رحلة في الإنسان

شرود الذهن مرتبط بالمزاج السلبي
إعداد: غريس فرح

كيف نعيش بهجة الواقع؟

من منّا لم يمر بلحظات يفقد خلالها الاستمتاع بما يقوم به أو بما يدور من حوله، والأمثلة على ذلك كثيرة. فأحيانًا نكون ممسكين بكتاب نقرأ صفحاته من دون أن نفقه كلمة واحدة، أو موجودين في مكان يضج بالحضور والمتكلمين، وندرك لاحقًا أننا لم نكن على علم بما يجري. إنها مراحل من عوارض شرود الذهن، حيث يسرح الفكر خارج نطاق الواقع. وهذا يحصل عندما نكون منشغلين بأمور تعيق تفاعل الحواس بطريقة سليمة مع المحيط، فيسرح ذهننا في غياهب الماضي والمستقبل، ونجوب آفاقًا قد تريحنا للحظات، لكنها تحرمنا من خوض تجربة حاضرنا واكتساب الخبرة من وقائعه.

 

أحلام اليقظة والتفكير السلبي
استنادًا الى دراسة تناولت مجموعات كبيرة من الناس، تمّ التأكد من أن شرود الذهن مرتبط بشكل وثيق بالمزاج السلبي. فالضغوط النفسية المزمنة التي يعانيها الملايين من سكان العالم، قد تؤثر في الذهن المثقل بالتفكير بالأشياء المقلقة أو المخيفة، وتنقل الفكر من الإيجابية المترسخة في الواقع، إلى السلبية التي تميل إلى الهروب منه، الأمر الذي يؤثر في التجاوب مع شؤون الحياة اليومية. وعرُف كذلك أن شرود الذهن الذي ينجم عن حالة كهذه، قد يكون مميتًا في معظم الأحيان، من هنا التشديد على ضرورة تنمية الانتباه أو اليقظة الذهنية المعتمدة على التركيز بطرق مختلفة.

 

منافع الانتباه
الانتباه بحسب الدراسات هو دليل على الانخراط الفعلي بالواقع من دون اللجوء إلى تقييمه أو التفاعل معه بطرق سلبية. وهو ما يجلب الراحة النفسية، ويؤمن الصّحة والسعادة.
على هذا الأساس، كتب الباحثون في هذا الحقل مئات المقالات عن منافع الانتباه المبني على أسس التركيز الصحيح، ودوره في تخفيف حدّة الضغوط النفسية، وما ينجم عنها من أمراض جسدّية ونفسيّة. ولم ينس الباحثون الإشارة إلى ضرورة التدّرب على التركيز عبر عدّة آليات، منها على سبيل المثال ألعاب الفيديو والخضوع إلى العلاج النفسي المتخصص في هذا الحقل، إضافة إلى الانخراط في مراكز التدرب على آليات التركيز، وفي مقدمها رياضة التأمل.

 

التركيز والسلام الداخلي
منذ قرون، اكتشفت الحضارات الشرقية القديمة منافع التركيز وأدخلته من ضمن ممارساتها الدينية باعتباره الحّل الوحيد لعذابات الإنسانية. فهو يصّفي الذهن بعدما يبعد التوتر والقلق الناجم عن الأفكار المشّوشة، ويؤمن السلام الداخلي الذي يطيل العمر.
لقد عُرف التدرّب على التركيز الذي اعتمدته هذه الحضارات برياضة التأمل، التي غزت لاحقًا جميع الحضارات وتغلغلت في أنحاء دول الغرب، بعدما أدخلتها العلوم النفسية في سبعينيات القرن الماضي من ضمن العلاجات المعترف بها. وخلال العقود الماضية، وضع الباحثون في هذا الحقل برامج عملية تمنع العقل من الشرود بطريقة تلقائية. والأهم وفق الدراسة التي نشرتها أخيرًا مجلة العلوم الأميركية، هو أن التدّرب على التركيز بانتظام يخفض ضغط الدم، ويجنب الإصابة بالالتهابات المتكررة وخصوصًا التهاب الروماتيزم، لأنه يحيّد البروتينات المسببة للالتهابات (pro inflammatory proteins).
وأظهرت دراسات أخرى أن التركيز يبعد الأمراض التي تسبّبها الضغوط وفي مقدّمها الأمراض الجلدية ومشاكل الأمعاء. إلى ذلك، فهو يؤثر إيجابًا في عمل خلايا الدماغ العصبية، كونه يؤمن سرعة تواصلها، إضافة إلى أنه يحسّن أداء الذاكرة ويوصل ممارسي تقنياته إلى حالة الوعي الذاتي.

 

أهمية الوعي الذاتي
الهدف من التدرّب على التركيز لا ينحصر فقط بالوصول إلى تأمين اليقظة في ما يتعلق بالأمور اليومية. فتقنيات التدريب التي تقدّمها المراكز المنتشرة في غير مكان، وفي مقدمها التأمل، تغيّر طريقة رؤية الذات.فهي تنقلها من مجالها الضيّق إلى آفاق نعبر من خلالها طيّات الأفكار اللاواعية والمشاعر والأحاسيس الكامنة. ومن هنا يمكن القول أن الحضارات الشرقية القديمة كانت على حق في ما يتعلق بالجهود المبذولة من أجل تخفيف عذابات الإنسانية. فالتمارين الروحانية التي اعتمدتها هذه الحضارات هي في الواقع أكثر فعالية من التمارين الجسدية الضرورية أيضًا لصحة النفس والجسد.
فلنعش إذن سعادة اللحظة، ولنستمتع بالابتعاد عن التشويش الذهني والغوص في تفاصيل الماضي أو الشرود في غياهب المستقبل. وهذا يحصل عندما نمسك بزمام أفكارنا ونحصرها في دائرة واقع يوضح معالم ذواتنا ويرسم مع الوقت خطوط مسيرتنا على دروب الحياة.