل لصالحها الخاص, بالرغم من وجودها في الائتلاف معه. ولم يستفد باراك من تكتيك توسيع رقعة استناده الحكومي من 18 حقيبة إلى 23 حقيبة بإدخاله أحزاباً جديدة امل أن تسعفه في ساعات العسيرة([16]). وهكذا اجتمع مثلاً كلّ من حزب المفدال الديني الاشكنازي مع حزب اسرائيل بعالياه الخاص باليهود والروس وهو علماني قطاعي مع حزب شاس الديني الشرقي السفارادي, حول دعم مشروع قانون الاستفتاء الشعبي المعارض لإعادة الجولان المحتل إلى سوريا, وذلك في ظل تزايد الخلافات الحادة داخل حكومة باراك بين حركتي ميرتس اليسارية العلمانية وحزب شاس الديني التقليدي. ولا يستبعد المراقبون في إسرائيل أن يكون الزعيم الروحي لحزب شاس الحاخام عوفديا يوسف قد دفع الحزب إلى هذا الموقف انتقاماً للاذلال الذي تعرّضت له حركته عند دخولها الحكومة([17]), بحيث لم يقف إلى جانب باراك سوى حزب ميرتس والأحزاب العربية وحزب الوسط. هذا مع ملاحظة ان الاحزاب, شاس والمفدال وإسرائيل بعالياه, المشاكسة من ضمن ائتلاف باراك كانت هي نفسها المشاكسة في حكومة نتنياهو الذاهبة. وكان المخرج الوحيد المتبقي لدى باراك للتخلّص من أزمته يكمن في تحويل التصويت على مشروع القانون المتعلّق بالجولان من مجرّد تصويت لاقراره إلى تصويت ثقة بالحكومة, فإما ان ينجو من المأزق واما ان تؤدي الخطوة إلى حل الكنيست والحكومة بتصويت شركائه ضد الحكومة([18]). ولكن باراك آثر الانحناء أمام العاصفة معتبراً ان الكبوة التي أصابته يمكن أن تفيده لمواجهة مفاجآت المستقبل.
ان مصرع رابين وسقوط نتنياهو وترنح باراك ما هي سوى مؤشرات ودلائل واضحة على فقدان المجتمع الاسرائيلي بوصلته السياسية. وما المناورات المفضوحة التي يقوم بها رؤساء حكومات إسرائيل المتعاقبون سوى محاولات لترقيع تصدعات الوضع الداخلي الذي يواجهونه بواسطة تنازلات مستفادة من تداعيات الأوضاع ما بين الدول العربية, خصوصاً بعد النتائج المأساوية التي افرزتها حرب الخليج الثاني على جميع أنحاء العالم العربي وخاصة على الساحات الفلسطينية واللبنانية والسورية.


ومن هنا لاحظنا كيف ان باراك عمل على الاستفادة من بعض الاندفاعات العربية في التطبيع, واستخدمها من دون أية كلفة لتأليب قسم من العرب على القسم الآخر في اتجاه الحصول على تنازلات أوسع. ولذلك فهو لم يذهب مثلاً إلى مؤتمر دافوس في سويسرا مؤخراً, حيث كان من المقرر ان يلتقي الرئيس الأميركي وربما ان يعقد لقاء ثلاثياً مع عرفات لدفع المسار الفلسطيني المتعثر وإنهاء إشكالات الاتفاق الانتقالي المتعثّر, وآثر الذهاب إلى مصر حيث استقبله الرئيس مبارك, وأطلق من هناك وفي أثناء مؤتمر صحافي مشترك وباللغة العبرية تهديداته المتوحشة ضد لبنان, ثم كرّر الشيء ذاته أيضاً في الأردن, عاملاً من خلال ذلك على محاصرة الدولتين العربيتين سوريا ولبنان بدول عربية شقيقة هي مصر والأردن. الا ان صمود المقاومة في لبنان على مستوى الشعب والدولة وبدعم سوري قد أدى إلى تظهير هذه الصورة القبيحة لمناورات باراك, فانقلب السحر على الساحر, وبهت باراك عندما شاهد طائرة الرئيس المصري بالذات فهبط في مطار بيروت, ثم كرّت سبحة اليقظة العربية بتدفّق القيادات العربية الشقيقة من كلّ من الكويت والسعودية والجزائر وسواها خاصة بعد تلقي لبنان الضربة الصهيونية الاجرامية ضد بناه التحتية الحيوية وبعد إفشال المقاومة والدولة خطة باراك المتمادية التي كانت تريد ايقاع منتهى الشر والخراب بلبنان وبنيه.
وهكذا نلاحظ ان تضافر الصمود اللبناني والعربي بوجه مخططات اسرائيل العدوانية قد شكّل شبكة حماية ووقاية أقل ما يقال فيها انها عكست مؤمرات اسرائيل على نفسها, بحيث وجد باراك ان لا مناص امامه سوى العودة إلى همومه الداخلية التي لا تعد ولا تحصى خائباً مذموماً, مما حرّك لديه حوافز الرجل العسكري بعد انكفاء حوافزه السياسية المستحدثة, فشكل ما سمي “ترويكا” النار والدم التي ضمته إلى كل من اسحق موردخاي ودافيد ليفي صاحب الصرخات النازية المخزية, بحيث لم يعد يسمع في إسرائيل سوى صيحات الانتقام لستراتيجية خاسرة ولجنود شبان قتلتهم هذه الستراتيجية الفاشلة بالذات.

خلاصة
ان شبكة الحماية العربية التي نشرتها الدول العربية من المحيط إلى الخليج على لبنان في أعقاب ما أصابه من ظلم وأذى بسبب عدوان اسرائيل الاخير على بناه التحتية, في سياق الاعتداءات التي لا تعد ولا تحصى خاصة منذ العام 1978 وحتى اليوم مروراً بجرائم الأعوام 1982 و1993 و1996, قد كشفت وبصورة واضحة كم ان الكيد الاسرائيلي ضعيف وكم ان العرب كانوا يعيشون في أوهام الغطرسة الاسرائيلية, بحيث ان اجتماع المقاومة الوطنية والاسلامية في لبنان مع المقاومة القومية العربية ولو بحدودها الرمزية السياسية أو الدبلوماسية فقط, قد أتت ثمارها الستراتيجية الواضحة من حيث انها فضحت لعبة الحبال التي يمارسها القادة الصهاينة مثلما فضحت هشاشة وركاكة أوضاع العدو الداخلية, الامر الذي تجلى في مسارعة كلّ من مستشار باراك السياسي والامني الجنرال داني ياتوم إلى القاهرة ومسارعة اسحق موردخاي إلى الاردن فقط من اجل ايقاف هذه الصحوة العربية التي لم تكلف العرب سوى زيارات صلة رحم كانت كافية لترغم الاسرائيليين على إعادة حساباتهم في مناوراتهم الفارغة التي انقلبت عليهم تفاقماً في أزمة الحكم والقيادة التي يواجهونها, وزيادة في الشرذمة والمماحكات السياسية بين مختلف زعامات الاحزاب لجهة رسم ستراتيجية سياسية جديدة تنقذ الكيان الصهيوني من تخبطه العسكري والمعنوي ليس في أرض الجنوب اللبناني وحسب, بل أيضاً تجاه دول العالمين العربي والغربي معاً
 

[1] السفير 11/1/2000, حلمي موسى.

[2] مجلة الدراسات الفلسطينية صيف 1999, العدد 39, ص 3 وما بعدها.

[3] مجلة الدراسات الفلسطينية صيف 1996, العدد 27, ص 22.

[4] مجلة الدراسات الفلسطينية صيف 1999, العدد 39, ص 16.

[5] مجلة الدراسات الفلسطينية صيف 1998, العدد 36, ص47.

[6] مجلة دراسات, رقم 30, مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية, الباحث جلال الدين عز الدين علي, الصراع الداخلي في إسرائيل, ص 119.

[7] المصدر نفسه.

[8] المصدر السابق.

[9] أنظر الصحف 2/3/2000, السفير, النهار...

[10] النهار 2/3/2000.

[11] هآرتس 22/2/2000.

[12] نهار الشباب, 29/2/1000, عبد الهادي محفوظ.

[13] المصدر نفسه.

[14] هآرتس 17/6/1996, الخطوط الاساسية لتشكيل الحكومة.

[15] أنظر في هذا الشأن مجلّة الدراسات الفلسطينية صيف 1999, العدد 39, ص 3 وما بعدها.

[16] الاحزاب التي أضيف تمثيلها في الحكومة هي: إسرائيل واحدة, الوسط, ميرتس المفدال, إسرائيل بعالياه.

[17] السير 1 / 3/2000

[18] المصدر نفسه