قصة قصيرة

شرّ البليّة ما يُضحك
إعداد: العقيد الركن إميل منذر

لي صديق قديم أحبّه لصدقه ونزاهته. وقد عُيّن منذ ما يقرب السنة رئيسًا لإحدى الدوائر الحكومية؛ فجئت للسلام عليه في مكتبه من غير ميعاد.
طرقت بابه ودخلت؛ فوجدته جالسًا على كرسيّه خلف طاولة عريضة فخمة تكدّست فوقها الملفّات عن اليمين وعن اليسار. وعندما رآني هبّ واقفًا، واندفع نحوي مصافحًا معانقًا. لكنني ما فتحت فمي بالسؤال عن حاله حتى رنّ جرس هاتف إلى جانبه؛ فرفع السمّاعة وأجاب. وقبل أن ينهي حديثه، رنّ جرس الهاتف الثاني؛ فرفع السمّاعة قليلاً. وأكمل الحديث على الخطّ الأوّل. ثم أنهاه، ورفع السمّاعة الثانية إلى أذنه وأجاب. وبعدما استمع إلى محدّثه للحظة، رفع صوته غاضبًا: «يا أخي، كلّموا الموظّف المعنيّ بهذا الشأن قبل أن تراجعوني». وما كاد يلقي السمّاعة حتى رنّ جرس الهاتف الأوّل من جديد؛ فأجاب: «نعم». وأصغى متوتّرًا، فيما النفخات الخارجة من صدره أصبح لها صوت مسموع. ثم سمعته يقول بهدوء مصطنع: «أشكرك. لكنني لا أريد التقرير منك أنت. إرفعه إلى مساعدي ليدرسه، وهو يطلعني على خلاصته». ثم التفت نحوي وقال: «لا تؤاخذني أرجوك». وما أنهى جملته حتى طُرق الباب، ودخل أحد الموظّفين حاملاً كدسة أخرى من الملفّات؛ فأمر صديقي مشيرًا بيده: «ضعها هنا. وليأتِني أحد بفنجانَين من القهوة. ولا تحوّل لي أيّة مكالمة بعد الآن».
- وإذا كان أحد يريدك لأمر هامّ؟ سأل الموظّف.
- قل له: ليس موجوداً... قدّم استقالته... مات. قل له أيّ شيء. لكن دعوني أستقبل صديقي مثل الناس.
- حاضر.
هكذا قال الموظّف وانصرف؛ فقلت لصاحبي ممازحًا: «هل سمعتَ يوماً بطنّوس الذي في الجيش؟». فابتسم وقال: «لا ». قلت: «طنّوس شابّ طيّب القلب، تقدّم يوماً بطلب تطوُّع في الجيش. وعندما مثل أمام اللجنة، سأله أحد الضبّاط: يا طنّوس. ماذا تفعل لو هاجمك جنديّ عدوّ؟
- أضربه ضربة واحدة فأقتله.
- جيّد. وإذا هاجمك اثنان؟ سأل ضابط آخر.
- أضرب الأوّل، وأرتدّ نحو الثاني. لا يحتاج الواحد منهما أكثر من ضربة واحدة.
- جواب جميل. ولكن إذا هاجمك واحد من اليمين، وثانٍ من اليسار، وثالث من الأمام، ورابع من الخلف؛ فماذا تفعل؟
- أضرب الأوّل بيميني والثاني بيساري. ثم أسدّد للثالث ضربة بقدمي. وأستدير بسرعة، وأسدّد مثلها للرابع.
- أحسنت يا طنّوس. ولكن قل لي: ماذا لو هاجمك عشرون جنديًّا، وقصفوك بالمدفعية والطيران، وزحفوا نحوك بالدبّابات؟
- ما هذا الجيش! أليس فيه غير طنّوس!
عندئذٍ انفجر صديقي ضاحكًا: «والله، إنها المرّة الأولى التي أضحك فيها في هذا المكتب. عليك أن تأتي لزيارتي كلّ يوم».
- وأنت، أيها الصديق، مثل طنّوس. أليس في هذه الدائرة من موظّفين غيرك يا أخي؟... دعهم يساعدوك؛ فيخفّ هذا الضغط عنك.
- موظّفون غيري؟... بلى. هناك الكثير منهم. ردّ صديقي، وابتسامة ساخرة تعلو شفتيه. ثم أردف قائلاً: ولكن ما النفع من كثرتهم؟ عندي موظّف يأتي إلى عمله الساعة التاسعة، وعندما تحلّ الساعة الواحدة بعد الظهر، يصبح كأنه قاعد على جمر. وموظّف، ما طلبتُه مرّة إلا قيل لي إنه يحتسي القهوة في مكتب زميل من زملائه الذين على صورته ومثاله، فيما الملفّات في جوارير مكتبه نائمة نوم أهل الكهف، وقد أكلها العثّ والعفن. وآخَر يدخل عليّ كلّ يوم طالبًا الانصراف باكراً بحجّة أن والدته مريضة، وينبغي أن يستشير لها الطبيب، أو يشتري لها الدواء، أو... يفتّش لها عن عريس، لستُ أدري. وعندما عيل صبري عليه مرّة، سألته: أليس لأمّك أولاد غيرك فيهتمّوا بها مثلك يا أخي؟ أجاب بكلّ بساطة: «بلى. هناك خمسة غيري. لكنّ أحداً منهم لا يستطيع أن يترك عمله ليهتمّ بها». وعندما سألته لماذا لا يستطيعون، أتعرف بمَ أجاب صاحبنا؟
- بمَ؟ قلت.
- قال إنهم جميعًا موظّفون في إدارات ومؤسّسات خاصّة. فإذا غاب أحدهم ساعة واحدة، حسموا عليه أجرها. وإذا كثرت طلباته وتعدّدت غيباته، استُغني عن خدماته وصُرف من عمله. وبما أن أشقّائي فقراء معوزون ولكلّ منهم جيش من الأولاد، فإنهم لا يستطيعون التفريط بوظائف «باسوا» مئة يد ليحظوا بها.
- أما أنت، قلت له، فتستطيع أن تتغيّب ساعة وساعتين ويومًا ويومين، ولا يُحسَم من مرتّبك قرش واحد. أليس كذلك؟
- ألله «يخلّي» لنا الدولة سيدنا. الدولة أمّنا.
- أنت الصادق، الدولة بقرة حلوب. لكن لا أعرف إلى متى ستبقى قادرة على الجود بحليبها ولبنها ما دمنا لا نطعمها ولا نعتني بها.
هكذا ختم صديقي كلامه، وأشاح بنظره نحو النافذة كي لا أبصر لمعان الدمع في عينيه. عندئذٍ قلت له: لماذا لا توقفهم عند حدّهم!؟ لماذا لا ترفع تقارير إلى رئيسك بهم فيحاسبهم أو يوصي بطردهم!؟
- ماذا!؟ أرفع تقارير بهم!... فعلْتُها مرّة بواحد منهم؛ فلو لم يلطف الله بي لنقلوني من هذه الدائرة إلى مكان آخر لا يعلم غير الله أين يكون... لا أحد منهم مقطوع من شجرة، كما يقولون. كلّهم أقوياء مسنودون. هذا واحد لا يعرف كوعه من بوعه، لكنه يخصّ فلان. وذاك راسب في الشهادة الابتدائية، لكن موصى به من فلانة. وذلك لا يردّ على أحد لأنه قريب أحد الوجهاء العظماء في المنطقة. أما أنا وأنت فليس لنا ما يشفع بنا غير شهاداتنا التي متنا وعشنا قبل الحصول عليها.
- لكنها في هذا البلد لا تنفع وحدها. لا بدّ من إرفاق بطاقة توصية من أحدهم بها لتصبح ذات قيمة.
- متى يعرف الموظّف الحكوميّ أن الوقت الذي يقتنصه من الدوام الرسميّ للمنفعة الشخصية، إنما هو يسرقه من الوقت المخصّص للإنتاج العامّ. وهذا الإنتاج العامّ هو للدولة، أي للجميع، ما يعني أن لكلّ مواطن حصّة فيه. وهذه الحصّة تكون كبيرة بقدر ما يكون الإنتاج كبيراً، أو قليلة بقدر ما يكون قليلاً! متى نفهم أن رفاهية المواطن من غنى الدولة، وبحبوحته من بحبوحتها، وفقره من فقرها! متى، متى!
- إلا إذا انعدمت ثقة المواطن بدولته. عندئذٍ يسرقها لاعتقاده أنها تسرقه. ويعتدي عليها لإيمانه بأنها تعتدي عليه.
- هذه مشكلة كبيرة، لا أعرف إن كان المسؤول عنها الشعب أم الدولة.
- أنا أقول كلاهما مسؤول. وعلى كلّ منهما واجب لحلّها.
- ربما كنتَ على حقّ.
- عندي، في هذا الموضوع، حكاية قصيرة. ألديك متّسع من الوقت لسماعها؟
- إحكِها.
- سافرتُ منذ مدّة قريبة إلى أوروبا. وهناك نزلتُ في أحد الفنادق. وصادف أن عدتُ يومًا إلى غرفتي حوالى الساعة الثالثة بعد الظهر، وبيدي قالب صغير من الحلوى؛ فوجدت قبالة بابي موظّفًا في أوائل العقد السابع من العمر، ضئيل الجسم، هزيل الوجه، تبدو على هيئته وملابسه امارات الفقر. وكان يعمل في إزالة ورق جدران الممرّ لإبداله بغيره؛ فبادر إلى إلقاء السلام عليّ؛ فحيّيته. ودعوت له بالعافية. ودخلت. وتركت الباب مفتوحًا خلفي. ووضعت القالب على منضدة. وأتيت بصحنين وشوكتين. وناديت صاحبنا للدخول وتناول قطعة من الحلوى معي. لكنه نظر إليّ وابتسم وقال: شكراً سيّدي. لا أستطيع. فقلت له: أنا حقًّا أودّ أن تشاركني هذه الحلوى التي لا أقدر عليها وحدي. فهلاّ دخلتَ أرجوك. لكنه كرّر عبارته: «أشكرك أيها السيّد. إني صدقًا لا أستطيع». ثم مضى يتابع عمله. فأقفلت الباب. وأتيت على قسم من قالب الحلوى وأنا أفكّر في السبب الذي دعا الرجل إلى الاعتذار عن تلبية دعوتي. قلت في نفسي: ربما كان في حمية عن الحلويات. أو ربما كان قد أنهى غداءه للتوّ وما عاد بمقدوره أن يُنزل في معدته شيئاً من الطعام بعد. أو قد يكون اعتذاره من قَبيل التصرّف اللبق من عامل بسيط تجاه نزيل غريب في الفندق. ولكن ما همّني! ليكن ما يكون.
 بعد ذلك أخذتُ قيلولة حتى الساعة الخامسة إلا قليلاً. وعندما فتحت الباب، رأيت الرجل إيّاه ما يزال يعمل. ولما أشارت عقارب الساعة إلى الخامسة تماماً، توقّف عن العمل وهمَّ منصرفاً. وإذ مرّ بي ورأى بابي مفتوحاً، حيّاني، وسألني مبتسمًا: «هل ما زالت الدعوة قائمة؟». تعجّبت من صراحته، وأجبت: «بكلّ تأكيد». فدخل وجلس. وعندما قدّمت إليه قطعة الحلوى، قال: «هل أستطيع أن آخذها معي لحفيدتي؟». قلت: هذه تأكلها أنت. وتأخذ لحفيدتك قطعة غيرها.
وبينما كان يتناول الحلوى، سألته: لماذا اعتذرت قبل ذلك عن تلبية دعوتي! أجاب: كنت ما أزال حينذاك في دوام العمل، ولا يصحّ أن أقتطع لحسابي الخاصّ بعضاً من الوقت المخصّص لعمل أتقاضى عنه أجرًا. قلت: لو استرحتَ قليلاً لما كان رآك أحد. فأجاب: «لا يا سيّدي. لا أسمح لنفسي بمثل هذا التصرّف الذي يُعتبر في بلادنا عيباً كبيرًا. لا أستطيع أن أفعل ذلك بمَن ائتمنني ووضع ثقته فيّ. عندئذٍ أكبرتُ هذا الرجل، وأثنيت عليه. ثم لففت له ما تبقّى من قالب الحلوى: «هذا لحفيدتك الجميلة يا سيّدي». قال: «لماذا تدعوني سيّدي! ألا ترى ثيابي الرثّة وحالي البائسة!». أجبت: آه لو تعلم أن كثيرين من أهل الأناقة والوجاهة مطارحهم في الخلف، وكثيرين من أصحاب الفقر والثياب العتيقة، جديرون بالصدارة ومقدّمة الصفوف!
- أجل. قال صديقي رئيس الدائرة بأسف، وأضاف: هذا الرجل دوام عمله حتى الخامسة، وتراه يعمل بجدّ وإخلاص، ولا يضيّع من الوقت دقيقة. وفي بلدنا دوام العمل حتى الثانية بعد الظهر في الأيّام العادية، والواحدة أيّام السبت، والحادية عشرة أيّام الجمعة، ولسنا براضين... نحن يا أخي شعب لا يعمل. ولا مَن يحاسب ولا مَن يحزنون.
- قال فورد: «إننا نحتاج بعض الوقت نرتاح فيه إذا أمضينا يومًا من دون عمل». تأمّل هذا الكلام.
- يا لهذا القول ما أبلغه!
- واسمع ما يقول المثل العربيّ.
- ماذا يقول؟
- إذا أتتك رغبة في العمل، استرخِ قليلاً، لعلّ الرغبة تزول.
عندئذٍ ضحك صديقي ضحكة عالية. واستمرّ يضحك حتى دمعت عيناه. حقًّا، إن شرّ البليّة ما يُضحك.